فيلم “الكتاب الأخضر”.. اختلاف اللون وتلاقي القلوب
“لدى حلم”.. بهذه العبارة التاريخية ينهي مارتن لوثر كينغ خطاب هو الأشهر في القرن العشرين والذي ألقاه عند نصب لنكولن التذكاري في 28 أغسطس 1963 أثناء مسيرة واشنطن للحرية ومنذ هذا اليوم تأخذ حركة الحريات المدنية في أمريكا منحى جديدا ويبدأ تدريجيا التعايش والتجانس بين البيض والسود بعد عهود من التفرقة العنصرية المقيتة التي سلبت الأقليات حقوقهم في العيش بكرامة وحرية ومساواة .
وربما لا يضارع هذه الخطبة في شهرتها وأهميتها إلا خطبة سياتل زعيم (الدواميش) الهنود الحمر بعد هزيمته المريرة أمام الرجل الأبيض بما فيها من بلاغة وشاعرية وبكاء على وطن سلبه الرجل الأبيض المتغطرس.
يعيد فيلم “الكتاب الأخضر” Green Book قراءة معاناة الأقلية السمراء ذات الأصول الأفريقية في جغرافيا أمريكا المترامية بين الشمال والجنوب ولكن بمعالجة فريدة ومغايرة وملمح كوميدي نابع من قلب المفارقة وعمق القضية وسرد بصري بديع في لغته وأدواته ليستحق الفيلم أن ينافس بقوة على ترشيحات جوائز الأوسكار في دورتها 91 التي تقام فبراير القادم وذلك بعد فوزه بثلاث جوائز جولدن جلوب ( أفضل فيلم موسيقى كوميدي وأفضل سيناريو، وأفضل ممثل مساعد “ماهرشالا على”. كما فاز الفيلم مؤخرا بجائزة رابطة المنتجين لأفضل فيلم لعام 2018، وهي الجائزة هي الرابعة على التوالي.
يعتمد الفيلم على قصة حقيقة حدثت بين شخصيتين ، الدكتور دون شيرلي عازف البيانو الشهير الحاصل على الدكتوراه وأول عازف من أصول أفريقية يعزف بالأوركسترا الوطنية الأمريكية ويلعب دوره الممثل الأسمر الموهوب (ماهرشالا على ) الحائز على الأوسكار عن دوره في فيلم (Moon light) والشخصية الثانية توني ليب سائق الدكتور شيرلي الذي عمل بعد ذلك بالتمثيل وأشتهر بدور رجل عصابات المافيا ويؤدى دوره بأداء ملفت الممثل ( فيجو مورتنيسن) يستمد الفيلم أسمه من كتاب أعده ساعي البريد الأسمر فيكتور هوجو جرين كدليل لسائقي السيارات السمر يحصي فيه المطاعم والفنادق التي يسمح للملونين بدخولها دون التعرض لمضايقة البيض المتنمرين ضدهم .
وتبدأ القصة حين يغلق الملهى الليلى الذي يعمل به توني ليب أبوابه ويصبح عاطلا وفى أمس الحاجة للمال ليعول أطفاله وزوجته (ليندا كاردنيلي) بينما يبحث الدكتور شارلي عازف البيانو الأسمر عن سائق وحارس شخصي له في رحلته الفنية لولايات الجنوب الأمريكي المتشددة ضد الاقلية السوداء وبعد تحريات وسؤال يكتشف شارلي أن توني هو الشخص المناسب كي يصحبه في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر .
وتبدأ الرحلة في سرد أحداثها من خلال كم المفارقات الناتجة عن اختلاف الشخصيتين فنحن أمام عازف بيانو مثقف يجيد العديد من اللغات يحيط حياته بسياج من الارستقراطية ويجلس في بيته على كرسي أشبه بعرش النجاشي لكنه يخفى داخله شعور دفين بالاضطهاد والعزلة بسبب لونه الأسمر.
وفي المقابل السائق توني شخصية نمطية من أصول إيطالية مندفع محدود الثقافة لا يعرف شيئا عن اللياقة وذوقيات التعامل لكنه لا يحمل نوازع العنصرية ولا يجد غضاضة في العمل لحساب رجل أسود لكسب المال مع اعتزازه الشديد بنفسه.
في هذا الوضع الذي تبادلت فيه الأدوار والمعاكس للنسق الاجتماعي الأمريكي في الستينات نجد هذا التكوين الذي يلفت الانتباه يجلس شارلي ببشرته السمراء في كرسي السيارة الخلفي مرتديا حلته الأنيقة متأففاً وعلى المقود سائق أبيض يأكل الدجاج المقلي بنهم ويلقي بالعظام خارج النافذة متجهين للجنوب الذي لا يسمح للسود حتى أن يشاركوهم دورات المياه. من تلك المفارقات يغزل السيناريو خيوطه لنجد خطين متوازيين للصراع الأول بين الدكتور شارلي وتوني بما بينهما من اختلافات شخصية وتباين في تقييم الأمور ورؤية الحياة.
