فيلم “الموجة الجديدة” عمل فني مغموس بالحب

أمير العمري- كان
الخيال الواقعي أو المبني على الواقع، على معلومات ومعطيات محددة، يتجلى في فيلم المخرج الأمريكي ريتشارد لينكليتر الجديد “الموجة الجديدة” Nouvelle Vague الذي وجد مكانه الطبيعي بين أفلام مسابقة مهرجان كان السينمائي الـ78.
الفيلم أولا هو أول فيلم لمخرجه ناطق في معظمه باللغة الفرنسية، وثانيا أن موضوعه هو تلك الحركة السينمائية الشهيرة التي أعادت تشكيل وجه السينما الفرنسية أي “الموجة الجديدة”، وثالثا، أنه يتوقف أساسا أمام الفيلم “الأيقوني” الفرنسي “على آخر نفس” لمخرجه جون لوك جودار، بل وأمام شخصية جودار نفسه، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها حتى وفاته التي اختارها بنفسه.
يمكن اعتبار فيلم لينكليتر تحية مشوبة بلمسة من النوستالجيا، لجماعة السينمائيين الفرنسيين الشبان الذين صنعوا “الموجة الجديدة” التي غيرت وجه السينما الفرنسية رغم عمرها القصير نسبيا، ورغم أن من ظل منهم مخلصا إخلاصا تاما لمبدأ التمرد بقوة على نهج السينما القديمة، كان عمليا، هو جودار وحده.
لذلك ليس غريبا أن يصبح جودار في قلب فيلم لينكليتر رغم أنه جاء بعد لوي مال وشابرول وتروفو. وهذا ما يصوره الفيلم في البداية، بما يشي بشعور جودار بالغيرة من زملائه من نقاد مجلة “لي كاييه دي سينما” (كراسات السينما) الذين سبقوه إلى الإخراج السينمائي بينما هو صاحب المقولة الشهيرة”: “إن أفضل وسيلة لنقد أي فيلم هو أن تصنع فيلمك”. وهي مقولة ليست صحيحة تماما، وإلا لما بقي هناك نقاد سينمائيون!

فيلم “الموجة الجديدة” مصور بالأبيض والأسود، وطبقا للمنسوب “الأكاديمي” أي الشاشة الضيقة الصغيرة لمحاكاة الأسلوب الذي كان سائدا في تلك الفترة، وفي الوقت نفسه، لمحاكاة أسلوب تصوير فيلم “على آخر نفس” بوجه خاص (يترجمه كثيرون، اللاهث، أو النفس الأخير) وهو ما يتوقف أمامه فيلمنا هذا تفصيلا، مستعرضا من خلال أسلوب كلاسيكي مناقض تماما لنهج جودار، تجربة إنتاجه ومراحل تصويره وطريقة مخرجه في العمل، وما أحاط بالفيلم من أمور كثيرة لا شك في غرابتها كل الغرابة.
يصور الفيلم في البداية، النجاح الكبير الذي حققه عرض فيلم “400 ضربة” لتروفو في مهرجان كان حيث كان جودار وزملاؤه حاضرين، وانطلاق رغبة جودار في إخراج فيلمه الأول استنادا على فكرة اشترك في كتابتها تروفو مع شابرول، الأمر الذي شجع المنتج جورج دو بورجار على تمويل إنتاج الفيلم، خصوصا بعد أن أقنعه جودار بأنه يستطيع أن يصور الفيلم في 20 يوما وبميزانية صغيرة للغاية.
لم يكن جودار يعرف كيف يمكن أن يسير الفيلم، كان لديه سيناريو أولي في صفحتين أو ثلاثة، أي أنه دخل التصوير تقريبا من دون أن يكون لديه سيناريو مكتمل واضح المعالم، بل مجرد أفكار، كان – كما نرى- يقوم بتطويرها وتعديلها خلال التصوير، وحسب ما يشعر به ويراه ولكن من المؤكد أن فكرة جودار عن السينما وعن صنع الأفلام، كانت شديدة التمرد من البداية على ما هو سائد، ولم يكن الأمر عشوائيا كما يصوره فيلم لينليكيتر الذي يجعل الفيلم يبدو كما لو كان بكامله عملا ارتجاليا، وأن جودار لم يكن وقتها سوى مجرد “مهرج” لكنه وفق بفضل “عبقريته” الخاصة إلى إنتاج عمل يبقى في الأذهان ويتحدى الزمن، ومع ذلك ليس من الممكن أن يختزل جودار بالطبع اختزاله في فيلم واحد. لذلك فعنوان الفيلم لا يتسق تماما مع محتواه، فهو في الحقيقة” كيف صنع جودار فيلمه الأول، وليس “الموجة الجديدة” بل ولا حتى “سينما جودار” المتعددة الأوجه التي امتدت لعقود طويلة.
ملحوظة: جودار أخرج فيلما عام 1990 بعنوان الموجة الجديدة”
يتوقف الفيلم طويلا أمام يوميات تصوير “على آخر نفس” بأسلوب الفيلم التسجيلي الذي يتضمن كتابة العناوين وأسماء الشخصيات المختلفة التي تظهر على الشاشة، والتعاقب الزمني الطبيعي من اليوم الأول حتى اليوم الأخير من التصوير، بتركيز على شخصية جودار، بنظاراته الشمسية الداكنة، وميله للمشاكسة والتشبث بما يراه من أفكار تبدو للآخرين أفكارا مجنونة، ومزاجيه المتقلب، والأهم من هذا كله، رفضه الالتزام بقواعد السينما، وخصوصا تشبثه بكسر الاستمرارية الزمنية في المشهد خلافا لما تنبهه إليه مساعدته بينما يصرخ هو في وجهها في أحد المشاهد أن “الاستمرارية نقيض الواقع”.

