فيلم “المعلقات” لمريم عدو.. في البحث عن الرجل الغائب

يحدث أن نصنع فيلما جميلا، مفيدا وممتعا سينمائيا، في عالم السينما، دون أن يكون القصد ذلك في بداية الأمر. أي أن الهدف الأول يكون فقط، التمكن من حكي ما، في مجال الفيلم الروائي، أو من عرض موضوع ما، كما يحدث في مجال الفيلم الوثائقي. وهذا بالضبط ما حصل للمخرجة مريم عدو بفيلمها هذا “المعلقات”، الذي لم تكن تتوقع أن يجول ويُعرض في المهرجانات وينال الجوائز التقديرية. فقد صار فيلما وثائقياً داخلا في خانة الإبداع السينمائي، بكثافته العاطفية القوية الناجمة عن تدبير فيلمي صبور ومتأن متحكمٍ في خيط سرده حتى النهاية. كيف حدث هذا؟

لحظتان اثنتان كانتا وراء فكرة الفيلم. الأولى ذات طبيعة مهنية صرف، وهي أن المخرجة كُلفت بإنجاز فيلم يوثق لمدونة الأسرة بعد فترة من دخولها حيز التطبيق سنة 2014، مُشكِّلةً حدثا حاسما في تنظيم أحوال الأسرة ومن ضمنها شؤون الطلاق، وما يترتب على ذلك من نفقات يجب أن يؤديها الرجل للمرأة. وهو ما كان منعدما من قبل.

كان لا بد من الشهادة بالصور، فوقفت المخرجة أمام ردهات المحاكم، تستجوب النساء وتُصور ما يقلن بهذا الصدد. حينها أقرَّت لها نسوة بأن المشكلة ليس في الطلاق، بل في غياب الرجل كي يتم هذا الانفصال.

 اللحظة الثانية ذات صبغة ذاتية ومرتبطة، كما قالت المخرجة، مع الاستعانة  ببرنامج إذاعي شهير يعرفه كل المغاربة، ويُبَثّ بعد عصر كل يوم، وفيه يتم إبلاغ رجال غائبين بتطليقهم من زوجاتهم من طرف القضاة، لغيابهم الطويل عن منزل الزوجية.

وهذه النشرة هي التي شكلت المدخل إلى الشريط، حيث يُسمع صوت المذيع وهو يعدد الأسماء. مدخل صوتي كإعلان عن التجسيد الصوري الحي لما يورده في برودة خبرية لا تنبئ عن حقيقة الحياة القاسية التي تعيشها هؤلاء النسوة اللواتي يتحركن بكل حرية، دون أن تكون لهن حرية التحكم في أجسادهن إذا ما رغبن في الزواج. إهن “مُعلقات” بين رجل لا أثر له، ورجل محتمل الوجود إذا ما أتيحت لهن فرصة للزواج. نساء لسن مطلقات ولا متزوجات.

بعد بحث مضن بالقرب من محاكم الأسرة، قرَّ قرار المخرجة على التوجه إلى مدينة ريفية بامتياز، هي بني ملال التي توجد أسفل جبال الأطلس وتطل على سهل جد فسيح، حيث رصدت حالة ثلاث نساء مُعلقات، ورافقتهن مدة طويلة من الزمن، في أوديسا البحث عن التطليق. فسار الفيلم في ثلاث متوازيات حكائية لكل من غيثة ولطيفة والسعدية. والجديد هو أن الفيلم انتقل من مستوى أوَّلي يرصد مشاعرهن وحالاتهن النفسية إلى مستوى أعلى، ليصير متواطئا بصدق مع مصائرهن، حيث تتبعتْ بإمعان الخطوات التي سلكناها كي يتخلصن من الرجل الغائب.

المطلوب، وهذه هي الفكرة الأصلية للفيلم ككل، أو عصب القصة، هو العثور على عنوان الزوج وإثباته في محاضر رسمية، أو تأكيد حدوث الزواج فعلا بإحضار الشهود.

وهكذا تجعلنا المخرجة نغوص في حياتهن المتسمة بانعدام الفهم، الذي يرتسم على وجههن الحائرة، لأنهن أميات لا يفقهن حرفا في المساطر وتعقيدات الوثائق الإدارية. هذا إلى جانب أن لهن حياة خاصة لا بد أن يعشنها بهدوء وسكينة، مع أطفالهن أو في منازلهن.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه المنحى الثاني هو الذي منح الفيلم إبداعيته، إلى حد أن المعركة من أجل تحصيل حقوقهن، تختفي أحيانا من الصورة المقدمة لنشاهد معركة أخرى، هي الصراع من أجل البقاء رغم كل شيء.

هنا تَوازّ حكائي ثانٍ يحدثه الفيلم. والحق أن المخرجة استطاعت إلى حد كبير الحفاظ على التوازن بين الحكايات الثلاث من جهة، وبين رواية مسار البحث عن التطليق وحكي حياتهن اليومية، بشكل لا يخل بسيرورة الفيلم. وهو أمر ليس بالسهل في السينما، فكم مخرجا يقع، وهو في خضم إعداد الفيلم أو حتى أثناء تصويره أو توضيبه، على تفاصيل مغايرة مليئة بالإثارة، فيزيغ عن هدفه الأول ويسقط في هلهلة غير مرغوب فيها خاصة عندما لا يتم التمكن من هذه التفاصيل.

