فيلم “رجل مختلف”.. وأن تحلم بالانسلاخ عن نفسك

في عمله الروائي الثالث رجل مختلف “A Different Man”، يُقدِّم المخرج الأمريكي الواعد أرون شيمبيرج فيلمًا يحكي قصة رجل يحاول أن يشق طريقه كممثل، لكن تقف أمامه عقبة تشوه وجهه على إثر مرض الورام الليفي العصبي مما يعرقل جميع مناحي حياته. يتعرَّف على جارته الجديدة الحسناء، لكن تستمر تلك العقبة في ملاحقة محاولته للتقرب منها. تستمر حياته في الانهيار إلى أن تسنح له فرصة تغييرها بالكامل من خلال تناول دواء جديد من شأنه أن يحوِّل شكله إلى مظهر طبيعي. ومن هنا ينطلق التساؤل الكبير للفيلم: هل ستنجح هذه التجربة؟ وإلى أي مدى ستتبدل حياته في مرحلة ما بعد هذا المظهر الجديد؟

يفتتح الفيلم على لقطة لـ إدوارد وهو يترنح في مكتب بسبب صداع مباغت، ثم تبتعد الكاميرا رويدًا حتى نتيقن من أنه مجرد مشهد داخل مشهد؛ حيث يُصوِّر إدوارد لقطة من إعلان توعوي رديء عن كيفية تعامل الموظفين في الشركات مع الأشخاص من ذوي التشوهات. مشهد داخل مشهد هو التوصيف الأمثل كعنوان مبدأي لهذا الفيلم؛ لدينا شخص يعيش بتشوه يُشكِّل حياته، فإذا به يقرر أن يلهث خلف حلم التمثيل فقط لكي يخلق “مشهد” جديد لرؤية الناس له بعيدًا عن مشهد حياته المشوَّه. وعلى الجانب الاجتماعي، يقرر إدوارد خلق مشهد آخر منغلق على الذات حيث لا يرى فيه سوى الإساءات الضمنية أو الصريحة التي تصدر من غيره عقب النظر إليه، ويُلقي بغيرها خارج كادر هذا المشهد. من بين كل ما يُكمن أن يُقدِم إدوارد على تعلمه، يقرر أن يتعلم التصفير (رغم علمه بصعوبة ذلك بسبب تكوين شفتيه المُشوَّه) في مشهد مختلق جديد يحاول من خلاله ترسيخ معضلته.

كل ذلك يأخذنا للعودة إلى كواليس حياة مخرج الفيلم أرون شيمبيرج. في حوار صحفي أجرته مجلة ومنصة نادي السينما مع شيمبيرج، يُطرح عليه سؤال حول سر تركيزه في آخر فيلمين أخرجهما على سرد قصة رجل مشوَّه الوجه. حينها جاءت إجابة شيمبيرج كاشفة على هذا النحو:

“لقد وُلدت بتشوه انشقاق سقف الفم، وأظن أن هذا ما أُعرِّف نفسي به. لا أفعل ذلك بشكل واعٍ، لكنه أمر يحدث تلقائيًا وترك أثرًا على حياتي. ولم يكن انشقاق الوجه فقط هو السبب لكن ما ترتب عليه من عمليات جراحية كثيرة تبدَّل معها شكل وجهي عدة مرات. الوجه الذي امتلكه الآن ليس هو ما وُلدت به. إن مظهر والديَّ الطبيعي لطالما جعلني أتساءل: “ألم يكن من المفترض أن أن أبدو مثلهم؟

أنا أكتب عن نفسي وتجربتي بلا شك، في محاولة لخلق المعنى من كل هذا. وما زاد من رغبتي هو أنني لم أرَ نفسي في أيٍ من تلك الأفلام التي تناولت مثل حالتي. كل ما فعلته هذه الأفلام هي أنها أكدت لي صحة كل ما كنت أخشى أن الجميع يفكرون فيه حيالي. وأن هذه هي رؤية العالم لأصحاب التشوهات.. هذه رؤية العالم لي.”