ورغم تأملات جودار الفلسفية التي يعكسها الفيلم ولو على استحياء، إلا أنه يبرز أيضا جانبا ربما بدا كاريكاتوريا بعض الشيء، وهو الجانب الفكاهي الساخر في شخصيته التي عرفت بجديتها الشديدة، وميله للتعليق الهجائي، خصوصا تجاه صناعة السينما التقليدية.
يبدأ الفيلم بتقديم الشخصيات التي ستلعب الأدوار الأساسية في حياة الفيلم، اختيار مساعد المخرج “بيير ريسنت” بناء على ترشيح المنتج دو بورجار، والمصور “راؤول كوتار” الذي يختاره جودار في حين أن الحقيقة هي المنتج هو الذي فرضه على جودار، وكان يرغب في إسناد التصوير إلى مصور آخر. أما كوتار، فكان في الأصل، مصورا فوتوغرافيا ثم اتجه إلى تصوير الجريدة السينمائية والأفلام التسجيلية في شرق آسيا، خلال حرب فرنسا في “الهند الصينية”، وهو ما أضفى على أسلوبه الطابع الواقعي، وميزه بالحركات الحرة الطويلة للكاميرا، وسيصبح فيما بعد من الأبناء الأصليين للموجة الجديدة بعد أن ارتبط مع جودار وصور له كل أفلامه (من 1959 إلى 1967) باستثناء فيلم “مذكر مؤنث”. كما عمل مع عدد من كبار المخرجين الفرنسيين مثل تروفو، وجان روش، وفيليب دي بروكا، وكوستا جافراس (صور فيلمه الشهير زد).
سنرى أيضل كيف أسند جودار بطولة فيلمه الأول، أي دور بطله، الشاب العبثي ميشيل بواكار، إلى جان بول بلموندو، ودور باتريشيا صديقته الأمريكية إلى الممثلة الأمريكية جين سيبرج التي ظلت باستمرار تبدي شكوكها في إمكانيات جودار كمخرج، وتتشكك في أن ما يصوره يمكن أن ينتج عنه فيلما متماسكا ذا معنى.

