فيلم “غزية” لنبيل عيوش.. الشياطين تتبادل قمصانها مع الملائكة

ظهر فيلم “غزية” للمخرج نبيل عيوش، بعد فيلمه الصادم “الزين اللي فيك”، والذي اصطدم بجدار المنع بعد أن أثار زوبعة من السجالات الحادة مما تسبب في الكثير من حالة الذعر والهلع للمخرج ومعه طاقم الفيلم، ومنها الكثير من التهديدات بالتصفية. خاصة الممثلة الرئيسية. التي تعرضت للاعتداء الجسدي، وعرضت ذلك على اليوتيوب.

حالة الذعر والهلع هذه، هي الأساس النفسي الذي بني عليه موضوع فيلمه “غزية” Razzia. وهو الترجمة الفرنسية لكلمة غزوة. ويبدو واضحا أن الكلمة بالفرنسية أصلها عربي. ويبدو أيضا أن اختيار المخرج للعنوان غزية، المأخوذ من الفرنسية، بدل غزوة، كان الهدف منه التمويه والتحايل لتجنب الاصطدام مع المسلمين. فالواضح أن المخرج يعرف أن وضع العنوان غزية كعنوان بالعربية خطأ. وأن الصحيح هو غزوة، فالنطق العربي السليم لكلمة Razziaهورزية. وهي النكبة والبلاء.

عرفت الغزوة عند العرب بالحرب، حتى قبل الإسلام. وقد تم اختيارها كإشارة لصعود التيار الإسلامي الموسوم بالفكر الرجعي الجامد ـ في نظره ـ إلى سدة الحكم لمحاربة تيار الحداثة والعصرنة. ومن ضحايا هذه المحاربة، فيلمه “الزين اللي فيك”. فصورة مظاهرة الإسلاميين، هي التي تم إختيارها لملصق الفيلم الموزع في المغرب. وقد كتب عليها العنوان “غزية” بالخط العريض.

وحالة الهلع والرعب أيضا، هي المحرك النفسي الذي يستمد منه الفيلم ديناميته التعبيرية خاصة لشخصيتيه الرئيسيتين: عبد الله الأستاذ، وسليمة. ويتقمص كل منهما (إيديولوجيا) قميص المخرج: عبد الله في مرحلة 1982. وسليمة 2015. والرابط السردي بينهما هي شخصية إيطو وإبنها إلياس. فهي عشيقة عبد الله سنة 1982. وصديقة سليمة سنة 2015. والرابط الموضوعي هو تلك الحالة من التوتر والذعر التي تجتاحهما من جراء الموقف الذي يضعهما فيه الفيلم.

يفرد الفيلم مساحة ضئيلة لشخصية عبد الله، (موضوع الأمازيغية). مقارنة مع المساحة الكبيرة التي يفردها لسليمة (موضوع الإسلاموية). فعبد الله أستاذ في منطقة قروية أمازيغية سنة 1982، لا يمكنه التفاهم مع أهلها إلا باللغة الأمازيغية (حسب الفيلم). يفاجأ ذات يوم بقدوم مفتش مبعوث من وزارة التعليم، يفرض عليه إيقاف إستعمال اللغة الأمازيغية في التحاور مع التلاميذ، واستعمال العربية فقط. اللغة الرسمية ولغة القرآن، كما يقول المبعوث. يتلعثم التلاميذ كثيرا لمجرد سماعهم اللغة العربية. وحرمانهم من لغتهم الأصلية. يتضايق الأستاذ من هذا التلعثم. ويضطرب نفسيا ويتوتر كثيرا فلا يجد ملاذا سوى المغادرة.

ينتقل بنا الفيلم إلى سليمة سنة 2015، وهي تعبر الشارع متقاطعة في سيرها مع مظاهرة تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية تجاه المرأة، لمجموعة من الإسلاميين المتعصبين، رجال بلباس فضفاض. ونساء بالحجاب والنقاب. بينما ترتدي هي لباسا خفيفا يظهر الكثير من جسدها. وجوه المتظاهرين تبدو شاحبة مكفهرة متشنجة. كأنها مشحونة بالعدوانية. تشعر سليمة بتوتر وفزع شديدين، تذهب إلى البحر في قمة توترها وحنقها. لتتطهر من تلك الحالة النفسية.

من حيث الموضوع العام للفيلم، يربط المخرج سليمة كشخصية مرفوضة بمجموعة شخصيات إضافية مرفوضة أيضا. فبإستثناء المراهقة المتحررة. التي ظهرت عليها سمات الشذوذ الجنسي، وبدأت تتحول إلى الحالة السوية. ويقدمها الفيلم على أنها مستقبل المغرب، هناك جوزيف المرفوض لأنه يهودي. ثم المغني المرفوض لأنه يغني أغاني فريدي ميركوري الشاذ جنسيا.

