فيلم “حياة فيرونيكا المزدوجة” صانع الدمى المتشابهة
في بداية فيلم “حياة فيرونيكا المزدوجة” للمخرج كريستوف كيشلوفسكي، تنظر الطفلة فيرونيكا إلى السماء، إلى نجوم المجرة التي تبدو كغبار متناثر، في المشهد التالي، تنظر إلى الخطوط الدقيقة في ورقة شجر خضراء، ربما تراودها الأسئلة الأولى عن الكون، لغز الحياة في أكبر أشكاله وأصغرها، هذا اللغز الذي تحاول الفلسفة حله عن طريق الكتب، والأدب، والفن، والسينما.
نسخة مكملة
الفتاة التي تعشق الحياة والموسيقى والطبيعة، تحكي لصديقها كيف تأذّت إحدى أصابعها، ما أجبرها على ترك العزف لتتجه إلى الغناء، هذا الحادث الصغير الذي غير مسار حياتها، ربما لتكمله فيرونيكا أخرى تتعلم الموسيقى في مكان آخر من العالم.
تخبر فيرونيكا والدها أنها لا تعرف ما الذي تريده حقاً فيجيبها بعبارةٍ تدور حولها أحداث الفيلم: “هناك أشياء كثيرة يمكنك أن تكونيها”.
ديجافو
في الحافلة تشاهد عبر كرة زجاجية انعكاسات المشهد في الخارج، المشهد الذي يظهر بعد ذلك في خيال فيرونيكا الأخرى، بالإضافة إلى مشاهد أخرى وتشعر به كحالة (ديجافو)، ربما يبحث الفيلم عن تفسير لهذه الظاهرة الغامضة.
تبدو فيرونيكا متوترة قبل ذهابها إلى العرض الموسيقي الكبير الذي ستغني فيه، وتبوح لخالتها بأنها تشعر بالخوف لأن الأمور سارت بسهولة، يظهر قلقها وترددها، حتى في علاقتها مع حبيبها الذي تتركه ثم تعود إليه.
“ماتت”..
ببساطة يقولها الطبيب الذي جس نبضها بعد سقوطها عن المنصة في العرض الموسيقي.
وفي مكان آخر من العالم في تلك اللحظة، تشعر فيرونيكا أخرى بالأسى لسبب غامض.
تناسخ
فيرونيك الفرنسية أكثر ثقة كما يبدو في تسريحة شعرها، وقيادتها سيارتها الخاصة، وتدخين السجائر، هل كان هذا تصحيحاً لقلق فيرونيكا الأولى وترددها وخجلها.
في عرض للدمى المتحركة يقام في المدرسة التي تدرّس فيها فيرونيك الموسيقى، دمية تحاول الرقص، تسقط الدمية في منتصف رقصتها، وتحت رداء الموت الأبيض الذي يضعه محرك الدمى، تستيقظ دمية أخرى، نسخة منها، لديها أجنحة تمكنها من الطيران، والرقص بحرية، وكأنه سر الحياة ترسمه أصابع محرك الدمى هذا، الذي تتعلق به فيرونيكا من النظرة الأولى، هل الحياة مجرد مسرح دمى؟
تصادفه مرةً أخرى في الطريق، ترى ابتسامته للمرة الأولى، يخفق قلبها، وحين تتلقى اتصالاً لا تسمع فيه سوى صوت أنفاسه، تعرف أنها وقعت في الحب كما تعترف لوالدها، تحب شخصاً لا تعرفه.
في مشهد موازٍ لمشهد فيرونيكا السابقة، تخبر فيرونيك والدها بأنها تشعر أنها وحيدة، يجيبها والدها: “شخص ما اختفى من حياتك”.
إشارات ورموز
فيرونيك تتبع الإشارات بجدية وفضول، لهذا هي تقترب من فهم حياتها، التفاصيل الصغيرة، التي تتشابك كخطوط ورقة الشجر الخضراء تحمل أسرار المجرة.
رباط الحذاء الذي استلمته من بريد مجهول، هل كان هو الرباط الذي شدت به فيرونيكا الأولى حافظة أوراق نوتتها الموسيقية حين تبعثرت في الطريق، وشدته حول إصبعها حين اقتربت من حلمها وهي تصدح بالغناء؟ أم نسخة منه؟
تعبث فيرونيكا بالرباط المجهول، يدور في يدها حول نفسه، ثم يتأرجح بين أصابعها، تشده فجأة ليصبح مستقيماً، كمخطط قلب، يتوقف نبضه فجأة، فتعود فيرونيكا لتجمع طرفيه ببعضهما، طرفاه البعيدان، يصبحان نقطة واحدة في النهاية.
