فيلم “القاريء” وسؤال الذنب الإنساني

يتخذ فيلم “القاريء” (2008)The reader  للمخرج البريطاني ستيفن دالدري، من سؤال الذنب الألماني تجاه المسألة اليهودية مُتكئاً لسؤال ذنب أعظم، سؤال العجز الإنساني في أعمق صوره وأكثرها تشوشاً وغياماً، سلسلة الأخطاء التي لا يستطيع أحد أن يحول دون أن تُسبب الإيذاء للآخرين سواء كانوا أحبة، أو غرباء.

ثمة نموذجان هُنا “هانا شميت” الحارسة الألمانية صاحبة السطوة العاطفية والجنسية والإنسانية (تقوم بدورها كيت ونسليت)، التي تتحوّل من عاشقة نزقة إلى جلادة للسجينات اليهوديات ومُحكومة بتُهمة المشاركة في قتل بعضهن، والصبي “مايكل بيرج”، الذي “ليس جيداً في فعل أي شيء” كما يصف نفسه ويصير من صبي عاشق لامرأة تكبره وتقوده في العلاقة الجنسية إلى محامي مهزوم في عمقه، يُشارك في القتل المعنوي لعشيقته السابقة بعجزه عن الإدلاء بشهادة حقيقية كان يمكن أن تنقذها من مصير مفجع في المحاكمة، لأنه لا يستطيع أن يدفع ثمن هذه الشهادة.

مَنْ الذي يتحمل الذنب؟ مَنْ أكثر إنسانية؟.. الذي يخوض قاعات الدرس ويعيش وضعاً مرموقاً داخل مُجتمعه لأنه محامي، أم السجينة التي تعترف بأشياء لم ترتكبها فقط لأنها شعُرت بالعار، لأن “الموتى لن يعودوا”. ثم مَنْ يعوض عجزه؟ بيرج الذي يعرف كي يُهديها بديلاً عن صمته شرائط مُسجلة بصوته للروايات التي تحبها ولا تُجيد قراءتها، أم شميت التي تدفع ثمن اختيارها أكثر من مرة، ببذخ من حياتها ثم بميتتها حين تختار الانتحار من فوق الكُتب التي صارت الآن للتو تُجيد قراءتها بعد جهد مُضنٍ لم يساعدها فيه أحد.

مزيد من العجز

إن شميت التي تبرعت بالأموال القليلة التي كانت تملكها للسيدة الوحيدة الناجية من المحرقة اليهودية كنوع من الاعتذار المُتأخر، تدفع بهذا التصرف بيرج للدخول في حوار كاشف مع هذه السيدة، الحوار سيضع حداً للأسئلة، إنه إذا أراد الإنسان التطهر فإنه يمكن أن يلجأ للأدب، أو للمسرح، لكنه لا يستطيع أن يلجأ إلى المُعسكرات، لأن المُعسكرات ليس وراءها شيء، أي شيء، إنها مزيد من العجز عن النجاة، أو الإنجاء.

هذه السيدة لم تعد تملك أن تمنح الغُفران، وشميت كان يمكن أن تنتحر قبل أن تشارك في هذه المحرقة، وبيرج كان لديه إمكانية أن يُصارح المحكمة بمعرفته أن هانا لا تُجيد القراءة ولا الكتابة، وبالتالي فإنها لم تكتب التقرير الذي نقلها أمام المُحكمة من مشارك في فعل القتل إلى فاعله الأصلي، هذا كله عجز، وفيما تواجه شميت بشجاعة عجزها بقضاء مدة العقوبة وتعلم القراءة من أجل الاغتسال بالأدب، واجهه بيرج بضعف أكبر حين اكتفى بالقراءة لهانا من بعيدْ هو الذي كان يزدري في أول علاقتهما فعل القراءة ويعتبره مملاً، وكأنه أيضاً يغتسل بهذه القراءة، هذا الاغتسال نفسه الذي يُعيد للذهن الطريقة التي كانا يمارسان بها الجنس معاً في الحمام، حيث مكان الاغتسال الدائم، الاغتسال بالجنس، ومن جديد تصبح هانا هي الفاعل الأصلي والمُحرك كما كانت على الفراش، وفي القراءة كجزء من الفعل الجنسي بينهما، بينما بيرج يُشارك بنبرة ليست عالية في تحريك الحدث.

مارست شميت الفعل طوال الوقت، في الذنب وفي التكفير، فماتت مرتاحة البال، بينما كان بيرج رد فعل، حمل سر علاقته بها كذنب عاش يختنق به، ربما أدى انتحارها إلى محاولته تحرير السر، لكن هذا لن يعود يُغير شيئاً إلا في أزمته هو، إنها الاختيارات التي تُدفع أثمانها الآن أو فيما بعدْ، بما يُكافئها أو بما يزيد عليها لا فرق، وربما يكون الفيلم نفسه _والمأخوذ عن رواية لكاتب ألماني هو “برنارد شليك”_ في عمقه ليس إلا وسيلة للتعامل الحضاري مع سؤال الذنب الألماني سعياً للتطهُر، وكأنه نوع من الاحتماء بالذنب لمواجهته، مواجهة العجز.

Visited 16 times, 1 visit(s) today