“السباحتان” و”عائشة”.. رحلة البحث عن وطن
رياض حَمَّادي
في منتصف شهر نوفمبر 2022م، صدر فيلمان عن اللجوء الإنساني، الأول بعنوان “عائشة” (Aisha)، ويصور الصعوبات والمشاق التي تواجهها لاجئة نيجيرية في أيرلندا، والثاني بعنوان “السباحتان” (The Swimmers)، كتابة وإخراج الويلزية من أصول مصرية سالي الحسيني وشاركها في كتابة السيناريو جاك ثورن، وهو مقتبس من السيرة الذاتية للسباحتين السوريتين سارة ويسرى مارديني ورحلتهما للبحث عن وطن بديل تتمكنان فيه من تحقيق حلمهما في المشاركة في الألمبياد للسباحة، ثم لم شمل الأسرة في وطن آمن.
متن السلام وهامش الحرب
يفتتح فيلم “السباحتان” بمشهد لإحدى ضواحي مدينة دمشق، عام 2011م، في مسبح فخم يسبح فيه مجموعة من الأطفال والعائلات وهم مبتهجون. تظهر في هذا المشهد سارة ويسرى مارديني (منال ونثالي عيسى) وهما تتمرنان على السباحة. وفي أول إشارة لتعكير هذا الجو السلمي المرح نرى لعبة، على شكل صاروخ، تستقر في قاع المسبح. وفي المشهد التالي نرى الأختين وهما في طريقهما إلى البيت، في حي يبدو للأثرياء. تصلان للبيت على مفاجأة للاحتفال بعيد ميلاد يسرى. وبينما يحتفل الجميع ويرقصون نرى سارة وهي منشغلة بمشاهدة أحداث بداية الثورة السورية، على اليوتيوب. تأتي أمها (كندة علوش) لتحثها على مشاركتهم الاحتفال، تغلق اللابتوب وتقول لها: “أنا كم مرة قلتلك ما تتفرجي على هيك شغلات؟” ترد سارة: “اللي صار بتنوس ومصر وليبيا بيصير هون.” تجيب الأم: “وأنا قلتلك هيك شي مستحيل يصير بسوريا.”
بعد قطع زمني للانتقال إلى عام 2015م (بعد أربعة أعوام من الثورة) نرى سارة ويسرا وهما تحتفلان في ملهى ليلي على سطح فندق بصحبة الأصدقاء والشراب وأغاني “دي جي” راقصة.. الجميع يرقصون ولا تشغل بالهم الحرب التي تدور في مكان يبدو في خلفية الكادر بعيدًا عنهم. الشيء الذي يقلق يسرى، في هذه المرحلة، هو أن تعود مع أختها لتستيقظا مبكرًا للتدرب على السباحة من أجل المشاركة في الأولمبياد، بينما تحثها سارة على البقاء؛ فلا جدوى من السباحة في بلد مدمر، وفق ما جاء في الحوار.
بعد جولة رقص تقرأ سارة على الموبايل خبر مقتل رفيقتهم “رزان حداد” في انفجار، لكن حدثًا كهذا لا يرسم سوى علامة حزن طفيفة على وجوههم. ففي المشهد التالي تظهر سارة وهي ترقص على إيقاع أغنية عربية هذه المرة. تخرج جسدها من نافذة السيارة وهي ترقص وتصرخ: “رزان حداد ما رح ننساكي”.
القطع الزمني الذي ربط الحدثين (الاحتفالين) ببعضهما يفيد استمرار الوضع ويشير إلى أن الثورة لم تصل بعد إلى هؤلاء الذين يعيشون في عالم آخر. وبهذه المشاهد والحوارات، وما سيحدث لاحقًا، يكون الفيلم قد حدد قصته وموضوعه وموقفه مما حدث في سوريا. يبدو أن صناع الفيلم أرادوا تجنب إثارة الجدل السياسي، فأبقوا على الثورة في خلفية الموضوع الرئيسي وهو قصة هروب الفتاتين ونجاحها في تحقيق حلمهما. مع ذلك ثمة موقف من الثورة السورية تمثل في الإشارة إليها بعناوين يمكن أن تُفهم على أنها ضد ما حدث. من ذلك تجنب تسمية “ما حدث” بأنه “ثورة” وذلك بإشارة سارة إلى “الثورة” بقولها: “اللي صار” وتصفها الأم بأنها “هيك شغلات” و”هيك شي”. من هنا يمكن الحديث عن الفيلم بوصفه رحلة بحث فردية عن وطن بديل من أجل تحقيق مجد شخصي لم يُتح في الوطن الأم بسبب الثورة التي تحولت إلى حرب أهلية.
الثورة في المشاهد السابقة مجرد هامش في خلفية الصورة، خبر على اليوتيوب أو صواريخ تطلق من بعيد وتبدو وكأنها ألعاب نارية تشارك المحتفلين بهجتهم، بينما الموسيقى والرقص هما سيدا المشهد، والهم الشخصي والوطني مسيطر على ذهن سارة ويسرى بداية من الانشغال بالسباحة والحلم بالمشاركة في الألمبياد باسم سوريا، وانتهاء بالتخطيط للخلاص الفردي بالهجرة إلى ألمانيا ثم لم شمل بقية أفراد الأسرة وهذا ما حدث في الأخير.
لكن الثورة التي كانت تُشاهدها سارة على اليوتيوب، وكانت خلفية لمشهد راقص، اقتربت من الحي الذي تقطنه عائلة مارديني، وأصبحت بعض المضايقات وأخبار موت الرفاق لا تطاق وهذا ما دفع سارة ويسرى للتخطيط للرحيل. وبعد محاولات يقتنع الأب (الممثل الفلسطيني علي سليمان) بالسماح لهما بالسفر عبر البر. لكن تتغير الخطة بالاتفاق مع مُهرب لتهريبهم من الساحل التركي إلى ساحل جزيرة لسبوس اليونانية مع مجموعة من المهاجرين على متن قارب مطاطي.
