فيلم “زكريا”: جدلية العلاقة بين الإنسان والمجتمع
ين أنت.. لا أعرف أين أنا، كل ما أعرفه أنني أعيش في عالم متناقض خانق إلي أبعد حد، يخلط بين الماضي والحاضر والمستقبل، عالم كفيف لا يعرف إلي أي اتجاة يذهب. أعيش في عالم من الأمراض تنخر في جسدي منذ أن ولدت، أصبحت في شيخوخة روحية بالرغم أنني في عنفوان الشباب.
هذا ما يقوله بطل فيلم ” زكريا” للمخرج عماد ماهر وهو يتحرك علي الشاشة في صمته التام.
تعتبر”أحلام فترة النقاهة” هي آخر ما أبدعه الأديب الراحل نجيب محفوظ، وهي عبارة عن أكثر من 206 نصوص متمثلة في أحلام قصيرة تحمل داخلها الكثير من تناقضات المجتمع والنفس البشرية في نضج تام وتجدد ونضارة للأساليب ورؤى وبنية وتقنيات سردية.
وفيلم “زكريا” الذي نحن بصدده الآن مأخوذ من هذه الأحلام، لم يحدد مخرجه عماد ماهر أي حلم بالتحديد أخذ منه الفيلم، لكن دعونا نعتبر الفيلم حلم ما ونقف للتحليل:
في البداية: وأنت تحلم تتحول من حالة الوعي إلي اللاوعي ليخرج كل ما في عقلك الباطن علي هيئة صور وأحداث ربما تكون منطقية وربما تكون غير ذلك، وعلي الأرجح فانها ترتبط بالواقع الذي يعيشه الإنسان، والأحلام عادة لها سياق تصويري فريد ومتغير يتغللها الكثير من الرموز .
يعتمد الفيلم علي نمط “التكثيف condensation” الذي يعتبرعنصرا من عناصر الحلم حيث تلتحم فيه الأحداث والأماكن بصورة يصعب علي الإنسان تأويلها، كتلك الرموز التي تحتاج إلي شيفرات لفكها، وفي هذا الفيلم تحمل كل لقطة منه دلالة فنية يمكن إسقاطها علي الواقع الحي الذي يعيش فيه الإنسان/ البطل.
يعتري الفيلم الكثير من الغموض في مشاهده، منذ الوهلة الأولى للمشاهدة يصعب ربط المشاهد ببعضها لتكوين صورة تفسيرية واضحة، وقد اعتمد المخرج فيه البناء الدائري للأحداث حيث بدأ بمشهد النهاية وعاد إليه في الختام.
يجسد الفيلم معاناة الإنسان المصري الذي ينتمي إلى الطبقة الكادحة، و يعطي صورة عن حياته في مثل هذا المجتمع المضطرب، الذي يسجن روح الشباب وطاقاته.
فزكريا شاب مولود بمرض لا يمكن الشفاء منه، وهو بكل بساطة “مواطن مصري” يعيش في هذا المجتمع الميئوس من حالته كحالة زكريا المرضية بالضبط، فالإنسان ومجتمعه وجهانلعملة واحدة.
يعيش “زكريا” (سامح نبيل) في عنق زجاجة العادات والتقاليد والأعراف، مع أسرته التي هو ملك لها، ووظيفته الحكومية التي ستصيبه بتصلب في شرايين الأفكار والإبداع، وتجعل رأسه ورأس كل مصري من حديد فاخر مصنوع لترضي بجميع القوانين العامة والخاصة المهم أنه لا يتفوه إلا الصمت.
كل ذلك جسده لنا الفيلم ببراعة وبصورة مختزلة في بضع مشاهد وشخصيات منحوتة ومجسده بكل دقة لتصل إلي صلب المعاناه في هيئة هلاوس وأحلام:
المشهد الأول يحاكي حجرة الوظيفة الحكومية السوادء كل من فيها يلبسون بدل سوداء،هم شيوخ يتقاسمون أكل الفرخة الموضوعة في منتصف المنضدة، ولكن زكريا وهو حديث علي الوظيفة الحكومية يكتفي بأكل السندوتشات التي معه، ليس لأنه لا يرغب في أكل الفراخ ولكن لأن طبيبه جعل الحل الوحيد للاستمرار حياته هو عدم أكل الفراخ، والفراخ هنا هي المعادل الموضوعي للمال، وبالنسبة لأننا في مجتمع متأخر فقير، لم يكن هو اللحم فرس المنافسة، وكل من في هذه الحجرة بلبسون شريط أسود علي رؤسهم للدلالة علي الاستسلام والخضوع للقوانين الوظيفية البحته.