وفيلم المعلقات مليء بهذه التفاصيل، وتتم مقاربتها بلقطات دالة، في الغالب هي لقطات كبرى للوجوه المتعبَة الحائرة، حيث الصمت المحيط لا يُسكت لغة العيون، حين تنظر إلى الكاميرا، كأنما لتُشهدها على ما يجري. أو لقطات كبرى للأيدي الصامتة هي بدورها، أو الناقرة بتردد على فخذ، كما لو لتشهد على قلة حيلة اليد. فهذه الكاميرا لا تبتعد قط عما تنقله وتحيط به، وتذكرنا كثيرا بكاميرا السينما اليابانية اللصيقة بالأرض. وهو ما نراه كثيرا، فمنازل هؤلاء النسوة، ورغم أنها بعيدة كل البعد عن مظاهر البؤس، إلا أنها تعلن عن فقرّ ظاهر، وبالتالي فهي مؤثثة بحصائر وملايات لا غير.

ولما تضطر الكاميرا إلى مرافقة هؤلاء النسوة، تظل بالقرب، لا تدع تفصيلا إلا وتبينه لتمنح لوحات فنية غنية بالجماليات المؤطَّرة. مثلا، في حقول قطف الفلفل الأحمر الصغير المسمى هنا “منيورة ” والذي يصدر بالكامل إلى الخارج، نرى يدي إحدى “المعلقات” ضمن عاملات تنتقيها وانحناءة جسدها رفقة رفيقاته العاملات، مشرقة الوجه رغم العناء. ويمكن إدراج لقطة حبل الغسيل الفارغ وبجواره امرأة تنظر جانبا، كما لو كانت بصدد البحث عما يملأه.  كل هذه اللقطات وهي كثيرة تندمج مع حكاية كل امرأة على حدة، مانحة العين متعة تجعل الانصات إلى قصصهن أكثر جاذبية.

نتابع قصة إحداهن التي غاب عنها زوجها لمدة ثلاثة وعشرين سنة، وهي تقود عملية بناء منزل لها ولابنها بعد اقتناء بقعة أرض. نراها كما لو كانت تجعل الكاميرا تتحرك أكثر، متسمة بنشاط كبير، وروح صراع لا يفتر. لكن حين تناهى إلى أسماعها أن الزوج الغائب يمكن أن يرث المنزل في حالة وفاتها ولم يتم الطلاق، تشرع في الإجراءات اللازمة. وعلى العكس من هذه، نشاهد الثانية، التي غادرها الزوج بدون إنذار منذ ثماني عشرة سنة، تبدو هادئة وحزينة، تصرح بأن ” المرأة بلا رجل، تكون عرضة للتحقير”، فنرى صورتها وهي جالسة داخل البيت، تحصرها الكاميرا ليس في وسط الصورة بل على يسارها، وهي في حالة تأمل، تنبئ عن الوحدة بوضوح تام.

 ثم هناك قصة المرأة التي  يجب عليها أن تحضر إثني عش شاهدا، كي يتم التطليق، فتفاجأ برفض أخيها المشاركة في ذلك، بدعوى أنه لم يزرها قط عندما كانت متزوجة، وبالتالي فهو لا يعرف زوجها الغائب، فلا يود أن يشهد زورا ! وهذا ليس إلا نموذجا لأساليب الرفض التي لقيناها في مسيرة التحرر.

النظرة السلبية التي يمكن أن تتكون لدى المشاهد تجاه الرجال، نتيجة لما سبق ذكره، ينقص من حدتها وجود رجلٌ واحد أعارهن وقته بالكامل، وساعدهن بكل ما يعرف كي يصلن إلى ما يبتغينه. الا وهو الكاتب العمومي، أي ذلك الرحل الذي يحرر العقود والمواثيق الرسمية والتوكيلات والرسائل الإدارية، كخدمات مؤداة عنها. وقد اكتشفته المخرجة صدفة في إطار تتبعها لهؤلاء النسوة، فصار شخصية محورية، جاذبة سينمائيا. وهو ما يؤكد كلامنا في مقدمة هذا المقال. في دكانه الصغير، وأمام الآلة الكاتبة العتيقة، يضل يرقن، وأذناه تستمع إلى متطلباتهن كي يقوم بإنجاز ملفاتهن القضائية التي سيقدمنها إلى المحكمة. ومن أجمل لقطات الشريط تلك الحوارات الثنائية بينه وبينهن، هن الأميات وهو العارف بالأحوال الشخصية. فهناك شيء من العبث الكافكاوي في تعقيدات المساطر والجمل الإدارية الجامدة الباردة.

وهكذا فالذي كان يمكن أن يكون فيلما وثائقيا يتناول قضية اجتماعية لها امتدادات مأساوية، أصبح أكبر من ذلك، بفضل السينما، أي قطعة فنية سينمائية جميلة. وهو ما يعضد رسالته ومحتواه بشكل أفضل.

Visited 9 times, 1 visit(s) today