غابة من سترات النجاة
لدى صناع الفيلم رغبة في خلق تجربة نجاح نابعة من معاناة. وقد نجح الفيلم في تصوير المراحل القاسية التي يقطعها اللاجئ من أجل الوصول إلى بر الأمان مع ما يمكن أن يتعرض له من مخاطر أصبحت معلومة للمشاهد الذي يسترجعها في ذهنه كخلفية يقارنها بما يراه في الفيلم. وبهذه المقارنة يتحقق التشويق والتعاطف والمشاركة الوجدانية.
يتعطل محرك القارب ويتعرض- على ما يبدو من حوارات الركاب- لتسريب مائي يهدد القارب بالغرق فتقرر الأختان السباحة وجر القارب حتى بلوغ شاطئ جزيرة لسبوس اليونانية. ومن هناك يخوض الجميع مغامرات مع مهربين آخرين ويتعرضون للخداع حتى الوصول إلى برلين.
جر قارب إلى الشاطئ وهو محمل 18 شخصًا عمل بطولي جبار، لكن الفيلم في هذه الجزئية يخالف ما حدث في الواقع الذي سبق ليسرى أن كتبته في مقالة لها على موقع “المفوضية السامية للأمم المتحدة” (UNHCR). كتبت مارديني: “تناوبنا على السباحة لتخفيف الحمل عن القارب وساعدنا في تحويل اتجاهه نحو الأمواج لتفادي انقلابه.. وبقينا نسبح لأكثر من ثلاث ساعات وكان الجميع يتضرعون إلى الله. وفي النهاية، عادت الحياة مجدداً إلى المحرك لنتمكن من الوصول إلى الشاطئ.” وهو عمل بطولي أيضًا، لكنه أكثر واقعية وإقناعًا مما رواه الفيلم.
في مشهد على ساحل جزيرة لسبوس وبلقطة من الجو نرى غابة من الملابس وسترات النجاة. يعطينا هذا المشهد فكرة عن عدد الناجين الذين وصلوا إلى هنا ويضمر عددًا مماثلًا، أو أكبر، من الذين غرقوا في البحر ولم يتبق منهم سوى سترات نجاة، وهذه حقيقة نعرفها من نشرات الأخبار.
بعد وصولها إلى ألمانيا تحاول يسرا الاشتراك في أولمبياد ريو باسم سوريا، لا باسم اللاجئين- مع ما قد تلمح إليه هذه الإشارة من دعم للنظام الحاكم- لكنها تقتنع في الأخير لتفوز في أولمبياد ريو 2016- وهو ما لم يحدث في الواقع- ثم تشارك باسم اللاجئين أيضًا في أولمبياد 2020م. ومن خلال السرد المكتوب في ختام الفيلم نعرف بقية قصة عائلة مارديني بوصولهم إلى ألمانيا ليعيشوا هناك بسلام، بينما توجه لسارة تهمة تهريب اللاجئين من خلال عملها في منظمة لمساعدة اللاجئين في جزيرة لسبوس.
الفيلم بعناصره كافة (سيناريو وإخراج وتمثيل.. إلخ) جيد. وموضوعه عن البداية الجديدة والطموح الذي لا تقف الحرب في طريقه، وعن المشاق التي يواجهها اللاجئ في رحلته إلى بر الأمان. تلك الرحلة التي لا تنتهي بالوصول إلى ذلك البر؛ فما زال هناك رحلة نفسية طويلة شاقة ومؤلمة داخل بلد اللجوء نشاهدها في فيلم “عائشة”.
رحلة لا تنتهي بسهولة
يصور فيلم “عائشة” حالة لجوء إنسانية لا يمكن إثبات مصداقيتها، في نظام مؤسساتي لا يعتمد العواطف كمرجعية وإنما الأوراق والإثباتات. والهدف من هذا الفيلم الروائي المتخيل هو تقديم نموذج لبرود النظام وبيروقراطيته المكبلة بالمستندات، مقابل رغبة اللاجئ في الاحتفاظ بكرامته والتعبير عنها بصورة يفهمها النظام الآلي بأنها تمرد. ثمة معركة بين الطرفين ينقلها مضمون القصة وتعابير عائشة الجامدة وصمتها: بين رغبة النظام في استنطاقها لتقول ما يود سماعه وبين صدقها ورغبتها في عدم فتح الجرح. مع ذلك لا يبالي النظام بما تقول عائشة وإنما بضرورة إثبات ما تقول. من جهة ثانية تعتقد عائشة أنها بوصولها إلى مكان مثل أيرلندا يعني نجاتها من الخطر الذي يتهددها في وطنها نيجيريا.
لتخفيف حدة جليد النظام يقدم الفيلم شخصية معتدلة متعاطفة مع عائشة هو كونر الذي يطور معها علاقة صداقة ويتعاطف معها ويقدم لها كل وسائل الدعم النفسي والمعنوي. وبعد مرور أكثر من سنة على طلبها تقدم الأحداث دليلًا على جمود النظام، بمقتل أُم عائشة في نيجيريا، ما يؤكد أن قصة عائشة حقيقية وأن المصير نفسه ينتظرها لو أنها عادت إلى هناك. لكن مع هذا الدليل لا تتراجع عزيمة النظام لينتهي الفيلم كما هو متوقع: نهاية مفتوحة وعائشة تنتظر اجتماعًا آخر بعد سنتين. الانتظار قاتل بالنسبة لطالب اللجوء، أما بالنسبة للنظام فمجرد وقت روتيني يشبه النظام الآلي الذي تسير به إجراءاته.