بشغف وفضول تتبع فيرونيك الإشارات الخفية في حياتها، صانع دمى، كان هو مؤلف تلك القصص الصغيرة التي يصنع منها مسرحيات يعرضها للأطفال، اشترت كتبه لتقرأه، ألّف قصةً أيضاً عن رباط الحذاء، هل هي صدفة؟
هناك من يراقبك.. هناك من ينتظرك:
قصة حب تولد، حين يصلها البريد بلا عنوان على غلافه، هدية علبة سجائر كتلك التي كانت تدخن إحداها حين صادفته في الطريق، ملاحقة كلماته في الكتب، تتبع أخباره لدى صديقاتها، شريط التسجيل الذي لا تسمع فيه سوى صوت الضوضاء في شارعٍ مجهول، ضجيج الناس والسيارات و صوت محطة قطار يعلن موعد رحيل يدلها على مكانه.
تذهب إلى مدينة باريس، تقابله في مقهىً قريب من محطة القطار، كان هناك ينتظرها على طاولة مقهىً، ضغط زر الإيقاف للمسجل الصغير الذي يسجل به أصوات الحياة اليومية من حوله، stop ، في اللحظة التي ظهرت خلف النافذة سيارة محطمة، روح توقفت حياتها في تلك اللحظة، لتبدأ قصة روح أخرى في مكان ما، باحتمالات أخرى للحياة، نسخة تواصل حياتها بطرق أخرى، ربما كانت نسخة منه هو الذي سيتغير مسار حياته الآن، حين انتظرها يومين وهو يثق بمجيئها.
الحياة.. سيناريو مكتوب مسبقاً
“كنتُ أعرف أنكِ ستأتين”، قال وهو يرى الشغف في عينيها، الشغف الذي قتله حين اعترف أنه يريد تأليف كتاب يتحدث عن قصة امرأة تحب شخصاً تجهله، لهذا تعمد وضع تلك الإشارات في طريقها لاختبار رد فعلها، كما يفعل الأدباء عادةً، كانت مجرد جزء من سيناريو يختبر إمكانية حدوثه في الحقيقة ليكتب عنه، تتركه هي ويلحق بها، بعد مطاردة طويلة يعترف أنه لحق بها لسبب آخر أكثر عمقاً، وكامرأة عاشقة تصدقه.
في غرفة تجمعهما تسأله كما يبدو بعد حوار طويل: “ماذا تريد أن تعرف عني أيضاً؟”، “كل شيء” يجيبها، فتسكب أمامه محتويات حقيبتها ليعرفها، ربما يمكنك أن تعرف الكثير عن المرأة من حقيبتها.
تجد نظارة تبحث عنها منذ عام، في الحياة أيضاً ربما يحدث هذا، نكتشف في لحظات الحب ما كنا فقدناه في أنفسنا؟
لماذا توجد نسخة أخرى؟
تعترف له فيرونيك أنها تشعر طوال حياتها أنها تعيش في مكانين مختلفين، عندما يمسك هو صورة لرحلة قديمة لها إلى بولندا، صورة كانت هي من صورتها، وكانت هي من ظهرت فيها، كانت تقف هناك، تنهار فيرونيك حين ترى فتاة تشبهها “تلك ليست أنا”
هل أنت نسختك أم أنتما شخصان مختلفان؟
ماذا كان يمكن أن يحدث لو التقيتما؟
هل تتواجدان في نفس الزمان؟
بنفس العمر؟
هل يجب أن تكون للنسختين نفس الملامح؟
هل يغيّر شيئاً أن تعرف أنك ترتبط بحياة أخرى؟
هل يفعل ذلك شيئاً سوى انهيارك من رعب الفكرة؟
تقول إحدى نظريات الهندسة: الخطان المتوازيان لا يلتقيان إلا في اللانهاية.
في المشهد الأخير يصنع ألكسندر لمسرحيته الجديدة دميتين لفيرونيك، دميتين متشابهتين، يقرأ لها جزءاً من روايته: “كادت إحداهما أن تحرق يدها في حين تجنبت الأخرى ذلك”.
العبارة التي تعطي تفسيراً للرؤية التي يقدمها الفيلم عن الحياة، النسخة هي شخصية تم تعديل مسارها، بسبب أخطاء النسخة الأولى، هل يعني هذا أننا سنصل في وقت ما إلى عالم مثالي؟
تسأله: “لماذا صنعت نسختين مني؟”
يجيبها: “لأن إحداهما قد تتمزق أثناء العرض”.
* كاتبة من اليمن