فيلم “المنصة 2”: من الثورة إلى سقوط العالم
رهاف الشولي
هناك كثير من الأسئلة الفلسفية التي تراود كل شخصية حكائية في فيلم “المنصة-2” -“ Platform-2، فلم يقف الفيلم عند التفكير بشأن النظام السياسي والثورة فحسب، بل تعدّى لما بعد الثورة، حتى انتمى إلى الفلسفة الوجودية. فيلم ““المنصة” -2الإسباني، هو الجزء الثاني من فيلم “المنصة” (2019)، الذي اشتهر بقوة حبكته، إضافة إلى النظام الاجتماعي السياسي القائم، فهو يميل إلى الفيلم التجريبي والديستوبيا، مع لمسة خيالية علمية فيزيائياً، وواقعية ضمنياً.
يدور الفيلم حول سجن عمودي يسمى الحفرة، وباللغة الإسبانية (El hoyo) وهو عنوان الفيلم الأصلي، وأيضا مقدّمة مفترضة لنسخة 2019. في كل شهر يتم وضع سجناء في كل مستوى بشكل عشوائي، وفي كل مستوى سجينان. كل يوم تنزل منصة مليئة بعدد كبير من الأطعمة على كل مستوى من السجن لمدة دقيقتين، ويُمنع بعدها الاحتفاظ بالطعام في الزنزانة، ومن يخالف يعاقب بالموت متجمداً أو محترقاً.
في هذا الجزء، يثور وافد جديد ضد نظام توزيع الطعام بين السجناء، فقد تطرق الجزء الأول إلى محاولة توصيل الطعام إلى جميع المستويات. أما الجزء الثاني يوضح لنا تداعيات هذه الثورة وثمارها، وبالرغم من أنه مقدمة للجزء الأول من ناحية التتابع الزمني، إلا أننا يمكن أن نعتبره تكملة لفهم ما بعد الثورة كنظرة مجازية وفي كلا الأمرين فهو يمثل دائرة لنشوء الأنظمة السياسية والاجتماعية وتكرار التاريخ (الصورة توضح
العملية الدائرية:
إن النظام المختلف في إدارة الطعام في الجزء الثاني هو تناول الوجبة المخصصة لكل سجين وحسب، كمحاولة أرسطية مثالية في بناء نظام مثالي، ليبدو بأن التغيير الثوري موجود بالفعل، إلا أنه استبدل البنية الرأسمالية السادية إلى نظام استبدادي آخر، يتمثل في التمسك في قوانينه للتوزيع “العادل”، كهدف للوصول إلى الكرسي، من خلال ركوب الموجة واتباع “الترند”، مع رفع الشعارات الرنانة في وجه الشعب، لنرى تشابها لعينا بين التجربة الافتراضية والواقع الحتمي الفيزيائي، الذي نعيشه في العالم الحديث.
التأثير البصري والصوتي في الفيلم
اعتمد الفيلم على ثلاثة ألوان رئيسية وهي الأحمر، والأخضر، والأزرق.
يعبّر اللون الأحمر في الفيلم، عن الإثارة والخطر، والعدوان والصراع والعنف، أما اللون الأخضر، فقد يعطي انطباعا عن التجديد، وقد ظهر هذا اللون في فترة إعادة ضبط الحفرة، ليثير في نفس المشاهد أن هناك أمل قادم وأن البطل سينجح في تجديد نفسه من خلال الهرب، أما اللون الأزرق المائل إلى البرودة، فيظهر في الفيلم باللون الغامض، والذي يعبر عن عزلة الحياة في الحفرة وقسوتها.
يتسم تصميم الإضاءة بالخفوت، فالظلال موجود بكل مكان، ليعزز فكرة الأجواء الكئيبة والغامضة، أما تصميم اللباس فهو لباس مخصص للسجناء، وعن الديكور الزنزانة متشابهة جميعها، ومصممة لإنزال المنصة، التي تمثل في شكلها الهندسي قاعدة الهرم بأبعاده الثلاثة، ليعطي انطباعا بوجود النظام الهرمي الاجتماعي.
