فيلم “تحت الظلّ” ما تأخذه الحرب لا يعود
المخرج البريطاني الإيراني المولد باباك أنفاري يُسهب في شرح الهلع ويتناوله من ضفةٍ جديدة بفيلمٍ لا موسيقى تصويرية فيه سوى صفير الريح، “تحت الظلّ” من إنتاج المملكة المتحدة وقطر والأردن يُقدم فيه أنفاري جانباً من “حربه الخاصة” كإيراني شَهِد حرب الخليج الأولى طفلاً.
عُرض الفيلم عالمياً لأول مرة في مهرجان صندانس في يناير 2016، ليُصبح متاحاً في دور السينما في الخريف في الولايات المتحدة وبريطانيا التي تقدمت به للمنافسة على أوسكار أفضل فيلم أجنبي، كما أنّه فاز بجوائزٍ مختلفةٍ في عددٍ من التظاهرات السينمائية منها مهرجان البافتا ومهرجان مونتكلير الدولي للأفلام ومهرجان أثينا السينمائي الدوليّ.
يُقدّم فيلم الرعب “تحت الظلّ” ثيمة يبدو أنّها لا تبلى أبداً: الأم والطفل يواجهان سوياً قوى شريرة، غير أنّ الجماهير التي تؤمن بأنّ أفلام الرعب تحتل مرتبة أقلّ من غيرها ترى أنّ تصنيف (تحت الظلّ) كفيلم رعب فيه إجحاف كبير وأنّه يجب أن يوسم بكونه فيلماً درامياً أو، على الأقل، فيلم إثارة نفسية، ولكن اختلاف الجمهور حول تصنيفه لا يُهم أنفاري كما قال لأحد المواقع لأنّه أراد أن يصنع في النهاية قصة مشوّقة.
شيديه (نرجس رشيدي) متزوجة من إيراج (بوبي نادري) ولديهما دورسا (آفِن منشدي)، لا نرى الكثير عن علاقة الزوجين قبل الحرب، ولكن تطالعنا مشاجرة بينهما قُبيل رحيل إيراج إلى منطقة أخرى استجابةً لقائمة التجنيد السنوي.
امرأتان بلا سماء
يبدأ الفيلم بنصّ عن الحرب الإيرانية-العراقية مختوماً بجملة تقول أنّ الحرب تُغرق الأرواح في الظلام حيث يزدهر الخوف والقلق، يلي ذلك مشاهد حقيقية للاقتتال ولنشرات الأخبار آنذاك، ثم نشاهد شيديه تجلس مع مسئول أكاديمي (الممثل بيجان دانِشماند) تطلب منه السماح لها بالعودة إلى دراسة الطب، وتعتذر بأنّها كانت مخطئة بانتمائها إلى جماعة يسارية مناوئة لما يُسمّى بالثورة الإسلامية، ولكن الرجل الصارم الذي يُعلّق خلف مكتبه صورة الخميني يُؤكّد لها بقسوة استحالة عودتها للجامعة، وأنّ عليها البحث عن هدفٍ جديدٍ لحياتها، كان حديثاً هادئاً لم يقطعه سوى منظر لانفجارٍ يظهر من النافذةِ المطلةِ على طهران التي يخنقها النظام الحاكم وتنهشها الحرب.
تعودُ شيديه إلى شقتها الأنيقة التي لها طراز شقق الثمانينات (تم التصوير في عمّان) حيث يطغى اللونان البني والبيج على كل شيء، مع المنظر المقبض للشبابيك وعليها علامة الضرب باللاصق منعاً لتشظي الزجاج في تكنيك يعرفه كل أبناء الحروب، يطلب إيراج من شيديه قُبيل رحيله أن تذهب إلى منزل والديه ليكون مطمئنّاً عليهما أكثر ولكنّها ترفض وتصر على أنّها قادرة على حماية بيتها وابنتها الذكية الجميلة المتعلقة بشكل مرضي بدميتها كيميا، تقضي شيديه على مللها مشاكسةً حكومة بلادها بتشغيل شريط الإيروبكس الذي تُقدمه الممثلة الأمريكية جين فوندا، وتمر الأيام ثقيلة إلى أن يسقط صاروخ لم ينفجر على البناية ويخترق سقف الجيران مُحدثاً فجوة ضخمة، انتقلت من السقف إلى أرواح السكان الذين بدأوا بالانسلال الواحد تلو الآخر، ذلك الصاروخ الذي يشبه محقن ملوث بفيروسات الترويع.
مفردات الرعب والحرب
قدّم باباك أنفاري في “تحت الظلّ”، وهو فيلمه الطويل الأول، تأويلاً حَرْفياً لما يُسمّى بـ”شبح الحرب”، واشتغل بمهارةٍ على رموزِ الرعبِ الميتافيزيقيّ الذي اختبره جمهور السينما، ليُكثّف معاني الهلع بسبب الحرب وبسبب الحكومات الدينية المُنفصلة عن واقع مجتمعها الذي تتفنن في إخافته بلا هوادة، ويضيع عندها الفارق الهش بين الخوف من الحرب والخوف من شبحها، فالجنيّةالتي تلاحق شيديه في شقتها، ترتدي التشادور الخمينيّ الذي تفرشه في أحد المشاهد على القبو كاملاً ليتحول إلى قطران تنغرس فيه ساقا البطلة، وعندما تركض شيديه في الشارع حافية وهلعة مع طفلتها، يتم احتجازها بتهمة الخروج دون حجاب، ويقول لها المسئول “أنّ أكثر ما يجب أن تخافه المرأة هو أن تظهر مكشوفة”. إنّها جملة تساوي كل الغيلان مجتمعة.