على مستوى البناء العام للفيلم، يبدو أنه غامر بتبني مجموعة مواضيع في مجموعة من الشخصيات. ويبدو أنه لم يوفق، بحيث أولا: كان مشتتا وسط تعدد شخصيات تواجه جدار الرفض. وهو المعادل الرمزي للرفض والمنع الذي تعرض له فيلمه السابق “الزين اللي فيك”، من طرف الحكومة ذات التوجه الإسلامي، والتي اختارها الشعب المغربي. ثانيا: كان يتضمن موضوعان قائما الذات: موضوع التعدد اللغوي. وموضوع العصرنة والحداثة في مواجهة الجمود الفكري.

بعد مشاهدتي للفيلم، لاحظت بسهولة هذا الشرخ الحاصل على صعيد القصة. ولم أجد إلا سببا واحد يمكن أن يدفع المخرج ليقدم فيلمه الحامل لهذا الشرخ ـ وهو المعروف بالتمعن في أدق التفاصيل، وبتمكنه من الأدوات التعبيرية والمهنية السينمائية ـ. وهو محاولته لتبرير تعاكسه ـ كشخص يتبنى فكرا حداثيا ـ مع إختيار الشعب المغربي لحكومة ذات التوجه الإسلامي المناقض للحداثة (حسب الفيلم).

كان بإمكان الفيلم أن يبدأ بداية رائعة، لو وضع المشاهد في صلب الموضوع مند البداية الأولى ومن اللقطة الأولى عندما عبرت سلمى بلباسها الخفيف (العصري)، مسيرة المتظاهرين الإسلاميين المتشددين، خاصة أن مشهد بداية الفيلم، يتسم بالكثير من التوتر والإنفعال. وأعتقد أن مخرجا متمكنا كنبيل عيوش لا يمكن أن يغفل القيمة الفنية لمثل هذه البداية. وحتى إذا كان لابد من سرد قصة عبد الله، فذلك ممكن جدا بإدخالها عبر الفلاش باك، وسط الفيلم، خاصة أن إيطو كانت تحكي لسليمة قصتها العاطفيةمعه.

إذا كانت بداية الفيلم من خلال قصة عبد الله المدافع عن الأمازيغية. خيارا غير موفق من الناحية الفنية، فقد كان بالمقابل ومن الناحية الإستراتيجية، خيارا تمويهيا ذكيا. فالحساسية الشديدة التي يكتسيها موضوع الفيلم من الناحية السياسية والإيديولوجية، خاصة فيها الشق الاجتماعي، ربما هي التي خلقت لديه تخوفا من أن تجلب له البداية بمشهد سليمة، وابلا من الإنتقادات التي ستُضاف إلى الضجة الكبيرة التي أحدثها فيلمه “الزين اللي فيك”، فالواضح من ذلك الخيار، أن المخرج أراد أن يكسب المشاهد (الرأي العام) لتقبل الطرح الذي تحمله قصة سليمة ومعها جوزيف اليهودي وحكيم المغني وإيناس المراهقة.

سينما نبيل عيوش تتميز فعلا وعلى العموم، بعمق ودقة في تفاصيل بناء الأحداث وتركيب الشخصيات. ونبيل الحامل لجنسية مزدوجة فرنسية ومغربية، يحب المغرب بصدق وقد ترجم ذلك في غير ما مرة. لكن مشكلته ثقافية.. مشكلته أنه لا يستطيع معرفة أين تكمن الفوارق بين الثقافة المغربية وباقي الثقافات. ومما يثير الاستغراب الشديد، أنه إذ يتحدث عن إعجابه وفخره بالتنوع والغنى الثقافي للمغرب لا نشاهد أي خيارات جمالية أو أي تعبير عن هذا التنوع والغنى الثقافي.والتنوع الإتني واللغوي في الفيلم، لم يأت بدافع تسجيلي، وإنما بدافع مصلحي إستراتيجي.

وإذا كانت أفلامه فعلا تتميز بحرفية عالية، إلا أنها لا تُشعِر مشاهدها حتى بالأجواء المغربية. فهي تعطي قيمة وأهمية للبناء السيكولوجي والدرامي لشخصياته، لكن لا تبرز أية قيمة ثقافية للشخصيات، أو المكان أو الديكورات. في أفلامه لا قيمة للعمران المغربي ولا الزي ولا الديكورات ولا الإكسسوارات المغربية إلا بالكاد أو عند الضرورة التي يفرضها الموضوع والحدث. (العرس وأغاني الشيخات والزي التقليدي في فيلم يا خيل الله مثلا) والأكثر من هذا: أن حياة الحداثة والعصرنة في ذهنه ـ كما هو واضح في فيلم “غزية”ـ هي حياة الغرب تحديدا.

