فيلم “لورو”: باولو سورنتينو وتصفية الحساب مع بيرلسكوني
في هذا المقال نتوقف أمام فيلم “لورو” أحد أفلام المخرج الإيطالي المرموق باولو سورنتينو صاحب التحفة الفنية الكبرى “الجمال العظيم”، والذي يقدم فيه صورة تفصيلية داخلية مشوبة بالسخرية لشخصية رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو بيرلسكوني.
ينتمي المخرج الإيطالي باولو سورنتينو مع زميله ماتيو غاروني، إلى الجيل الأحدث في السينما الإيطالية، الجيل الذي ورث الواقعية الجديدة، ولكنه تأثر أيضا بسينما الساحر الكبير فيلليني.
ويمكن اعتبار فيلم سورنتينو الجديد “لورو” Loro(2019) ومعناها “هم” والعنوان الفرعي للفيلم “سيلفيو والآخرون”، استمرارا لنهجه السابق في فيلم “الديفو” (2010) الذي كان يتناول شخصية رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق ماريو أندريوتي، ولكن الخلاف الأساسي بين الفيلمين يكمن في الاختلاف الكبير بين أندريوتي وبيرلسكوني. فالفيلم الجديد يبدو أقرب ما يكون إلى بورتريه شديد السخرية حد الكاريكاتورية أحيانا، وكثيرا ما يجنح رغم بعض التعاطف أحيانا مع بطله، إلى استخدام المجاز والاستعارات التي تقارب بين التدهور الأخلاقي والولع الشخصي الخاص لدى بيرلسكوني بعالم الجنس (في الفيلم كثير من المشاهد التي تصور حفلات الجنس الجماعي وتعاطي المخدرات والعري والاغواء.. الخ) وبين انهيار الدولة الإيطالية نفسها وسقوطها بين أيدي أشخاص لا يهمهم سوى ما يحققونه من مكاسب شخصية كما يفعل بيرلسكوني، مستغلا سلطته ونفوذه السياسي وذراعه الإعلامية الضخمة وتوظيفها لخدمة مآربه مع حظر كل ما يمكن أن يوجه النقد لسياساته بل وشخصه من قنواته التليفزيونية.
التآمر للعودة إلى السلطة
أخرج سورنتينو “لورو” مستوحيا “الساتيريكون” الروماني أو الرواية التي تمتلء بالإشارات الإيروتيكية والأشعار وصور التدهور والفجور في مزيج ساخر كوميدي، ولاشك أنه كان متأثرا بـ”ساتيريكون فيلليني” الذي استخدام الساتيريكون الروماني لتصوير تدهور وانهيار الإمبراطورية الرومانية بأسلوبه الخاص.
وقد صور العمل في فيلمين منفصلين عرضا على جزئين في إيطاليا، ثم ضمهما معا مستبعدا نحو 50 دقيقة، والنتيجة هي النسخة المتداولة عالميا التي تقع في 150 دقيقة. ويحرص سورنتينو على أن ينص في بداية الفيلم على أن “الفيلم الذي ستشاهدونه هو تصوير حر لمؤلفيه، وأي تشابه مع شخصيات حقيقية هو محض مصادفة”.
سورنتينو وشريكه في كتابة السيناريو أومبرتو كونتاريللو (شاركه أيضا كتابة سيناريو “الجمال العظيم” و”البابا الصغير”) لا ينفيان أن فيلمهما يصور بيرلسكوني لكنهما يوضحان أن هناك شخصيات أخرى مختلقة، أولها وربما أهمها، شخصية “سيرجيو مورا”.
