فيلم “العنكبوت”.. الفصل الأخير من أسطورة أحمد السقا

د. ماهر عبد المحسن

منذ بداياته الأولى دخل السقا عالم النجومية من باب أفلام الحركة، ونجح في تثبيت أقدامه في هذا اللون من الفن السينمائي بدرجة جعلته النجم الأبرز، بل والأوحد في هذا المضمار. ساعده في ذلك خلو الساحة من نجوم الأكشن القدامى بحكم السن، واتجاه الأجيال الجديدة إلى الكوميديا والرومانسية. أضف إلى ذلك التكوين الجسماني الرياضي للسقا الذي تميز به عن أبناء جيله، مع جرأة ومهارة خاصة في تنفيذ مشاهد الحركة الخطرة.

والمفارقة أن السقا بدأ بالأدوار الثانية في الأفلام الكوميدية والرومانسية مع أبناء جيله خاصة محمد هنيدي، ما جعل البعض يعتبره امتداداً لنجم الزمن الجميل أحمد رمزي، وفيما يبدو أن السقا قد أحب هذا التشبيه فقام بتقديم برنامج تلفزيوني يحمل اسم “الاستاذ والتلميذ” يحاور فيه أحمد رمزي، ويدلي رمزي بشهادته حول مرحلة مهمة في تاريخ السينما المصرية.

غير أن مقارنة السقا برمزي تجافي الكثير من الحقائق، لعل أبرزها عدم اعتماد رمزي على بنيانه الرياضي وإجادته لأفلام الحركة فقط، ولكن على خفة ظله وقدراته التمثيلية، التي تفوق قدرات السقا. ربما كان أداء رمزي واحداً في معظم أدواره، لكنه كان حريصاً على التنوع في اختيار موضوعات أفلامه. وبهذا المعني كان يمكن لرمزي أن يستمر ويقدم أدواراً تناسب سنه، مثل فريد شوقي ورشدي أباظة، لولا أنه آثر الاعتزال مبكراً.

وهنا تكمن مشكلة السقا عندما اعتمد على مهاراته الرياضية فقط، ولم يعمل حساباً للزمن. لقد كان السقا يملك ذكاءً فنياً واجتماعياً، بحيث كان يعمد إلى العمل مع مخرجين لديهم رؤية إخراجية مثل شريف عرفة وعمرو عرفة وساندرا نشأت ومروان حامد، كما كان حريصاً على أن يشاركه البطولة ممثلون بارعون في أدائهم التمثيلي، مثل خالد صالح وخالد الصاوي وعمرو واكد وخالد النبوي، دون أن يخشى المقارنة التي كانت تصب، دائماً، في صالح الآخرين!

لقد عمل السقا، طوال مسيرته الفنية، على صنع أسطورته الخاصة، وهي أسطورة يختلط فيها الفني بالواقعي، الحقيقي بالخيالي. فقد هداه ذكاؤه الاجتماعي إلى القيام بدور “الجدعنة” في الوسط الفني، بحيث كان حريصاً على مشاركة زملائه نجاحاتهم بالظهور كضيف شرف في معظم الأعمال التي يقومون ببطولتها، ما جعلهم يطلقون عليه “صاحب صاحبه”.

والسقا يعاني، فيما يبدو، من فرط النشاط والحركة، فتراه في لقاءاته يتحدث بسرعة ويتحرك بسرعة، ما يعني أن ثمة طاقة زائدة تحتاج إلى توجيه. والحقيقة أن الأمر، على هذا النحو، قد جعل السقا يبدو أحياناً كطفل عندما ظهر في برنامج الألعاب “أجمد واحد” أمام أحمد رزق وارتسمت علي ملامحه علامات الإحباط والخجل بنحو لا يتناسب مع بساطة الموقف كونه مجرد لعبة!، أو كبطل مغوار عندما ظهر في برنامج تلفزيوني آخر أثناء ثورة يناير وطالب شباب الثوار على الهواء بأن يختاروا زعيماً من بينهم، وهو قادر علي أن ينزل إلي الميدان وأن يأخذه تحت حمايته الشخصية إلي الاستوديو للتعبير عن مطالبهم، هذا بالرغم من أن السقا نفسه لم يكن من الثوار، ولم يكن له نشاطاً سياسياً سابقاً، ولم يًعرف عنه موقف سياسي واضح من قبل!