تنوعت أحجام اللقطات في الفيلم، بين القريبة والقريبة جدا، والبعيدة، حسب كل مشهد، أما عن تصميم بعض المشاهد، فقد تميزت بالبعد البصري توضح عمودية السجن:
أما التأثير الصوتي في الفيلم، فقد تفرّد في طريقة عرضه للأصوات داخل الحفرة، منها صوت المنصة للتشويق وأحيانا الرعب من القادم، إضافة إلى الموسيقى المستخدمة في كل مشهد، لاسيما موسيقى الإثارة، والخوف. ركز الفيلم على صوت طريقة الأكل، ليضفي شعور الاشمئزاز لدى المشاهد ويجبره على متابعته لاكتشاف ما سيحدث.
البعد الثوري في الشخصيات وتطورها في القصة
تعد الشخصية من أهم عناصر القصة، وتطورها يأتي بتطور الأحداث وتتابعها، والتعريف بها يأتي ضمن المقدمة في عناصر البنية الدرامية في القصة.
وتقسم عناصر البنية الدرامية إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
- المقدمة: التي تبين مكان القصة الجغرافي والزماني، مع التعريف بالشخصيات وعلاقاتهم، والصراع الرئيسي فيها.
- الحدث الصاعد: هو تتابع الأحداث بعد حدوث أزمة في القصة، مع وجود العقبات التي تحصل في القصة، إضافة إلى ظهور شخصيات أخرى تساعد في حبكة القصة.
- الذروة: نقطة تحول القصة والأحداث، وانفجارها، وأحيانا الهزيمة الزائفة للبطل ويأسه.
- الحدث الهابط: يكشف النقاب عن الصراع، وأحيانا يحتوي على لحظات تشويقية مثيرة للشك، مع وجود عقبات فيه.
- النهاية: خاتمة الأحداث بين الحدث النازل ومشهد النهاية الفعلي من الدراما، وتختلف باختلاف نوع الفيلم، فقد تنتهي بفاجعة تجعل البطل اسوأ مما بدا عليه في القصة إذا كان تراجيديا.
تم التعريف بالشخصية الرئيسية – بريمبوان، إذ وضحت المقدمة مهنتها (الفن)، وارتباطها بالماضي، إضافة إلى علاقتها بينها وبين الشخصيات الأخرى في الفلم. وتمثلت في البداية بالشخص المتفرج، الذي يتبع النظام أو القانون، وتستمع عن مثالية هذا النظام، مع تضحية مؤسسه، الذي أنشأ حركة مقاومة ضد “الهمجيين أو البرابرة”، الذين يأكلون أكثر من حصتهم أو يعارضون النظام فكريا.
أما شخصية زامياتين، فهو رفيق بريمبوان الأول في الزنزانة، بدين البنية، غير مهتم للنظام القائم، وينتمي إلى الفكر العلماني، متزوج في حالته الاجتماعية، وعلاقته العاطفية بعائلته تتسم بالتوتر والاضطراب.
يظهر لنا الفلم، كمية الروحانية لبعض الموالين لهذا القانون، بل يجعلنا نستشعر بأنه يتحدث عن الاعتقادات الدينية، خاصة المسيحية المحبة والقوة، وهو يعاكس النظرة السائدة بأن الفيلم يتحدث عن النظام الشيوعي فحسب، بل يمثل مجموعة معتقدات في صراع العالم الحديث، ونرى ذلك من خلال مجموعة نصوص في الفيلم ذكرها أحد الموالين:
1. “القانون هو الحب والقوة في أيدي أصحاب الإرادة”
2. “أُخترنا جميعا، سنرتقي جميعا للأعلى، فما الأحزان إلا ظلال تمر وتتلاشى”.
3. “متّعوا عيونكم بالنور الذي يضيء به (السيد) طريقنا”.
4. “إن الموت علامة حبنا الحقيقي”.
5. “حتى وإن دمروا بيوتنا وحرقوها، فإن بيته المنيع يتحدى الصعاب”.
6. “هو موجود في كل مكان وكل قلب، هو الحياة ومانح الحياة”.
يتطور سلوك الشخصيات في القصة بتتابع الأحداث وتصاعدها، فقد تحول زامياتين من شخص لا يهتم بالنظام، إلى إنسان يشعر بالذنب تجاه عدم تطبيقه بالكامل، إضافة من شخص غير معترف بواقعه إلى الاستسلام له، وذلك من خلال مشاهد وجوده في مستوى 180، إذ تبين التحول عندما أضرم النار بنفسه، كتضحية بالنفس مقابل الآخر، والخلاص من أخطاء الماضي. أما بريمبوان، فقد انتقلت من شخص متفرج، إلى متمسك بالنظام، ومؤمنة بالقانون، لتصبح من منفّذيه ومن المدافعين عنه بعد انتحار زميلها، وذلك من خلال مشهد نزولها مع رفيقتها الجديدة.