رمز الخروف
حتى الدقيقة الأربعين من الفيلم لا يظهر بيرلسكوني لكن الإشارات والأحاديث كلها تتجه إليه. ويبدأ الفيلم بمشهد سيريالي لفيلا بيرلسكوني الواقعة في جزيرة سردينيا، أو قصره الكبير المنيف. يتسلل خروف من تلك التي تمرح في حدائق القصر، الى القاعة الرئيسية، يتوقف عند المدخل، يتطلع إلى شاشة تليفزيون عملاقة تعرض برامج التسلية والإعلانات التجارية والواضح أنها من شبكة بيرلسكوني التليفزيونية. يرتفع صوت جهاز التكييف. تهبط درجة الحرارة. يرتجف الخروف ويتسمر في مكانه.. يمأمئ وكأنه يشكو ويحتج وفجأة يسقط على الأرض ميتا. كان الخروف دائما رمزا بارزا في روما القديمة. وكان معادلا لإله يدعى “فونوس” هورمز الفحولة الجنسية. والمعنى الكامن الذي ربما يقصده سورنتينو هو موت الفحولة ومع ذلك يستمر بطله (بيرلسكوني) في البحث عن المتعة الجنسية.
الجشع للسلطة هو دافع الشخصية
إلا أن بيرلسكوني لايزال يتطلع للعودة الى السلطة. ولايزال يأتي إليه كبار السياسيين الراغبين في الفوز والوصول للسلطة. وأحداث الفيلم، تدور في الفترة ما بين 2006 و2008 أي بعد خروج بيرلسكوني وتطلعه للعودة مجددا وهو ما سيحدث في 2009 للمرة الأخيرة قبل أن يرغم على الاستقالة بعد إدانته بالتهرب الضرائبي.
بعد مشهد الخروف ينتقل الفيلم إلى “سيرجيو” وهو رجل أعمال وقواد أنيق وجذاب، يتطلع لدخول عالم السياسة، لذلك فهو يرغب في الوصول إلى الرجل الذي لا يراوده شك في أنه سينجح في العودة مجددا إلى السلطة. لذلك يستأجر منزلا قرب قصر بيرلسكوني في سردينيا، يحشد فيه نحو ثلاثين فتاة ممن تتمتعن بأجساد ممشوقة مثيرة، ويغرقهن في بحر من المخدرات، ويقيم لهن الحفلات الراقصة حول حمام السباحة، يتجردن خلالها تقريبا من ثيابهن، والغرض: لفت أنظار بيرلسكوني إلى اللحم الأنثوي المثير. وينجح أخيرا فما يرمي إليه.
صورة بيرلسكوني في الفيلم قريبة من صورة زعيم مافيا لكن نقطة ضعفه هي النساء والجنس. والحياة التي يحياها مع صحبته، هي بالمعنى المباشر “الحياة الحلوة” عنوان اسم فيلليني الذي يتردد على لسان سيرجيو في الفيلم، والمقصود حياة اللهو والترف والمتع الحسية.
قدرات البائع الشاطر
وجه بيرلسكوني حسب تعبيرات بطل سورنتينو المفضل، الممثل توني سيرفيللو، يتجهم أحيانا، ويقسو أحيانا أخرى، لكن الابتسامة لا تفارقه معظم الوقت، دون أن نعرف ما إذا كانت تنم عن طيبة ووداعة، أم عن خبث ونذالة وعما يضمره من شر، فهذه المشاعر المتضاربة أصيلة في تكوين بيرلسكوني. أما أهم صفاته التي يذكره بها شريكه في “البيزنس” أنه “بائع شاطر”، يعرف كيف يبيع الأحلام، ولابد أن يتمكن من إقناع 6 من أعضاء البرلمان في الانضمام إلى كتلته الحزبية لضمان النجاح، ولكن يتعين عليه أن يقدم لهم مقابلا ماديا ولا يكتفي بالأحلام الكاذبة.
وفي واحد من أفضل مشاهد الفيلم من حيث تصميم الحركة والأداء والحوار، يقرر بيرلسكوني التأكد من أنه لايزال قادرا على “بيع الوهم” كما اعتاد أن يفعل باعتباره تاجر عقارات في الأساس (ألا يذكرنا هذا بتاجر عقارات آخر يجلس في البيت الأبيض الآن؟). وهو يلتقط رقم هاتف على نحو عشوائي من دليل الهاتف، ويتصل في منتصف الليل بصاحبة الرقم، يتقمص دور مندوب مبيعات لشقق سكنية في روما، يعرض ببراعة وتشويق كل المزايا، وبعد أن كانت السيدة تتشكك في نواياه، تصدقه ثم تتشبث بالفكرة وتبدي استعدادها للشراء حتى لو كان الثمن مرتفعا فيمكنها بيع شقة تمتلكها أمها.