هنا يتضح جليًا كل ما يمر به بطلنا إدوراد تحديدًا في الساعة الأولى من الفيلم. يُسقِط أرون كل هشاشته تجاه مظهره على إدوارد، وكل ارتيابه من نظرة العالم له على عالم إدوارد الصغير. في بداية معرفتنا بإدوارد يختار الفيلم لمساته التعريفية بعناية؛ نجد إدوارد يصعد على درج مبنى منزله فيقابل صاحب المبنى وساكن آخر، يُحاول إدوارد تجنبهما قدر الإمكان رغم أنهما يتعاملان معه كأي شخص آخر، بل أن أحدهما يحاول نُصحه بتقبل الحياة كما هي عليه والتخفيف من توتره، لكن إدوارد لا يهتم بالوقوف معهما. إلا أنه وما إن يمر بجانبه رجل فظ يتحاشا النظر إلى إدوارد، نلمح بوادر اهتمام إدوارد بهذا الغريب، يوليه انتباهه بل ويحسده فيما بعد على حياته الطبيعية فقط لنجد هذا الرجل الفظ ينتهي به الأمر منتحرًا على عكس الصورة الوردية في مخيلة إدوارد.

عندما يدلف إدوار إلى شقته، أول ما نراه فيها هو ثقب في سقف شقته تتسرب منه المياه، وأول ما يطرأ على ذهن إدوارد هو جلب طبق ووضعه أسفل قطرات الماء المتسربة. لن يخرج ليُنبِّه صاحب المبنى أو حتى يحاول إصلاح المشكلة، وسيتعايش مع هذا الثقب الذي يأخذ في الاتساع ليصبح كوة؛ تلك التي سيسقط منها شيء ليرتطم به ويُسقطه في وقت لاحق. إدوارد ببساطة قرر أن يُجنِّب نفسه عناء الإذلال أو الإشفاق من خلال تضييق مساحة تواصله مع العالم تمامًا مهما احتاج لذلك من حين لآخر، وستصير الكوة رمزية لنظرته لنفسه. ستظل هناك كما هو الحال معه.

وبعد المزيد من الدلالات الواضحة على تقوقع إدوارد حول بؤسه وتجلِّي انعدام الثقة وما يصحبه من توتر وفزع وانكماش اجتماعي في كل المواقف التي يمر بها، تأتي نقطة التحول عندما يتبدل وجهه جراء تناول الدواء المبتكَر ويتحول إلى ذلك الوجه الوسيم الذي يُجسِّده الممثل سيباستيان ستان ببراعة. هنا يظهر فجأة على عتبة منزله رجل قادم لإصلاح الثقب في السقف.. هنا يقرر إعلان موت “إدوارد” للجميع ويُطلق على نفسه اسم جديد “Guy” والتي تُترجم إلى “مجرد رجل ما”؛ المهم أنه ليس إدوارد. ومع أول غفوة نوم له بعد التحول، يقطع مونتاج الفيلم الصورة نحو استيقاظه في بيت جديد وعالم جديد وعمل جديد كسمسار عقارات للتو قد نال شهرته على واجهة إعلانات الشركة.

إلا أن التحول لا ينال من إدوار/غاي وحده، بل ينقلب الفيلم كله إلى قصة مجنونة ترتفع بمستوى تعقيدها عن المتوقع حينما نكتشف أن جارته الحسناء قررت أن تُخرج مسرحية عن جارها القديم إدوارد، وفي لحظة ما يتعثر غاي بالصدفة في مسرح يُجرَى فيه تجارب أداء دور إدوارد، فيقرر أن يقتحم المكان ليلعب دور إدوارد بنفسه مستخدمًا قناع يشبه وجهه القديم.

يستخدم الفيلم الحيلة الذكية بتكثيف صراع الفيلم من خلال صُنع مسرحية تُعيد سرد حياة بطلنا -نعود مجددًا لمشهد داخل مشهد- لكنها هذه المرة تكشف عن خبايا في أعماق الشخصيات المتضمنة مما يدفع التصاعد الدرامي إلى أوجُّه. المسرحية ترفع التكلُّف المصطنع لجارته إنغريد لنعرف من حوار المسرحية أنها كانت تزدري إدوارد وتراه شخصية بائسة مصيرها الطبيعي الانتحار. وما يزيد من تفاقم نسق الأحداث هو ظهور شخصية أوزوالد الذي يعاني من نفس مرض إدوارد ومن ثم يقرر بحنكته وذكاؤه أن يأخذ مكان غاي في تأدية الدور، وبالطبع في نيل حب جارته القديمة.