ويتوقف فيلم لينكليتر كثيرا أمام المفارقات المضحكة التي شابت التصوير، وكيف كان جودار يكتفي بتصوير ساعتين في الصباح ثم يصرف الممثلين، أو يأتي إلى موقع التصوير ذات يوم، فلا يجد شيئا حاضرا في ذهنه فيقرر أن يمنح جميع العاملين عطلة، وكيف أثار تكرار مثل هذه المواقف الغريبة، غضب المنتج وأدى في إحدى المرات، إلى اشتباك بالأيدي بينهما في المقهى الذي كان يجتمع فيه يوميا قبل التصوير مع فريقه!
تظهر في الفيلم شخصيات كانت قريبة من جودار مثل رائد الواقعية الإيطالية الجديدة، روبرتو روسيلليني الذي كان جودار يعتبره أستاذه، وقد جاء في زيارة الى مجلة كاييه دو سينما، والواضح كما يصوره الفيلم أنه كان بخيلا أو مفلسا، فقد طلب اقتراض مبلغ من المال لكي يدفع للتاكسي.. ومن الشخصيات المعروفة الأخرى، المخرج الفرنسي الكبير جان بيير ميلفيل، الذي يعتبر “الأب الروحي” لمخرجي الموجة الجديدة، وسوف يسند إليه جودار دور الكاتب “جون بافولسكو” (من أصل روماني) في فيلمه. وهو مشهد تلقائي، لم يكتب له جودار الحوار بل أعطى الممثلة “جين سيبرج” بعض الأسئلة وترك لميلفيل حرية الإجابة عنها ومنها أسئلة ساذجة مثل “هل يمكن أن يؤمن المرء بالحب في عصرنا” وما الفرق بين الإثارة الجنسية والحب؟ وما هو أكبر طموح لديك؟ وهو ما يجيب عنه بقوله: أن أصبح أبديا ثم أموت!
وفي الفيلم يلتقي جودار- كما حدث في الحقيقة- بأستاذ كبير من أساتذة السينما الفرنسية هو المخرج روبير بريسون أثناء تصويره فيلما في إحدى محطات مترو الأنفاق في باريس حيث يمنحه بريسون بعض النصائح وهو بصدد تصوير فيلمه الأول، وكان جودار وقتها قد قارب الثلاثين من عمره، وشعر أنه تأخر كثيرا عن زملائه الذين سبقوا في إخراج الأفلام، ولم يكن يعرف بالطبع حرفة الإخراج التي لم يدرسها شأن أبناء جيله جميعا.
باريس تظهر في الفيلم كما كانت تماما في أواخر الخمسينيات، الشانزليزيه، المقاهي، مقر مجلة كاييه دي سينما، وكان جودار يمتلك من الجرأة ما يجعله يظهر في أحد المشاهد بنفسه في دور الرجل الذي يشي للشرطة بميشيل بواكار، كما يسند الى زميله وصديقه المخرج إريك رومير دور رجل يتمدد قتيلا على أرضية الشارع، ويظل كما نرى، يعيد تصوير اللقطة من زوايا مختلفة، ثم يلتقط عربة بريد ذات صندوق، يضع الكاميرا في داخل الصندوق مع المصور راؤول كوتار صاحب الجسد الضخم، لكي يمكنه التصوير عن طريق حركة الأمامية ثم الخلفية، للمشهد الأخير في الفيلم، الذي يتميز بحركة الكاميرا التدريجية حيث يسير البطل مترنحا في الشارع بعد إصابته بالرصاص، والمارة يتطلعون إليه من دون أن يدركوا أنه تمثيل وأن هذا فيلم.. وعندما يتجمع الناس مع رجل شرطة حقيقي حول جثة بلموندو، يقفز مساعد المخرج لتفرقتهم منبها إياهم “إننا نصور فيلما”!

شخصيا لم أجد تشابها كبيرا في الملامح أو في الشكل العام بين الممثل “جليوم ماربيك” وبين جودار الحقيقي، فجودار كان نحيفا ذا وجه مستطيل بينما هذا الممثل يبدو مكتنزا ذا وجه مستدير، لكنه مع ذلك أجاد محاكاة صوت جودار وطريقته التي تشي بالاعتداد الشديد بالنفس والتسلط، وكيف كان يصر على تحطيم قواعد السينما من دون حتى أن يمتلك في ذلك الوقت، حلولا بديلة بل كان يرتجل أثناء التصوير، ويبتكر ويغير حسب ما يشعر وبما يوحي به مكان التصوير، وكان بلموندو يستمتع بالعمل بهذه الطريقة، بينما كانت جين سيبرج تضج بالشكوى، وأعربت أكثر من مرة عن رغبتها في ترك الفيلم لولا تدخل زوجها الفرنسي “فرانسوا مورييه” الذي منحه جودار دورا صغيرا في الفيلم (كان لابد من إرضائه وإرضاء الجميع!).
كان الممثل الذي قام بدور بلموندو وهو أوبري دولان” جيدا إلى حد كبير وإن لم يكن الشبه كبيرا أيضا مع بلموندو (غيرى رأى أن التشابه كان “مذهلا” بين جميع الممثلين والشخصيات الأصلية وعلى رأسهم جودار، وهو ما “أذهلني” شخصيا!!).
أما أفضل أداء في رأيي والأكثر اتقانا وإقناعا وجمالا في الفيلم كله فهو أداء الممثلة الأمريكية “زوي ديوتش” التي كانت تنتقل بين الإنجليزية، والفرنسية بلكنة أمريكية في براعة وخفة ظل واتقان، وهي تتقمص دور جين سيبرج التي قامت بدور “باتريشيا” حبيبة بلموندو أو ميشيل بواكار، والتي ستنتهي حياتها- أي حياة الممثلة- فيما بعد ( في 1979) في ظروف تراجيدية وقد قامت بدورها كريستين ستيوارت في فيلم “سيبرج” (2019).
فيلم لينكليتر فيلم بسيط وممتع، لا يشعرك بالملل، ولا يجعلك تلهث خلفه أو تجري “على آخر نفس” بل يدفعك كما يدفع الكثيرين، إلى استعادة فيلم جودار الشهير، ويسلط الأضواء بقوة على السينما الفرنسية في عصرها الذهبي وعلى جيل الموجة الجديدة خصوصا، ولا شك أن المتعة لا تكتمل إلا لو كنت قد شاهدت “على آخر نفس”. ومن حسن الحظ أن الميديا الجديدة جعلت هذا متاحا لجيل الشباب، كالماء والهواء.. إن كان الماء لا يزال مباحا أو متاحا، وهذا أمر يتوقف على موقعك على الخريطة!