ومن يدرس بتأمل وتمعن شخصيات الفيلم التي يدافع عنها، أو تحمل موقفه، يجد أنها مجرد كائنات أدمية ذات خلفية نفسية وعاطفية وإن كانت مدروسة بعناية، إلا أنها خالية من الإحساس والوجدان المغربيين. هي مجرد مسوخ لشخصيات مغربية.. فسليمة تعيش مع عشيقها وتنجب منه خارج المؤسسة الزوجية ولا يتحدثان إلا بالفرنسية. والتدخين واللباس الخفيف بالنسبة لها، شيء عادي. والغريب أنها عندما يسيطر عليها التوتر والقلق، تلجأ إلى الرقص والجذبة وحتى الشعوذة. هل هذه هي العصرنة والحداثة؟ أليس هذا مسخا للشخصية؟ والفتاة المراهقة إيناس (مستقبل المغرب)، لا تجد حرجا في إبراز رغباتها الجنسية بكل وضوح أمام شاب وتزيل عذريتها بيدها. وحكيم التواق لكي يصبح مغنيا، لم يتعلق إلا بالمغني الإنجليزي المعروف بشذوذه الجنسي فريدي ميركوري. واليهودي المنبوذ، لم يكن منبوذا إلا من طرف مومس.

هذه هي أجواء الفيلم ومزاجه. فالعصرنة والحداثة في الفيلم، هي التحدث بالفرنسية بدل اللغة الأم. والتزاوج والإنجاب خارج المؤسسة الزوجية. وإبراز الرغبات الجنسية بدون تردد أو تحفظ. والعبث بالعذرية، والشذوذ الجنسي، والدعارة. ويقدم الفيلم هذه الأجواء، بشخصيات ترتدي لباسا ملائكيا. بينما الشيطانية نجدها إما في المتظاهرين الإسلاميين (المتعصبين والهمجيين). أو في الفقيه الذي يكدر صفو سليمة ويزعجها. ويفرض عليها سماع دعوات الترحم على أبيها وهي المتقززة منه ومن دعواته أو المفتش المبعوث من طرف وزارة التعليم والذي يفرض العربية لأنها لغة القرآن.

تنتهي أحداث الفيلم بالحفل. وهو المشهد المحوري الذي يلخص كل ما يقوله الذي يجتمع فيه أولئك الناس المتحضرون والمسالمون. وفيما عدا سليمة وعبد الله، يتم جمع كل شخصيات الفيلم الرئيسية في الحفل: اليهودي جوزيف كممون للحفل، ومعه خادمه إلياس، المغني حكيم كمغني، والمراهقة إيناس كمدعوة. وفي خضم الأجواء الاحتفالية، تأتي مظاهرة أولئك الإسلاميين الوحشيين أعداء الحضارة المسلحين بالهراوات ويهجمون عليهم، ويخربون الكثير من المحلات ويكسرون الزجاج وينهبون ويخربون الحفل.

نبيل عيوش مع زوجته وبطلة فيلمه

تمر سليمة راكبة سيارة وهي تعاين أعمال العنف (الهمجي) للإسلاميين. وينتهي الفيلم بذهابها إلى البحر وهي تقدم له بطنها الحامل. ونهاية الفيلم بلجوء الشخصية إلى البحر يذكرنا ليس فقط بفيلمه السابق “الزين اللي فيك”، بل بأفلام أخرى مشهورة مثل: “الطريق” لفيديريكو فيلليني. و”الأربعمئة ضربة” لفرانسوا تروفو، وأفلام أخرى غير مشهورة: “أنا سيد القصر” للفرنسي ريجيس فارنيي.

حاول الفيلم جاهدا شن حرب ـ يعتبرها عادلة ـ على التيار الإسلامي، لكن إلتبست عليه الشياطين بالملائكة فتبادلوا القمصان. وأصبحت الحرب مباشرة ضد العقيدة. وحاول عبثا، تغليفها للتخفيف من وطأتها، بلقطتين عابرتين للصلاة، ودون أي مبرر لوجودهما: اللقطة المقربة والثابتة rapproché fixeلعبد الله يصلي. وعندما يسجد يخرج من الإطار. وننتظر عودته ليملأه. ثم لقطة مثيرة للإستغراب الشديد للمراهقة إيناس تصلي في البيت الذي يصدح بالموسيقى والغناء، المنبعث من التلفاز القريب منها، حيث الأجساد الشابة الساخنة والشبه عارية ترقص بعنف، مما يجذب نظر المشاهد، ويلغي قيمة حركات الصلاة.

Visited 155 times, 1 visit(s) today