يلعب الممثل آدم بيرسون دور شخصية أوزوالد. بيرسون يعاني من الورام الليفي العصبي في الحقيقة، مما يمنح الفيلم عمقًا أكبر في تأطير أزمة إدوارد/شيمبيرج ونزع الغطاء عن أصل المشكلة. يستكمل شيمبيرج في حواره السالف ذكره سرد المزيد عن خبايا كواليس فيلمه:

“لقد عملت مع آدم بيرسون في فيلمي السابق. وبدا لي شخصًا لم يترك تشوهه يُعرِّف شخصيته. إن معرفتي به ورؤية نمط حياته ألقى بيَّ داخل دوامة أزمة هوية. لقد دفعني للتساؤل: هل قلقي الاجتماعي والشخصية التي أنا عليها، نبعت من ولادتي بانشقاق الفم وما ترتب عليه، أم أن هذا ما افترضته دائمًا؟ مقابلتي لبيرسون جعلتني أسأل: هل عليَّ أن أكون هكذا؟ هل ثمة خطأ في تصرفاتي؟ هل هناك هامش للتغير؟ هل لي أن أصبح شخصًا مختلفًا؟ هل أود ذلك حقًا؟ هل تعكزت على تلك الرغبة حتى صارت عكاز لا أسير بدونه؟ وغيرها الكثير من الاستفسارات الدفينة”.

آدم بيرسون/ أوزوالد هو مرآة فاضحة لما أراد إدوارد/شيمبيرج أن يكونه إذن، ما أراد لو يحصل عليه، يصبو إليه. يظهر أوزوالد على الساحة ليخطف الأضواء من غاي بنفس الوجه الذي لطالما امتعضه الأخير، لكن أوزوالد يعتمد على هوية متصالحة مع نفسها، يتمتع بعقلية شخص يعرف أن ظاهره لم ولن يعرِّفه مهما وقف في طريقة. أوزوالد لا يمكنه “التصفير” كذلك لكنه لا يشعر بالحرج من الإدلاء بهذه الحقيقة والمزاح بشأنها، في حين أنه يستغل مواهبه الأخرى في إبهار من حوله، ولا يضع حدود بينه وبين الآخر. ربما يكون نموذج أوزوالد وإدوارد التجسيد الأمثل للمقولة الشهيرة بأن الإنسان لا بد أن يُحب نفسه أولًا إذا ما أراد أن يجني حب الآخرين.

في إحدى مشاهد الفيلم، يمر إدوارد في الحديقة على شخص يقف كأنه تمثال للرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن، يتسمَّر إدوارد أمامه ويظل رافعًا وجهه نحوه محدقًا فيه. ينتظر هكذا وكأنه يرغب في تحدي الرجل التمثال في المدة التي يمكنه فيها تحمل النظر إلى هذا الوجه القبيح. لكنه يرحل خائبًا بعدما صمم الرجل التمثال ألا يشيح بوجهه. وفي وقت لاحق، يسير أوزوالد مع غاي ويصادفا في طريقهما نفس الشخص التمثال، يُعيد غاي تحديقة إدوارد من جديد، في حين تغيب الشاشة عن ردة فعل أوزوالد إلا من ضحكات نسمعها منه. وليس من إشارة أفضل لمنظور أوزوالد العادي للحياة كأي عابر قد يمر بهذا المنظر على عكس رفيقه الذي يأكل نفسه من الداخل لا الخارج. عقل غاي المشوَّه لا وجهه هو ما يجعله يخلط -في مشهد آخر- التاريخ فيظن أن أوزوالد هو من قتل الرئيس لينكولن في الماضي وليس بوث، فتصحح له إنغريد هذه المعلومة بعدما سرقها منه أوزوالد الآخر.

نحن هنا إذن أمام أزمة هوية أكثر منها معاناة مع تشوه مظهري، أو هكذا يشدد مخرجنا في طرحه. إدوارد تماهى تمامًا مع رغبته في تغيير وجهه حتى صار حلمه الوهمي هو النجاح في التمثيل ليكتسب الانتباه الذي لن يحظى به في الواقع، في حين أنه يفصح في لقاء سابق مع إنغريد أنه أراد أن يعمل كبائع يومًا ما، وحينما تبدَّل وجهه اتجه للعمل كسمسار عقارات بالفعل. أوزوالد يهرب ويفزع ويخجل من كل شيء وتصفه الفتيات “بالرجل المتوتر”. وحينما يصاب بنوبة هياج بعدما خسر فرصة إعادة تجسيد حياته على المسرح وخسر فتاته معها، يهرع إلى شركته ويقرر تشويه وجهه (وجه سيباستيان ستان) برسم شارب هتلر عليه؛ ذلك الشارب الذي وجده مرسومًا على نفس الوجه في إعلان مُعلَّق على جدار قطار الأنفاق ذات مرة. وكأن الفيلم يؤكد عمق “الكوة” في هوية إدوارد والتي ستظل تذكره بأقل تشويه تافه حتى على هذا الوجه الوسيم. غاي المسكين سيظل يتطلع في أعين الحاضرين في ملهى يغني فيه أوزوالد بصوته الرائع، سيظل يبحث عن أي أعين تتقزز وتنهر وجه أوزوالد، حتى يجد فتاتين تضحكان -ربما على شيء آخر- فينال رضاه أخيرًا.