كيف تشتعل الثورة ضد النظام السائد؟
لا توجد ثورة دون أبعاد فلسفية فكرية، فكما حاول موالو القانون تطبيق أفكارهم الفلسفية، فهناك فلسفة تعارض هذا النظام مثلما يقول هيجل، وتعتقد أنه ينافي الحرية ويعاكس مبادئها. وهذا ما ظهر لنا في أحداث الفيلم الصاعدة، التي أدّت إلى تطور في سلوك الشخصية، فبعدما كانت موالية للنظام وتدافع عنه، تمت معاقبتها لادّعائهم في مخالفتها وصديقتها للقانون على يد زعيمهم داجين بابي، بل اكتشفت أن هذا كله عبارة عن دكتاتورية متسلطة، تتخذ مبدأ ميكيافيللي في أن الغاية تبرر الوسيلة، وتبدع في تطبيقها “للجريمة والعقاب”، الأمر الذي يجعلنا نرى أن الفيلم عبارة عن مجموعة روايات فلسفية ومنحوتات وجودية، وأخيرا حياتنا اليومية.
تأتي شخصية داجين بابي في الأحداث الصاعدة للفيلم، فهو يمثل الطبقة التي دير النظام، وتسعى لتحقيق مصالحها الشخصية في هذا الإطار، فلا يتعلق الموضوع بالمبادئ المثالية، بل التحكم في الموارد في سبيل البقاء، وتظهر أفكاره أثناء فرضه للسلطة، ليشكل عقدة بين العلاقة بين السلطة والإنسانية في سياق عالم مفرغ من الأخلاق والعدالة. بفضل تطور شخصيته وتعرضه للعديد من التحديات النفسية والاجتماعية.
إن نقطة التحول في بريمبوان كما أشارت الناقدة السينمائية غابرييل نويلا، تؤكد على هنجعية البشر في التمسك بالسلطة باسم القانون، والتجارة بقضية العدل والمساواة، من خلال العنف، فقد يقودها شخصية تشبه النبي، مليئة بالأوامر التي لا تقبل الشك، وتغذيها الإدانة والشك والتصلب، لتكون الرسالة هي الخوف والإرهاب.
ثورة ضد ثورة
يتسم البعد الثوري في الفيلم باختلاف مفهوم الحرية باختلاف الفكر، ويظهر ذلك عند مشهد نزول مجموعة من السجناء المعارضين للنظام والبدء في إقناع الآخرين بهذه الجمل: “ليس من حق أحد أن يحدد حريتنا، نحن نتخذ قراراتنا بأنفسنا، ولدنا أحرارا وهؤلاء الموالون يكرهون الحرية، ولا يمكنهم منعنا عن فعل ما نشاء” فالموالون أو أصحاب “ثورة التضامن” يرون أن الحرية تتسم بعدم أكل ما تشاء، أما المعارضون عكس ذلك.
يجعلنا الفيلم نرى أن هناك ثورة تواجه الثورة التي أقيمت سابقاً، لنستذكر أمامنا رواية (مزرعة الحيوان – جورج أورويل)، التي أظهرت لنا ما يحدث للحركة الثورية ما بعد الثورة من فساد وعنف والجانب المظلم من الثورة، تماما مثل الفلم، الذي تألق صانعه في وصف الطبيعة البشرية عند الحكم وتولية المناصب.
الإبادة في سبيل الوصول إلى الموارد
تندلع حرب بين الموالين والمعارضين للنظام، من خلال قتل وأكل لحوم السجناء في المستويات الدنيا مقابل النجاة، ليؤكد لنا الإنسان مجددا مدى قسوته في الاستقواء على الضعيف للحصول على القوة. وهذا ما نراه في عالمنا الحديث، فقد تتنافس الأنظمة السياسية للوصول إلى القوة الخارقة من خلال حرق ونهب وتهجير وتضحية بشعب أعزل، لتظهر لنا بعدها بالنبل في التحدث عن القيم الغربية وازدواجية المعايير، مثلما يحصل الآن في غزة من محاولة في الوصول إلى الغاز كمصدر قوة.
