فيلم “الوهم العظيم” لرينوار: صرخة دائمة ضد الحروب

في عام 1937، صنع المخرج الفرنسي الكبير جان رينوار، ابن الفنان الانطباعي أوغست رينوار، فيلمه الشهير ” الوهم العظيم” The Grand Illusion  اي في عزّ أجواء التوتر الكبير الذي صاحب صعود النازية والفاشية في ألمانيا وإيطاليا.

والفيلم يناقش امكانية قيام علاقات إنسانية مبنية على الاحترام والصداقة، بين سجناء او أسرى حرب فرنسيون، وبين سجّانيهم من الضباط الألمان، في الحرب العالمية الأولى. ولكن من أين لرينوار هذه الجرأة، ليصنع فيلما كهذا في ذلك الوقت الصعب؟ ويبدو ان الفكر الشيوعي الذي تبنّاه رينوار وإيمانه بالأممية الإنسانية، هما اللذان دفعاه لصنع مثل هذا الفيلم، كجهد إنساني وجمالي لدفع الحرب.


وبالطبع، فانه بعد الحرب العالمية الثانية، وفظائع النازية واحتلال فرنسا لسنوات، فقد غابت اية إمكانية لصنع أفلام من هذا النوع، تبشر بالصداقة بين الألمان والفرنسيين، كأفراد وشعوب بعيدا عن الحكومات والنخب السياسية. لا بل تم صنع العديد من الأفلام التي تكرّس هذا العداء التقليدي بقوالب بوليسية او كوميدية أحيانا. ولهذه الأسباب، فقد اضطر الفرنسيون والألمان لأجل تكريس صورة إنسانية مضيئة عن تحالفهم ضمن الاتحاد الأوروبي، الى العروض الواسعة في عشرات المراكز الثقافية والإعلامية الفرنسية حول العالم، لفيلم صُنع منذ أكثر من نصف قرن من قبل فنان شيوعي، جازف وقاوم وكافح من أجل رؤيا إنسانية ضد الحروب، وهو يدرك انه يتعامل مع “وهم عظيم” ليس الا. والفيلم ببساطة، يحكي قصة محاولات الهروب المتكررة لمجموعة من أسرى الحرب الفرنسيين في ألمانيا، أيام الحرب العالمية الأولى. وهي محاولات تتراوح من حفر لأنفاق ببطء وهدوء، الى استخدام الخداع واستغلال العلاقات الإنسانية الجيدة مع ضابط ألماني كبير .. وأخيرا اللجوء الى التضحية بالنفس لأجل خلاص الرفاق من السجن. وفي رأي الكثير من النقّاد، فان هذا واحد من أعظم افلام رينوار، وأكثرها وضوحا وقبولا بين المشاهدين، ولا يتفوّق عليه سوى تحفته الكبرى (قواعد اللعبة 1939).


وفي تاريخ السينما، يعتبر الفيلم نموذجا مثاليا وجذرا لأفلام قصص الهروب. لكن قصص الهروب في الفيلم، تخفي وراءها صيحة ضد الحرب، او بالأحرى صيحة من اجل الصداقة والحب بين البشر. وهي صيحة تتجاوز العوائق العرقية والدينية والقومية والطبقية، فهناك أسرى انجليز وروس وفرنسيون وسجانون ألمان طيبون الى حد ما. وهناك ارستقراطيون وبرجوازيون وبروليتاريون، وهناك يهود وسود. وربما لو صنع الفيلم في وقتنا هذا، لكان هناك بين الشخصيات عرب ومسلمون ايضا. كما أن المعتقل يصبح فرصة للتعارف والصداقة والحياة المشتركة بين هؤلاء الناس، الذين عادة قلما يضطرون الى لقاء بعضهم او الاشتراك في أي شيء. اما محاولات الهروب او السعي للحرية، فإنها تصبح جزءا من المضمون العميق للأخوّة والحب بين البشر. وهكذا يؤكد رينوار سينمائيا على القيمتين الكبريين في الحياة: الحب والحرية. وبالطبع فإنه من غير الممكن او من الصعب الحديث عن الحب بدون وجود المرأة. لذا فإن الفصل الأخير من الفيلم، يتضمن قصة حب بين الطيار الهارب ماريشال (الممثل الكبير جان غابان)، وامرأة ألمانية من الريف تدعى ايلسا (الممثلة ديتا بارلو).