قد يرى البعض -ولن اختلف معهم في الحقيقة- أن شيمبيرج كان شديد التحامل على بطله بحيث أنه جرَّده كثيرًا من وطأة التشوَّه الذي ولا شك يترك أثرًا عظيم الشأن على أي إنسان كان. هذا المرض الذي تعانيه شخصيته إدوارد ليس كالتشقق في سقف الأنف بالطبع -ولست هنا في معرض المزايدة على صعوبة مرضه ومعاناته بالتأكيد-، وعليه فهو يرزح أسفل حمل أكثر تنفيرًا لمن حوله. وربما تكون الأزمة في الهوية هنا مفروضة أكثر منها اختيار يمكن تغييره. لعل ذلك مأخذ على الفيلم نوعًا ما. غير أن شيمبيرج ينأى بنفسه (متمثلًا في شخصيته) عن أي مواساة للذات بشكل قاطع. يبدو وكأنه كمن قد اكتفى تمامًا من الإنزواء خلف وجهه، لم يعد يحتمل المزيد من أفلام The Elephant Man وسردياتها المستكينة. يريد أن يلطم “ذاته” مستعينًا بصفعة مدوية من شجاعة آدم بيرسون صاحب الشخصية الفاتنة في حياته ومقابلاته الصحفية.

على المستوى التقني، يحمل مخرج وكاتب الفيلم شيمبيرج سمات بصرية بارزة؛ إذ لا يخفى تأثره الواضح بروح نيويورك السبعينيات وإن كانت الأحداث معاصرة. نجد ذلك في ملابس إدوارد التقليدية من قميص كلاسيكي على سبيل المثال، واختيار الأماكن التي يصوِّر بها من شقق ومسرح وملهى وشوارع تستلهم جميعًا روحها من نسيج متأخر قليلًا عن بهرجة السينما الحديثة. بل حتى أن طريقة تقديم الشخصية الرئيسة والكشف عن حياتها يحمل الكثير من التريث التدريجي لسينما ما قبل التسعينيات من القرن الماضي. يؤكد شيمبيرج على هذه النقطة في حواره عندما يقول:

“فيلمي هذا يُذكِّر بعض الناس بسينما السبعينيات، لكن في الحقيقة لم يكن هذا في نيتي. إلا أنني لا أنكر أن هذه الحقبة تجري في دمائي؛ لا سيما فيما يخص درجات الألوان وتوزيعها على الصورة. كما أنك لن تجد الكثير من الهواتف الذكية في أفلامي. لقد لاحظت ذلك دون وعي مني. لقد وُلدت في هذه الحقبة السينمائية لذا أشعر بألفة تامة تجاهها. أرى أن هذه كانت الطريقة التي يُفترض للعالم أن يكون عليها، حتى ظهر فيلم Miami Vice وتغير كل ما يخص درجات الألوان والضوء إلى ألوان النيون واللون الوردي. وسيطرت سترات أرماني والتيشيرتات على الموضة. وانهار العالم بظهور مايكل مان. أنا أحب مايكل مان لكنه، من الجانب الجمالي، قد دمَّر العالم كما يُفترض به أن يكون من وجهة نظري؛ أي وجهة نظر شخص من أبناء السبعينيات”.

لعل ما يعيب هذا الفيلم المتميز هو بعض التسرع في النقلات الذي تزامنت مع حالة الهياج التي أصابت شخصية غاي في نهاية الفيلم، مما دفع لحدث مهم بدا فيه بعض التعارض مع ما قام الفيلم بإرسائه في الشخصية منذ البداية.

غير أن ذلك لا يحرم الفيلم من مكتسباته الكثيرة بما في ذلك أداءات تمثيلية مبهرة غطت على أي هفوات قليلة. سيباستيان ستان تحديدًا يقدم وجبة مشبعة من التشخيص البارع لدوره بكل تحدياته البدنية والتعبيرية. وبالطبع تفرض تلك الموسيقى التصويرية حضورها بذلك الصدى القوي النابع من اضطراب موسيقى الچاز التي لم يكن ليناسب هذا السياق ما هو أفضل منها.

Visited 60 times, 1 visit(s) today