والصراع الثاني بين المجتمع الجنوبي العنصري وهذا الأسمر العبقري الذى لا يسمح له فنه ونبوغه ورقيه في الفكاك من أنياب العنصرية لدرجة أن الوجيه الذى دعاه ليعزف في بيته لا يسمج له بالتبول في مرحاض القصر فيضطر ليعود للفندق في موقف مهين.
ومنظم الحفل لا يسمح له أن يتناول العشاء في الصالة التي يجلس فيها رواد المكان البيض وينصحه بالذهاب لمطعم في نهاية الطريق. لكن شارلي يحافظ على رزانته وثباته أمام تلك التصرفات العنصرية حتى يأتي أهم مشاهد الفيلم الذي يقترب فيه الحوار بين الشخصيتين من جوهر الفيلم وفلسفته.
يوقف شرطي سيارتهم بينما الأمطار تهطل بغزارة ويسأل توني لماذا تسوق لهذا الأسود وعندما يعرف الشرطي أن توني من أصل إيطالي ينعته بأنه من أصل زنجي فيكيل توني له لكمة تتسبب في اعتقالهم وفي المحبس يستنجد الدكتور شارلي تليفونيا بروبرت كيندي النائب العام الأمريكي المعروف بمساندته للحركات المدنية المناهضة للعنصرية والذي يأمر بالإفراج عنهم وعند خروجهم يلوم الدكتور شارلي توني على تصرفه الأرعن بضرب الشرطي.
بينما تونى فرح باتصال بوبي كيندي الذي كفل لهم الحرية لكن الدكتور شارلي يشعر بالحزن لإحراج النائب العام لذنب لم يقترفه في إشارة لرقيه واحساسه بالمسئولية وتقديره لمسلك الأخوين كيندي السياسي والاجتماعي.
يرسم توني على وجه ابتسامه تشي باللامبالاة طالما انه خرج من الحبس هنا ينفعل الدكتور شارلي ويدخلا في حوار حاد مكاشف لما تخبئه الأنفس فشارلي يسمعه الأثرياء كي يشعروا بالثقافة فقط (على حد تعبيره) لكنه حين ينزل من المنصة يعامل كزنجي وضيع لا تشفع له موسيقاه الجميلة وفنه الراقي لينعم بالقليل من المساواة والتقدير وليست هذه أزمته الوحيدة أنه أيضا ليس كبقية الزنوج الذين لا يعرفونه ولا يعيش عيشتهم .
إذا هو غارق في بحر التيه في رحلة البحث عن الهوية.. معلقا في مساحة رمادية بين الابيض والاسود. أما توني لا يقدر معاناته ويحسده على كسب للمال بعزفه للأثرياء ويخبره أن عالمه أكثر سوادا من عالمه فهو الذي نشأ في الحي الفقير ذا برونكس وشب على الكدح والمكابدة ليطعم أطفاله.
مع هذا المشهد الذي وضع بعناية في البناء الدرامي للفيلم تنفرج زاوية الرؤية ونكتشف أزمة هذا البلد الذى يضع على مدخله تمثال الحرية تتصاعد الاحداث ويكتشف كلا منهما الأخر في تلك الرحلة التي تعري هذا المجتمع المليء بالضغائن والامراض الاجتماعية وتبدأ الصداقة تتغلغل في قلوبهم شيئا فشيئا وينقذ توني الدكتور شارلي من بعض المآزق التي قد تودي بحياته وشارلي يساعد توني في كتابه الرسائل الرومانسية لزوجته التي تفتقده حتى أن توني الذي يبحث عن المال يرفض رشوة من منظم الحفل طالما الأمر يتعلق بكرامة صديقة الذي بدأ يتعاطف معه.
نجح السيناريو الكلاسيكي المكتوب بحرفية ملفته في السيطرة على خيوط الدراما حتى اخر مشهد ونجح بيتر فارلي الذى اعتاد أن يقدم أفلام الـlight comedy في ضبط إيقاع متوازن لم تشذ نعماته طوال مشاهد الفيلم علاوة على العناصر البصرية الذي وضعتنا في أجواء الستينات بكل ملامحها والموسيقي وشريط الصوت الدافئ المطعم بأغاني الستينات . أما أداء فيجو مورتنيسن وماهرشالا على – السهل الممتنع كان أهم مقومات نجاح الفيلم والذي أعتقد أن الأوسكار سيكون من نصيب أحدهم . لم يكن فيلم “الكتاب الأخضر” مجرد فيلم عن قضية العنصرية بل أنه رحلة العثور على الانسانية في القلوب واكتشاف الأخر ودليل مرئي على أن المحبة والصداقة ليس لهم لون أو عرق.