فيلم “كازابلانكا”: هل أصبح تراثا إنسانيا؟


من مدينة غرناطة الاسبانية كتب محمّد الخطّابي لجريدة “القدس العربي” بتاريخ 18 يوليو، المقال التالي عن فيلم “كازابلانكا” الشهير الذي يعد احد أشهر الأفلام الرومانسية في تاريخ السينما بمناسبة مرور سبعين عاما على ظهوره حينما عرض للمرة الأولى عام 1942…

 الفيلم الأسطوري الذي يزيده مرورالأيّام إشعاعا وتالّقا، وبهاء ورونقا “كازابلانكا” الذي قام ببطولته همفري بوغارت، وإنغريد بيرغمان والذي عرض لأوّل مرّة عام 1942 ما زال يلهب مشاعر المشاهدين، وعشّاق الفنّ السابع في مختلف أنحاء العالم، وينال إعجاب الناس وإقبالهم عليه بشكل ليس له نظير في مختلف فنون الخلق والإبداع الأخرى، حتى أصبح هذا الفيلم في عرف النقّاد، و صنّاع السينما، والمغرمين به بمثابة كتاب السينما المقدّس في تاريخ هذا الفنّ الساحر الجميل.


يتساءل الناقد السّينمائي الإسباني خابيير كورتيخو كيف يعقل أن فيلما كتب بطريقة عفوية إرتجالية، قد تحوّل إلى ‘كتاب السينما المقدّس’، وكيف يمكن لفيلم ولد من رحم عمل مسرحي، إذ هو مستوحى من مسرحية ‘ الجميع يؤمّ مقهى ريك ‘لموراي بارنيت وجون أليسون أن يتحدّى مرور الزمن، وأن يتأقلم مع مختلف تقاليع الموضة، والتيّارات والميولات المستجدّة والمتواترة، بل وحتى مع بعض التأويلات الملتوية ليخلد في ذاكرة تاريخ السينما في العالم..؟

كيف أمكن لموسيقاه أن تظل خالدة ولايمرّ عليها الزمن..؟ و كيف أمكن لنبل المشاعر، ونبض الاحاسيس التي تترى بدون رتابة أو ملل في هذا الشريط وأن تظل نصب أعيننا إلى اليوم..؟

كيف أمكن لوجه إنغريد بيرغمان أن يظلّ مشعّا وضّاء، سمحا وساحرا على مرّ السنين..؟

الأمر يبدو كما لو كان قد مسّته مسحة أو مسّ من سرّ أو سحر، أو غلفته معجزة مّا . ماذا وراء هذه الفرجة لمرئية الحالمة المثيرة..؟ هذه الميلودراما التي تحفل بالومضات والجمل التي لايمكن محوها من الذاكرة، والتي لا نتعب أو نملّ من مشاهدتها أو تردادها المرّة تلو لأخرى. ربما هذا هو السبب الذي حدا بالعديد من النقاد والمشتغلين بالسينما في العالم عند حديثهم عن هذا الفيلم، وعن النجاحات الكبرى المتوالية التي حصدها على امتداد العقود السبعة التي مرّت عليه، إلى القول ان هذا الفيلم قد أصبح في عرفهم “تراثا إنسانيا للبشرية جمعاء”.
 