طموح القواد الساعي للتسلق السياسي
وفي المشهد الذي يدور مع حفيده في حدائق القصر، يستنكر الطفل أن يدوس جده على فضلات حيوان كانت موجودة على الأرض، لكن بيرلسكوني يصر على أنه لم يدهسها بقدمه، لكن الحفيد يصر أيضا صحة ما شاهده بعينيه، فيروي له بيرلسكوني أن اسحق نيوتن قال إن “السطح الخارجي للأشياء يخدع الأغبياء فقط”، ثم يشرح له فكرة خداع البصر، إلى أن يقتنع الصبي، فيعلق بيرلسكوني: أهم شيء أنك صدقت الكذبة!
أول ظهور لبيرلسكوني في الفيلم يأتي في مشهد غريب فنراه مرتديا ملابس النساء، يسدل قناعا فوق وجهه، ويتجه عبر السلالم الى زوجته فيرونيكا، يريد أن يقدم لها التحية في عيد ميلادها، لكنها تبدي نفورا واستهجانا من سلوكه الغريب، وعندما يكشف عن وجهه نراه ملطخا بالأصباغ. وهو يتحرك دائما مع مساعده “باولو سبانولو” الذي تصفه فيرونيكا بأنه الشريك الثالث معهما “فسيلفيو لا يحب أن يكون ضمن اثنين”!
أزمة الزواج
وبينما يختفي سيرجيو تقريبا من الجزء الثاني من الفيلم فيما يمكن اعتباره خللا واضحا في البناء نتيجة الاختصار الذي تم في المونتاج، يبرز كثيرا دور فيرونيكا التي تعرب عن استيائها من زوجها وشعورها بالسأم ورفض خياناته المنتظمة لها وما تصفه بأنه غشه وخداعه للناخبين الايطاليين، وتدين تكالبه على تحقيق الثروات، وتفاهة قنواته التليفزيونية (التي لم تقدم برنامجا ثقافيا واحدا) وأنه لولا مساعدة بتينو كراكسي له لما حقق نجاحا سياسيا، ثم كيف أنه رشح فتيات (عاهرات) للبرلمان الأوروبي. وتصارحه برغبتها في الطلاق.
فيرونيكا في الفيلم مثقفة وفنانة تجيد أعمال النحت لكن بيرلسكوني لا يعيرها اهتماما ويقلل من شأنها، ويصر على أنه لولا “ثروته لما كانت تتمتع بهذا المستوى من العيش” ويتحداها أن تشرح له لماذا لم تتخلى عنه مبكرا طالما هو منفر وسيئ. وهو سؤال لا تجيب هي عنه. والمعروف أن فيرونيكا، الزوجة الثانية لبيرلسكوني، أنجبت له ثلاثة أبناء، وفي 2012 حصلت بالفعل على الطلاق وحكم القضاء بأن يدفع لها بيرلسكوني 48 مليون دولا سنويا كتعويض.
المخرج سورينتينو وبطله توني سيرفيللو
يتميز “لورو” بصورته الناعمة، وحركة الكاميرا الطويلة، التي تشيع أجواء حلم تتقاطع مع الكوابيس. وربما يحتوى الفيلم على أكبر كم عرفه فيلم إيطالي من الفتيات المثيرات بأجسادهن شبه العارية في مشاهد الرقص والاستعراض والغناء (بيرلسكوني نفسه يغني في أكثر من مشهد) ويستمع الى الشعر كما يلقي الكلمات الشعرية المبتذلة العادة (من تقاليد الساتيريكون أيضا) إلا أن هذا الاتجاه ينحرف بالفيلم ويجعله يبدو مثل “الإعلانات الاستهلاكية” أو الأغاني المصورة “الفيديو كليب”، خاصة أن الحبكة لا تتطور، ويختفي كثير من الشخصيات الثانوية، وتبدو تفاصيل كثيرة غامضة على المتفرج الذي لا يعرف الكثير عن كواليس السياسة الإيطالية.