نشرت صحيفة الغارديان في 29 سبتمبر الماضي على لسان أنفاري بأنّه مازال حتى الآن يستيقظ وهو يصرخ لوجود شخص يقف في ركن الحجرة ويقول:” أشعر به يقف هناك وكلي يقين بذلك، ثم يأخذ منّي الأمر 30 ثانية لأكتشف أنّنا (هو وصديقته) وحدنا في الحجرة(…)”.
في (تحت الظلّ) لا دماء ولا أشلاء متطايرة ولا معارك يلفظ خلالها الجنود أنفاسهم أمام الكاميرا، ورغم ذلك فإنّ الشعور بالخوف وانعدام الأمان يسيطران على جوّ الفيلم الذي يخنق الأبطال والمشاهدين.
وعلى طريقة فيلم الرعب الشهير (طفل روزماري) لرومان بولانسكي حيث الرعب قابع في “الباب المجاور” كانت الجارة السيدة إبراهيمي (آرام غاسمي) أحد أوجه ذلك الخوف بتكثيفها ورمزيتها للنظام الحاكم بأكاذيبه وبانفصاله عن الواقع، فقد كان السيد إبراهيمي (راي هاراتيان) يرعى قريبه مهدي (كرم رشايدة) الطفل اليتيم ولكنّها تسيئ معاملته، وتثرثر بأنّه نحس، وأنّ روحاً شريرةً تصحبه وهو ما جعل الصاروخ يتعقبه ويُصيب بنايتهم، متجاهلة تماماً الصدمة التي يعاني منها كونه شهد مقتل والديه، ومتناسية أنّ هناك حرباً تطحن البلاد.
السيدة إبراهيمي أيضاً كانت إحدى الشخصيات التي استخدمها أنفاري لتشرح جانباً من رؤيته السينمائية وهي تقول لشيديه متحدثة عن الأشباح :” “عندما يأخذون منكِ شيئاً ما عزيزاً عليكِ فلا مهرب منهم، ستكون هناك إشارة تلازمك وسيجدون دائماً طريقة لإيجادك بها”، إنّه الشرح الذي يُغرق المُشاهد أكثر في الالتباس الذي قدمه أنفاري عن عمدٍ، فالقبو، مثلاً، الذي غالباً ما يكون مسكناً للشياطين في أفلام الرعب هو نفسه المكان الذي يلوذ به السكان أثناء الغارات.
وعندما تزور شيديه جارتها السيدة فاكُر (سوسن فرخ نيا) تقرأ كتاباً هناك عن المخلوقات المخيفة التي تُسمّى بكائنات الهواء التي تسافر مع الريح، وتتكاثر حيث يكون الخوف والقلق، تجعل المشاهد يتساءل كما تتساءل شيديه: ألا تأتي الصواريخ محمولة بالرياح أيضاً؟
لا تكفي النجاة من الموت لتنجو من “شبح الحرب”
الحرب لا تنتهي الحرب تبدأ فقط
إنّ الآثار التي تتركها الحرب تشبه كثيراً ما يُذكر في كتب الروحانيات عن أثر التعرض للمس الشيطاني: اضطراب النوم والنحافة والشحوب والكوابيس، وإطالة التحديق في السقف، وكاميرا باباك أنفاري البديعة أجادت تصوير ذلك: اللقطات الواسعة التي يظهر بها الأبطال في ركن الكادر، بينما البيت/الفراغ يلتهم كل شيء، ويُكثّف الملصق قصة الفيلم بطريقته: شيديه تحتضن دورسا وهي شاخصة للسقف، الذي قد تأتي منه قذيفة صاروخية، أو شيطانةترتدي التشادور الذي فرضته الحكومة على الإيرانيات.
“تحت الظلّ” فيلم مُتقن وحساس وذكيّ وينتصر للإنسان، ويُقدم صوتاً مُعتدلاً ورصيناً في ظل الأوضاع السياسية المجنونة التي أضرّت بالرؤى السينمائية لدى الكثيرين، وقد استحق الاستقبال الإيجابي العالميّ الواسع الذي قوبل به.
ولا ينتهي الفيلم إلا بتساؤل المشاهدين/ ات عن ما يُمكن أن تفعله دورسا بعد أن تكتشف أنّ دميتها بلا رأس، مُتذكّراً تحذير الجارة بأنّ ما تحصل عليه الشياطين من ممتلكات الإنسان يجعله فريسة لها طوال العمر.
لا خلاص من الأشباح كما تقول السيدة إبراهيمي، لا خلاص من الحرب كما يقول باباك أنفاري.