إجتماع الأضداد
يعتبر فيلم “كازابلانكا” من أجمل الأفلام الفريدة في تاريخ السينما الأمريكية التي جسّدت الرومانسية الحالمة لقصّة حبّ عارمة إبّان الحرب العالمية الثانية، وقد جمع الشريطبين نعومة ورقّة إنغريد بيرغمان، وخشونة وغلظة همفري بوغارت، وأصبحت العديد من الجمل والتعابير التي نطقها البطلان في الفيلم تشكّل إرثا حيّا في الثقافة اللغوية الشعبية داخل أمريكا وخارجها، مثل عبارة “إعزفها يا سام” أو عبارة: “دائما تبقى لنا باريس”، دخلت هذه الجمل والتعابير واستقرّت في لغة الإستعمال اليومي في العالم الناطق باللغة الإنكليزية، وسواها من اللغات الأخرى. وأصبح لها كيان أو هويّة لغوية ذات دلالات خاصة بها بعيدا عن سياق استعمالها في الشريط، ففي مناسبتين مختلفتين ومتباعدتين من الفيلم يطلب البطلان من ‘سام’ (ديلي ويلسون) كل واحد منهما على انفراد عزف نفس المقطوعة الموسيقية الساحرة (إنسياب الزمن أو مروره) على ‘البيانو‘ الذي يتوسّط مقهى ‘ريك’ في قلب مدينة الدار البيضاء المغربية، ففي المناسبة الأولى تطلب البطلة (بيرغمان) من “سام” العزف كما ترجو منه بأن يغنّي استذكارا واستحضار اللزمن الجميل الذي ولّىّ وانقضى ولن يعود.

وفي مناسبة أخرى يطلب البطل (بوغارت) من سام عزف المقطوعة ذاتها حيث قال له وهو يستشيط غضبا: ‘لقد عزفتها لها، والآن عليكأن تعزفها لي أنا كذلك، إذا كانت قد استطاعت أن تتحمّل ثقل الوطأة عليها، فأنا بمقدوري أن أتحمّل ذلك أيضا’. ثم تنطلق الموسيقى تصدح في فضاء المقهى الكبير.
 


دائما تبقى لنا باريس
ومن أشهر العبارات التي ما فتئت تستعمل جيلا بعد جيل وتلوكها الألسن حتى اليوم عبارة: “ودائما تبقى لنا باريس” التي تستعمل كناية عن اللحظات الحلوة، و الهنيهات السعيدة المعاشة، وهي العبارة التي ينطق بها ريك'(بوغارت) الى إلسا (بيرغمان) عندما يهمّ لوداعها معبّرا عن حسرته وألمه لفراقها، لفراق هذا الحبّ المستحيل الذي نما وترعرع في فرنسا في ظروف وملابسات صعبة ومريرة إبّان غزو النازيين لهذا البلد حيث تعرّف البطل على خليلته في عاصمة النور باريس. وكانت ‘إلسا’ تشعر بالحيرة والضياع بين حبّها لزوجها زعيم المقاومة التشيكية وتعلقها بريك.


معهد السينما الأمريكية أثبت في مناسبات شتّى (6 مرّات) فيلم “كازابلانكا” ضمن قائمته كأحسن الأفلام التي تضمّنت أجمل العبارات، وأرقّ الجمل في تاريخ السينما الامريكية وفي مقدّمتها عبارة “إعزفها يا سام” بل إن المخرج ‘ودي آلن’ قد وضع فيلما عام 1972 يحمل عنوانا بنفس هذه العبارة ،حيث يتلقّى البطل في هذا الشريط النصائح من ‘همفري بوغارت’ خيالي. إلا أنه أوردها كما يلي: “إعزفها مرّة أخرى يا سام”.
 

قصيدة حبّ مصوّرة
“كازابلانكا” كان يبدو في البداية كشريط يدور موضوعه عن الحرب والجاسوسية لإثارة الحماس وتأصيل وبثّ حبّ الوطن لدىالمواطنين الأمريكان في زخم الحرب العالمية الثانية، حيث يظهر البطل (بوغارت) وكأنّه  في البداية لا يريد أن يحشر نفسه في هذا النزاع إنطلاقا من مدينة الدار البيضاء (كازابلانكا) إلا أنه في الأخير يتخلّى عن محبوبته لصالح مناهضة الفاشية.


على الرغم من مضمون الشريط الأيديولوجي ومحتواه الحربي إلا أنّ فيلم  “كازابلانكا” يتذكّره الجميع كفيلم يدور موضوعه عن الرومانسية وتباريح الجوى والصبابة والحب الحالم، وكانّ الفيلم قد غدا قصيدة حبّ مصوّرة يحفظها العشّاق عن ظهر قلب (وعن ظهر عين) من جيل إلى جيل في مختلف أنحاء المعمور. فلا عجب إذن إذاإحتلّ هذا الفيلم الرتبة الأولى في قائمة المعهد الامريكي للسينما كأعظم قصّة حبّ في تاريخ السينما الأمريكية.


