فيلم تسجيلي مرشح للأوسكار يكتشف فنانة مجهولة
بعد مرور مئات الأعوام، بعد الفتوحات العالمية الكبيرة في مجالات الاتصالات، وبعدما تحول العالم إلى قرية صغيرة، لا زلنا حتى اليوم، نكتشف قصصا تشبه في بؤسها وغرابتها، ما قرأناه عن فنانين في الماضي السحيق، لم يتمكنوا من نشر انتاجهم الفني أو حتى كسب لقمة عيشهم به وفارقوا الحياة فقراء وظلوا مجهولين.
“البحث عن فيفيان ماير” هو الفيلم الأول للمخرج الأمريكي جون مالوف وأحد الأفلام المرشحة لأوسكار أحسن وثائقي، وهو فيلم وليد الصدفة وحدها، فلم تكن هنالك أية نية عند مخرجه لصناعة فيلم أو الدخول في عالم السينما، حيث كان مالوف أصلا من هواة جمع التحف، وفقه حظه السعيد في العثور على مقتنيات هامة جدا لفنانة مجهولة، تلك المقتنيات كانت النسخ السالبة من صورها الفوتوغرافية التي لم يتم تحميضها أبداً، وتلك المقتنيات، هي ما أثارت في ذهنه واتسقت مع اخلاصه للتحف، بأن يوثقها وينشرها بكل ما أوتي من قوة ومال وموهبة.
الفيلم هو قصة فان جوخ آخر، سيدة تملك منها شغف التصوير حتى وهبته روحها، تمحور العالم كله حول الكاميرا التي تحملها، رأت العالم من خلالها، ولكن لم يراها العالم بدوره، لم تمتلك المال الكافي حتى تحمض صورها وتقيم معارض يثني الجمهور عليها وعلى فنها الجميل والصافي، والذي يحقق حرفيا فكرة الفوتوغرافيا بأنها اقتطاع الزمن، تجميد الزمن، فهي مصورة مادتها الفنية من الشارع، وأبطال صورها يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، إلى أن تأتي هي وتجمد لحظة مميزة، كانت فيها شخصيات الصور تلك، أقرب ما يكون إلى إنسانيتهم.
الحكاية
يروي الفيلم قصة بحث المخرج نفسه جامع التحف عن صاحبة الصور التي وجدها مصادفة في أحد المزادات، في سرد يشبه سرد الأفلام البوليسية، وهو أجمل الأشكال التي تتفق مع واقع الرحلة وطريقة عثوره على حقيقة المصورة.
يبدأ الفيلم بسرد مقدمة يشرح من خلالها الصفات الأكثر شيوعا عن مربية الأطفال التي تمتلك الصفات الغريبة المتناقضة الجريئة والغامضة والمتحفظة أحيانا على لسان شخصياته اللاتي تعاملت أو عاشرت فيفيان ماير، يكشف لنا المخرج من خلال تلك المقدمة، غرابة الإنسانة التي يقدم لنا الفيلم رحلة البحث عن حقيقتها وحقيقة الصفات تلك.
الأسئلة التي يثيرها الفيلم حول شخصيته الرئيسية كثيرة ومتصاعدة، في البداية يسأل عن اسمها فيجد العديد من الروايات التي تؤكد أن اسمها مثلا لم يكن فيفيان بل كان مدام سميث، ثم يسأل عن سكنها فلا يجد حقيقة واحدة مؤكدة عن مكان نشأتها، ثم يسأل عن عائلتها، وأسئلة كثيرة أخرى يوجهها هو والشخصيات التي استضافها في فيلمه، والتي تحاول هي الأخرى استيعاب الغرابة التي تحيط شخص فيفيان، مربية الأطفال.
يعرض الفيلم حقيقة أن كل العائلات التي عملت لديها فيفيان، لم تعلم أنها فنانة وتمتلك حساسية فنية عالية، لأن ذلك غريب، فتصرفات فيفيان أثناء التقاطها للصور بالنسبة لتلك العائلات، هي نوعا ما بربرية وغير مبشرة بجاذبية وضعية التصوير أو هالة القداسة أثناء التقاط الصور التي يرسمها المصورين حول أنفسهم، فمعنى أن تهبط فيفيان بالكاميرا لسلة قمامة وتصور شيئا بها ليس له تفسير سوى أن ماير مجنونة أو هاوية، لا تعلم أية أساليب نحو استخدام الكاميرا.
ينتقل الفيلم شيئا فشيئ نحو إيجاد حقائق كبيرة، بمجرد أن يصل مالوف لطرف خيط يمكنه من العثور على أية حقيقة، حتى يسير خلفه بإخلاص شديد، فصورة لقرية ما يجدها في المقتنيات التي اشتراها، يبحث وراءها مالوف ليجد تلك القرية التي كانت تعيش فيها فيفيان، والتي يسافر لها خارج بلده أمريكا، وخطابات وأرقام تليفون يجدها في الصناديق التي تتكدس فيها النسخ السالبة من الصور، يبحث ورائها عن أية حقائق بالرغم من الصعوبات الفنية التي يواجهها من تغيير الأكواد للمدن مثلا.