وفي السياق نفسه، استطاع رامز جلال، زميل دراسته، أن يستفز فيه أوهام القوة والنزوع نحو ما هو بطولي أو خارق للعادة عندما وضعه وجها لوجه أمام أسد حقيقي في برنامج المقالب رامز “قلب الأسد”، وعندما وضعه في عرض البحر في مواجهة سمكة قرش غير حقيقية في برنامج “رامز قرش البحر”، الأمر الذي جعله يفقد السيطرة على انفعالاته ويعتدي بالضرب على رامز وعلى أحد مصوري البرنامج. إن خلط السقا بين البطولة الفنية والبطولة العضلية، وبين الانتصارات التي علي الشاشة وتلك التي تجود بها مواقف الحياة الحقيقية جعله يضع نفسه في الكثير من الحرج ويتحمل عبئاً نفسياً كبيراً عندما يتورط في مواقف حياتية تكشف للناس، الجمهور بخاصة، أنه شخص طبيعي يمكن أن يخاف من الوحوش الكاسرة ويخسر في ألعاب الكومبيوتر كأي إنسان لا يمتلك قدرات خارقة!

لقد وصفه طارق لطفي بالجنون، في تنفيذه لمشاهد فيلم “تيتو” الخطرة، واعترف بأنه لا يجيد أداء الحركة مثله، وقال عنه شريف منير، بصدد الحديث عن فيلم “إبراهيم الأبيض”، إنه يصعب اللحاق بالسقا لأنه في كل مرة يرفع سقف التحديات. والملاحظ أن كلا النجمين لطفي ومنير لا يجدان حرجاً في الاعتراف بضعف إمكانياتهما البدنية والحركية قياساً بقدرات السقا، لأنهما يعتمدان على قدراتهما التمثيلية الحقيقية وهو ما يضمن لهما الاستمرار على مر الزمن.

لا يمكننا أن ننكر اجتهاد السقا وإخلاصه في المنطقة الفنية التي يجيدها، أعني منطقة الأكشن، وهي بلا شك تحتاج إلى مجهود بدني ونفسي كبير، ويكفي أنه في فترة ليست بالقصيرة كان يسد فراغاً كبيراً في نوعية أفلام الحركة قبل ظهور أحمد عز ومحمد رمضان وأمير كرارة، وكان لاختياراته الموفقة دوراً مهماً في صنع تاريخ السقا وشعبيته الكبيرة لدى الشباب. ربما لم يكن السقا بالذكاء الفني الكافي بحيث يتحول من أدوار الحركة إلي الأدوار الإنسانية بنحو ما فعل فريد شوقي، لكنه كان يملك من الوعي ما جعله يخوض تجارب سينمائية أخري مثل الكوميديا التي قدمها في فيلم “بابا” أو الرومانسية التي قدمها في فيلم ” عن العشق والهوى” أو الجمع بينهما وبين الأكشن كما في ” تيمور وشفيقة” و”ابن القنصل”.