كما يحتلّ هذا الشريط المرتبة الأولى كذلك كأحسن سيناريو سينمائي حسب نقابة كتّاب السيناريو في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد تفوّق “كازابلانكا” حتى على أفلام عالمية شهيرة مثل “العرّاب” و”شينا تاون” و’مواطن كين’. هذا الشريط الذي هو من إخراج مايكل كرتيز حصد ثلاث جوائز الأوسكار منها أوسكار كأحسن فيلم، وأحسن إخراج، وأحسن سيناريو، حتى وإن لم يحصل أيّ من الممثلين العمالقة الذين شاركوا فيه على هذه الجائزة الكبرى في عالم الفنّ السابع.


وبمناسبة مرور سبعين سنة على هذه التحفة السينمائية الرائعة هذا العام 2022  أقيمت في الولايات المتحدة الأمريكية مؤخّرا فعاليات الاحتفال بالذكرى السبعين لعرض فيلم كازابلانكا لاوّل مرّة عام 1942 بتقديم هذا الشريط في مسرح وارنر التابع للمتحف التاريخي الأمريكي بواشنطن. كما أخرجت مؤسّسة ‘وارنر بروذرز’ طبعة خاصة جديدة محدودة من هذا الفيلم وطرحتها في مختلف المدن الامريكية مصحوبة بشريطين وثائقيين حوله يتمّ عرضهما في الأسواق لأوّل مرّة كذلك، بالإضافة إلى كتيّب فنّي يتضمّن صورا ومشاهد لم يسبق رؤيتها من قبل حول هذا الفيلم.



مقهى ريك يفتتح أبوابه
المقهى الأسطوري ‘ريك’ الذي دارت بداخله أحداث فيلم كازابلانكا العاطفي المثير لم يعد خيالا في مخيّلة المشاهدين الذين شاهدوا واستمتعوا بهذا الفيلم الأمريكي منذ سبعين سنة خلت والذي ما زال يعيش بين ظهرانينا حتى اليوم، بل إنّ هذا المقهى قد أصبح حقيقة ماثلة نصب أعيننا بعد أن قرّرت مواطنة أمريكية تدعى كاثي كريغر عام 2004 افتتاح مقهى كبير في قلب مدينة الدار البيضاء يحمل إسمالمقهى الرومانسي ‘ريك’ الذي كان يمتلكه ويديره في فيلم كازابلانكا مواطن أمريكي وهو بطل الفيلم ريك (همفري بوغارت). وكانت هذه المواطنة الأمريكية تعمل من قبل بسفارة بلادها في المغرب، وبعد انتهاء مهمّتها في السلك الدبلوماسي قررت القيام بهذه المغامرة الإستثمارية الكبرى التي كلفتها ما يناهز المليون دولار.


المقهى الذي رآه المشاهدون في الفيلم كان قد أقيم في الحقيقة في أحد إستوديوهات هوليوود.. وكان   السيّاح الأوروبيون وبشكل خاص الأمريكان الذين يزورون الدار البيضاء لا يجدون أثرا لهذا المقهى للإستمتاع بأجواء هذا المكان الامريكي السحري الحالم الذي رأوه في فيلم كازابلانكا وهاموا به، وها هي ذي الأسطورة تصبح حقيقة وها هو ذا مقهى ‘ريك‘ الجديد قد عاد وفتح أبوابه مرّة أخرى على نفس شاكلة المقهى القديم، محتفظا بأجوائه ورونقه وبهائه، وأصبح يؤمّه العشرات من الزوار كل يوم، ولا عجب إذا كان معظم زوّاره أو روّاده في المقام الاوّل من المواطنين الأمريكان، كما يؤمّه زوّار من جنسيات أخرى من مختلف أنحاء العالم.

Visited 21 times, 1 visit(s) today