سيناريو الفيلم واضح جدا، يسير بسلاسة، يحاول أن يثير الأسئلة لا أن يجيبها، يحاول أن يستخدم واقع عملية البحث كمنطق لسرد الفيلم، يستخدم شكل أفلام الإثارة والغموض، فالشخصية الرئيسية مجهولة، تحيط نفسها بهالة من الغموض متعمدة، يحاول أن يرى فيفيان بأعين الآخرين، ثم يحاول أن يبدل تلك النظرة في أعيننا نحن من خلال عرضه للحقائق واحدة تلو الأخرى، في شكل سردي، يحقق التوازن المرغوب، أن يتخلى عن بؤس الحكاية لصالح عرض الحقائق، أن يهرب من مأساوية حياة فيفيان التي تم طردها من كل الوظائف التي عملت بها، والتي لم تمتلك أية أموال لتحميض صورها وتحقيق رغبتها الأولى في الحياة، بأن يعطي لرحلة البحث ذاتها مساحة أكبر، فهو فيلم وثائقي، يبحث في رحلة لا يبحث في مشاعر الأشخاص في تلك الرحلة، فالأولوية في الفيلم للحقائق لا للمشاعر، لأنها كاذبة كما عرضها الفيلم.
لعل أكثر الأسئلة وجوبا عند مشاهدة الفيلم هي، ما الذي يدفع فيفيان للانتظار دون اشهار صورها لأية مكاتب أو شركات تطبعها أو تشتريها أو حتى مجلات تنشرها مثلا، ما الذي يدفعها لمراسلة معمل تحميض يبتعد آلاف الأميال عنها، ما الذي يؤرقها كي تحاول أن تخفي اسمها، كيف حدث ذلك وتطور نفسيا في داخلها لكي تصل لتلك المرحلة؟
الأسئلة تلك وغيرها، هي التي تكمن فيها القيمة الحقيقية للعمل الفني هذا، فلا معنى للفن دون أن يثير تساؤلاتنا حول العالم، دون أن نحاول إسقاط حقائق العمل الفني على حقائقنا الخاصة، دون أن يغير نظرتنا للعالم ويؤثر في أفكارنا بعد مشاهدة العمل الفني ذاك.
لعل الإجابة الأهم تجاه أية أسئلة من الفيلم، هو أن الشغف وحده، الشغف والهوس بالكمال، هو ما دفع فيفيان ماير للانتظار عمرها كله لتحقيق حلمها، واحتفظ بأمل عندها في صميم نفسها بأنه في يوم ما، سيصيب الشغف ذاك انسان آخر، ويكمل مسيرتها وينشر أعمالها الفنية، وهو ما حصل.
فيفيان لم تحرق صورها عندما أصابها اليأس التام، ولكن احتفظت بها كأنهم قطعة الذهب الوحيدة في جسدها الواهن، اليأس الذي أصاب العديد من المبدعين وأحرقوا أعمالهم لم يصب فيفيان، لابد من أنها كانت تتحلى بإيمان كبير، إيمان بأن الحياة لا تقتل مرتين، ربما وجود مالوف في هذا العالم كان لكي يحقق وجود انسان آخر، ربما لم تتمكن فيفيان من تحقيق حلمها لأن أحد آخر سيحققه أفضل منها.
المخرج
المعضلة الحقيقية في الفيلم، هي محاول تجاوز مأساوية حكاية المصورة فيفيان لصالح كشف ملابسات البحث عن حقيقتها ثم عرض فنها، وإعطاء فترة مناسبة لصورها كي يتم عرضها في الفيلم، والذي يتحدث عن ثلاثة مواضيع، رحلة المخرج في البحث عن فيفيان وعن فن فيفيان وعن حياة فيفيان، فتحقيق التوازن بين تلك العناصر يشكل صعوبة كبيرة، خاصة بأن الحكايات كلها مثيرة جدا ولها جاذبية كبيرة.
من بداية الفيلم يحاول المخرج بالموسيقى الخفيفة والتي تثير حالة من المرح نوعا ما والطرافة، أن يتجاوز مأساوية الحكاية، ثم باللقطات القصيرة نسبيا، أن يزيح ويتجاوز المشاعر الزائدة عن الفيلم، ثم بالمونتاج السريع، حتى يحقق التصاعد والإيقاع السريع اللازم للفيلم، وذلك حقق المخرج التوازن الكامل لكل عناصر الفيلم.
يستخدم المخرج في هذا الفيلم كما ذكرت سابقا، شكلا أقرب للأفلام البوليسية، ويحقق ذلك أيضا في الإيقاع العام السريع للفيلم، والموسيقى التي تحقق ذروة كاذبة، والتي تساعد في تكثيف الشعور بالإثارة، ثم يحاول أن يكثف مسألة الإيقاع، بأن لا يضيف حركة أخرى للكادر حتى لا يترهل الإيقاع، بأن تبقى الكاميرا ثابتة في أغلب لقطات الفيلم، حتى يتركز الإيقاع على عناصر الكادر دون حركة الكادر ذاتها.
إطالة اللقطات أحيانا في الفيلم لكي ترتجل إحدى الشخصيات مثلا بعض الكلمات عن فيفيان أو عن أية أفكار لحظية، هو ما أضاف وكثف واقعية الفيلم، وأضاف أيضا طرافة وخفة روح على موضوع الفيلم خاصة لخفة روح كثير من الشخصيات وجمال طلتها أمام الكاميرا، الموضوع الذي فيه مفارقة كبيرة، فوفاة فيفيان وفشلها في نشر أعمالها وعثور شخص آخر على أعمالها في مزاد كان فيه مصادفة ويمتلك نفس الشغف الذي كان عندها فيحقق رغبتها، تلك أكثر مفارقات العالم غرابة.