ولكن النص الأصلي للفيلم لم يكن أبدا على هذه الشاكلة، او حتى بهذا المضمون والعمق. ويؤكد مؤرخو السينما، انه لا فيلم في التاريخ، تأثرت نسخته او صورته النهائية بعملية توزيع الأدوار فيه، مثلما حصل مع فيلم الوهم العظيم. اذ اقترح منتجو الفيلم بشكل مفاجئ، أن يقوم السينمائي الاميركي الكبير من اصول نمساوية، (أريك فون ستروهايم)، بلعب دور الضابط الألماني “روفنستاين”. وقد كان هذا الطلب بمثابة صدمة مزدوجة لرينوار، لأنه كان من محبي ستروهايم منذ زمن بعيد. لكن دور الضابط روفنستاين كان صغيرا، ولا يتلاءم مع مكانة وسمعة ستروهايم العالمية. لذا أعاد رينوار كتابة الدور كليا، من حيث المساحة والمضمون والتطور الدرامي.  وبالتالي اضطر لإعادة كتابة الفيلم بأكمله، وخصوصا دور الارستقراطي الفرنسي بوالديو (الممثل بيير فريسناي)، ليتوازن مع دور الضابط الالماني. ونتيجة لعملية إعادة الكتابة، خلق رينوار دور اليهودي الفرنسي (روزنثال)، الذي يصبح في النهاية رفيق هروب ماريشال، ورسول غرامه او ترجمانه في القسم الأخير من الفيلم.



ولأن هذه الشخصيات كبرت أدوارها وتعمقت، فإن هذا لم يكن ليمر بدون تضحية تتعلق بدور ماريشال، او بالأحرى حضور الممثل جان غابان على الشاشة، ومساحة وتأثير هذا الحضور. إذ يبدو غابان في الفيلم، مثل البطل القابع في الخلفية، بطل وسطي متوازن من الطبقات الشعبية، لا يثير كثيرا من الانتباه، ولا يتحدث إلا بحدود، لكنه لا ينفك عن التفكير بالهروب من السجن في كل لحظة. وقد عولج هذا المشكل أثناء إعادة الكتابة عن طريق قصة الحب مع إيلسا، والحوارات الثنائية مع روزنثال في نهاية الفيلم. ولن ننسى الاستخدام المزدوج والذكي للعبارة التي يطلقها روزنثال: “الحدود يصنعها البشر، اما الطبيعة فإنها لا تأبه بها” .. اذ هي دعاية أممية مكشوفة، لكنها من ناحية أخرى، حقيقة سياسية واقعية، احترمها الجنود الالمان ولم يواصلوا إطلاق النار على السجناء الهاربين.

ورغم ان الجمهور والنقّاد رحبوا بالفيلم بصورة عامة، واعتبروه ذا تأثير مهم في تلك الاجواء المتوترة، إلا ان رينوار اعترف للمقربين: ان الفيلم لم يكن له أي تأثير، لأن الحرب العالمية الثانية، انفجرت بعد عرضه بأشهر في القارة الاوروبية. اما في ألمانيا فقد لاقى الفيلم استهجانا من النازيين، وعلى رأسهم غوبلز شخصيا، الذي اعتبر رينوار: (العدو السينمائي رقم واحد) لدولة الرايخ الثالث. ومن جديد، وطبول الحرب تُقرع، تعود الحياة لهذا الفيلم الإنساني الذي يدعو للتآخي بين البشر، ورفض الحروب بشكل مطلق. ومن خلال تقارب فرنسا وألمانيا وباقي الدول الأروبية في مواقفهم الرافضة للحروب والهيمنة الاميركية على العالم، قد يتحول هذا (الوهم العظيم) الى (أمل عظيم) بالسلام لجميع شعوب الأرض.

Visited 71 times, 1 visit(s) today