والحقيقة أن السنوات الأخيرة حملت تحولات خارجية في تكوين السقا، ترهلات في الجسم وخشونة في الصوت، من شأنها أن تؤثر بالسلب على أدائه الحركي ومن ثم نجوميته التي صنعها من خلال أدوار الأكشن. وضح ذلك في مسلسلي ” نسل الأغراب” و”الاختيار ٣”، فقد بذل في “نسل الأغراب” مجهوداً كبيراً في محاولة تجسيد دور مركب يجمع بين الخير والشر غير أن الحركة الداخلية لم تسعفه لأن اللياقة النفسية، غير المدربة بما يكفي، لم تكن علي نفس مستوي اللياقة البدنية التي كثيراً ما كانت تقف وراء تألقه ونجاحاته السابقة. كما أن نظرة متأملة للكادرات التي كانت تجمع بين السقا وكريم عبد العزيز وأحمد عز في “الاختيار٣” من شأنها أن تكشف لنا عن الفروق الجسمية التي تصب في صالح عبد العزيز وعز، بالإضافة إلى أن النجمين يجيدان خلق التوازن بين الحركتين الخارجية والداخلية، أي بين ما هو بدني وما هو نفسي، خلافاً للسقا الذي اعتمد علي ناحية واحدة من القدرات فأصيبت الأخرى بالكسل.

إن الشواهد كلها كانت تقول بأن السقا يعاني مشكلة في الأدوار التي لعبها مؤخراً، وأن المستقبل يبدو غامضاً. فهل يمضي في الطريق نفسه ويؤدى كبطل خارق أم يتخلى عن أحلام القوة ويؤدي كإنسان عادي يعاني مشكلات الحياة اليومية البسيطة؟

كان من الممكن أن نعثر على الإجابة في فيلم “العنكبوت”، الذي عُرض في السينما مؤخراً، لولا المدي الزمني الطويل (ثلاث سنوات) الذي كان بين تاريخ إنتاج الفيلم وتاريخ عرضه، فالذي شاهدناه على الشاشة كان ماضي السقا الذي لا يزال يحمل شيئاً من اللياقة والقوة التي اعتدناها منه كنجم متألق في أفلام الحركة والتشويق، بل يمكننا أن نقول إن “العنكبوت” هو ذروة التجسيد للبطل الخارق الذي كان يحلم به السقا، والذي كان بمثابة الوقود المحرك لمعظم أدواره.

فلا يخفى على المشاهد دلالة اسم العنكبوت عندما يقترن بالإنسان ليصبح سبايدرمان spider man، فالمعني هنا يتجاوز التفسير الذي ورد على لسان إحدى شخصيات الفيلم بأنه ينصب شباكه حتى يوقع الفريسة في حبائله. المعني الذي يتسق وأسطورة السقا هو المعني الأمريكي الذي يرادف فكرة البطل المخلّص، التي عمل السقا على تجسيدها طوال الوقت في السينما وفي الواقع. ونعتقد أن عدم إدراك محمد ناير كاتب السيناريو لهذه الحقيقة قد أضاع على السقا وعلى السينما المصرية فرصة تجسيد بطل خارق يحمل مواصفات أمريكية لكن بنكهة مصرية، خاصة أن حجم الإنتاج كان معقولاً، ومخرج الفيلم أحمد نادر جلال أجاد في تنفيذ مشاهد الحركة بشكل مبهر علي مستوي الصورة. وقد كان من قبيل الاستسهال الاعتماد علي تيمة “الأب الروحي” المستهلكة، ونهاية تحمل التواءة تغير من مفهوم المشاهد عن الأحداث، فالثغرة الكبيرة التي أفسدت أحلام السقا اللاواعية، واحبطت آخر محاولة لتحقيق أسطورته الكبرى هو المبرر الثأري الشخصي الذي كان وراء حربه الضروس التي شنها على عصابات المافيا التي تتاجر بحياة الأبرياء.

إن عرض فيلم “العنكبوت” بعد مسلسل “نسل الأغراب” وبالتزامن، تقريباً، مع مسلسل “الاختيار٣” يحتم على السقا أن يعيد التفكير في أعماله القادمة. فالذين يحبونه سوف يقبلون منه أي اختيار، والذين يحترمونه لن يقبلوا منه أن يسقط في خيوط العنكبوت التي نسجها حول نفسه!

Visited 13 times, 1 visit(s) today