ولم يكتف الفيلم بوصف العالم الحديث، بل أبدع في إبراز حضارة المايا القديمة، من خلال التركيز على الهرم لهذه الحضارة، والذي يمثل النظام الاجتماعي الطبقي، إضافة إلى تشابه بين الفيلم وتاريخها، فقد أنشأت حركات شعبية مقاومة للاستعمار، وكانت تقدم التضحيات البشرية في سبيل الخلاص.
أمل ثوري زائف؟
تنفجر الأحداث عند القتال، لتصل إلى الذروة في الفيلم، ويبدأ بعدها الحدث الهابط لبريمبوان، فقد التهمت جزءً من لوحة “الكلب”، التي تعد تصوير رمزي لنضال الإنسان غير المجدي ضد القوى الخبيثة؛ بعد أن كافح دون جدوى لتحرير نفسه، كما أشارت أكاديمية مدريد للفنون. وهكذا هي بريمبوان، إلا أنها استخدمتها لتخليص نفسها ومحاولة للهرب والنجاة، خلال إعادة ضبط الحفرة، ولكنها تراجعت عندما رأت طفلا يوضع في المستوى 333 من الإدارة العليا، لتضحّي بنفسها مقابل إنقاذ الطفل في طريقة منها للخلاص من الأخطاء.
ما يبدو لنا في نهاية الجزء الثاني، أن الثورة ومحاولة النزول للأسفل أمر عديم الجدوى ومبني على كذبة، لأن المشرفين يضعون طفلا جديدا كل شهر، وهذا ما رأيناه في نهاية الفيلم، من خلال عرض أكثر من مرة نزول طفل مع سجين، ليقول لنا أن هذا الشيء حدث سابقا وسيحدث مرارا وتكرارا، فقد دمج المهندسون الدوافع الثورية الحتمية في تصميم مجتمعهم الظالم، ليؤكد لنا عمق الطبيعة البشرية الثورية.
معضلة القيم الثورية في الفيلم:
يعرض لنا الفيلم أن القوى في المجتمعات تسعى إلى التخريب، وحتى إن كانت تلك القوى تبني منظمة جديدة أكثر عدالة، إلا أن الوسائل المستخدمة لفرض التغيير أسوأ من الوضع الذين يقاتلون ضده، فلا هناك ثورة في سبيل الغاية تحقق الوسيلة.
الفلسفة الوجودية في الفيلم
يركز الفيلم على الفلسفة الوجودية، حيث يتطرق إلى حالة وجود البشرية، عندما قال تريمجازي: “نحن سجناء أنفسنا، ومن هذا، لا يوجد مفر ممكن”، إذ تمثل الحفرة باطن العقل البشري، الذي يفكر في وجوديته دوما وصراعه مع الأنا والذات، إضافة إلى صراعه في تلقّي حريته من خلال القتال والثورة والتضحية بالنفس مثل زامياتين وبريموان، أما لوحة الكلب وانجذاب بريمبوان لها، فقد كانت بمثابة رغبة قاتلة في استعادة إحساسها بذاتها وسط الفوضى رغم اليأس الساحق، ليؤكد لنا الفيلم أهمية مواجهة أخطاء المرء للخلاص والغفران.
أما عن شخصية داجين بابي، فهي تمثل الكثير من الصراعات الوجودية التي تواجهها شخصيات الفيلم، ليظهر لنا سؤال محوري: “لأي مدى يحافظ الإنسان على جوهره الإنساني في عالمٍ يخلو من مقومات الحياة؟”
إن الإنسان في البعد الروحي الوجودي في الفيلم يتعلّق بالغيب، فيصنع إحساسا تخيليا بالعالم المثالي، مثل إيمان بعض الموالين “بالسيد” الغامض، ويعارض فكر بعض الشخصيات مثل زيمياتين، الذي يميل للفكر العلماني أكثر. وفي هذا البعد غالباً ما يكون فكر الناس متذبذبًا بين الهدف والعبثية، والأمل واليأس.
بالنهاية، تحويل القلق الوجودي إلى وعي الإنسان بذاته، وبحرية قراراته واختياراته، انتفاضة في وجه الاستبداد، والوجودية تمرداً في وجه حالات القهر في زمن ترتفع فيه شعارات واهية للحرية، فيما شعوب الأرض غالبيتها مستعبَدة.