مشهد الطبيب: وقد أدي “محمد رمزي” هذا الدور ببراعة فائقة، أعطى الشعور الحي علي عدم مبالاة الأطباء بما يعانيه الفقراء في المجتمع، فهم لا يفعلون شيئا سوى التقليب في صفحات المراجع، واستلام النقدية من المرضي، ولهذا بصورة رمزية حية جعل الفيلم أمام الطبيب عظام فراخ متآكلة، فهو يرشد المرضي بالبعد عن تناول الفراخ/ الرغبة في المال،حتي تستمر لكل المستغلين في هذا المجتمع.
مشهد قراءة جواب الوظيفة الحكومية: الذي قيل بصورة معكوسة يتخللها الكثير من عالم الهلاوس فالوظيفة هي قرار بإعدام زكريا، موت روح الشباب والرغبة في التغيير والثروة ” الدخول في حالة من الرضا”، ولكنها متداخلة مع حصص اللغة العربية التي كانت هم ثقيل علي الطلبة والمدرسة التي تمسك بالعصا وكأنها تنذر بموت من يخطأ، ومع الإطلاع علي التقارير ومعرفة الحالة الصحية لها المواطن وحالته الميئوس منها”أي أن هذا المواطن مثل غير ليس عنده القدرة علي التغيير والثورة” قررنا إعطائه الوظيفة لتبدأ عجلة الموت في هذا المجتمع.
وشخصية الأم “حنان الحناوي” التي تريد أن تحتفل بوظيفة ولدها وتهيئه لها، فقررت صنع بدلة تشبة بدلة والده علي زوقها الخاص لا رأي لزكريا فيها،هذه البدلة الثمينة التي لم يفصلها الترزي ” شريف الدسوقي” سوى لوالد زكريا فقط وهذا دليلا علي إنغلاق هذا المجتمع في ماضيه وعدم التطلع لتخطي عتبة التكرار في مآثر القدماء المصريين.
ولكن أين زكريا في كل هذا، زكريا صامت لا يتحدث لا يعترض، والصمت هنا رؤية تشير إلي أن الإنسان المسلوب من جميع حقوقة، أسير غرف الاستنشاق في العناية المركزة كي يواصل الحياة في طبيعة مجتمعية قاسية لا يستطيع الفكاك منها إلا القليل.
صور الفيلم بتقنية الأبيض والأسود، التي تتناسب مع ماهية الحلم حيث أن هذه الأحداث افتراضية في عالم الحلم واللاوعي، كما تتناسب مع الجو الشعوري العام للأحداث.
الديكور ملائم للرمزية في جميع المشاهد ، وهو يبين في بيت زكريا حالة الفقر التي يعيش فيها، وحجرة الطبيب الفخمة دلالة علي جوهر هؤلاء الأطباء وما هم عليه من استغلال وجهل مهني، كذلك محل الترزي القديم بكل ديكوراته التي عفى عليها الزمن تخفي داخلها أن الزمن وشخصياته لا يتقدمون بل في ثبات تام/ تخلف ومرجعية.
يمكن القول أيضا أن زكريا هو ذات نجيب محفوظ، فعظم هذه الأحلام تجسد لكثير من حياته، يناقش فيها المواقف التي تعرض لها ترسخت في وجدانه.
أبدع المخرج في إخراج هذا العمل، وأبدع الممثلون في تقديم كل الإيحاءات التي تخدم النص في التفسير والتأويل، كذلك اختيار أغنية ياعرافة في الختام متلائمة مع التصور الذهني العام للفيلم ” ياعرافة.. سنين في الدنيا دي صايع كمان ضايع وشايل الويل.. وساهر الليل وكل الميل علي كتفي.. ياعرافة”.