يبدو تأثر سورنتينو بأسلوب فيلليني في كثرة استخدامه لقطات “الكلوز أب” القريبة للوجوه المختلفة، مع الكثير من “الانتقالات المفاجئة” jump cutsالغير مبررة والتي لا تتسق مع سياق المشهد، لكن هذه اللقطات لا تحاكي لقطات فيلليني في كونها لا تستعرض غرابة الوجوه والشخصيات والنساء السمينات والتشوهات الظاهرية في الوجوه بفعل الماكياج المبالغ فيه، والقبح الذي كان يجد فيه فيلليني جمالا، لكن لا شك أن هناك احتفاء كبيرا بالمكان، بالديكورات الباذخة، والصور القريبة من عالم الأحلام والكوابيس.
أوهام للبيع
هناك مثلا مشهد احتفالي صاخب تتساقط في نهايته كمية ضخمة من الحبوب المخدرة الملونة من السماء على المحتفلين، ومشهد آخر تنفجر فيه شاحنة قمامة فتلقي بمحتوياتها فوق رءوس الطبقة العابثة الماجنة. ويسخر الفيلم من بيرلسكوني الذي يزور منطقة الزلزال الذي وقع في لاكيلا عام 2009 وأدى الى مقتل 300 شخص وتشريد 70 ألف من سكان المدينة الذين انهارت منازلهم، وهو الحدث الذي استغله بيرلسكوني دعائيا كما صورته المخرجة الإيطالية البارعة سابينا غوزانتي في فيلمها التسجيل البديع “دراكيلا: إيطاليا تهتز” (2010) من أجل استعادة شعبيته المتراجعة. وقد تعهد بيرلسكوني وقتها بتوفير مسكن لكل أسرة بحلول الخريف، وقال إن كل شقة ستكون مفروشة بالكامل وفيها “كعكة كبيرة وزجاجة شمبانيا في الثلاجة”، لكن سورنتينو يجعله يكتفي بإرسال “طاقم أسنان بديل” لسيدة مسنة فقدت طاقمها خلال الزلزال!
بيرلسكوني كما يصوره سورينتينو، محتال، نصاب، زير نساء متهالك يحب الفتيات الصغيرات، عجوز متصابي، يستغل نفوذه السياسي لخدمة امبراطوريته المالية وشركاته المتعددة، لا يتورع عن استخدام العنف والتلويح به ضد خصومه، لكنه أيضا ضحية خصوم سياسيين شرسين يتربصون له ويسعون لتدمير سمعته، ومجموعة من القضاة يتحينون الفرصة لدمغه بالفساد وحبسه، وزوجة تتمرد عليه بعد كل ما وفره لها من مظاهر الثراء.
متعة الأداء كفيلة بانقاذ الفيلم
يظهر بيرلسكوني في معظم المشاهد من زوايا تصوير منخفضة لإبراز قوته وشخصيته المهيمنة بكاريزمته المعروفة، وهو يلقي بالنكات المبتذلة التي تضحك المنافقين من حوله، يمسك الميكروفون فجأة ويغني ويفرض أن يستمع إليه الجميع، تتطلع إليه النساء بإعجاب كبير. وعلى الرغم من ذلك يعاني فيلم “لورو” من السقوط في نفس ما ينتقده، أي جعل المتفرج ينبهر بالعالم الملون الزائف الذي ينتقده.
“لورو” ليس أفضل أفلام سورنتينو رغم انه لايزال يحمل طابعه وأسلوبه. ولكنه رغم أي ملاحظة سلبية، يظل عملا جديرا بالمشاهدة، على الأقل، للاستمتاع بالأداء البديع لبطله “توني سيرفيللو” المتألق دائما.