فيلم “الحصان البري” الركض في سهول الإنسانية
وراء الأسوار العالية وبين الزنازين العامرة بعتاة المجرمين والقتلة يحاول فيلم الحصان البري أن يبحث عن فضائل البشر في أندر أماكن تواجدها.
وسط صحراء نيفادا الأمريكية المترامية التي تركض فيها الخيول البرية يقبع ذلك السجن كمقبرة واسعة للحرية تقاد إليها جموع المساجين والخيول التي تم صيدها. لكننا مع هذا الفيلم نجد أنفسنا أمام محاولة جادة للانعتاق من سجن الذات و قيود الخطايا التي تكبل هذا الكائن البائس وتسجنه خلف أسلاكها الشائكة، فنرى ذلك الرجل الذى يمتطى صهوة حصانه الجامح في محاولة أخيرة لتخطى الحواجز والخلاص من عذابات الخطيئة التي أدمت قلبه.
يرصد فيلم “الحصان البري” The Mustang(فرنسي بلجيكي ناطق بالانجليزية) هذه المعاناة بكاميرا مرهفة ولغة بصرية ساحرة وحبكه لا تعبأ بصلابة روابطها.
لست جيدا مع البشر
يبدأ الفيلم بلقطات متتابعة للخيول البرية التي ترعى في السهول مطمئنة حتى تظهر مروحية سوداء تحاول اقتياد الخيول للحواجز الحديدية. وفي تلك المطاردة الكبيرة ذات اللقطات الواسعة، ترسم الكاميرا لوحات للوديان الممتدة التي تجرى فيها أنهار الخيول وسط العشب الجاف خائفة من هدير المروحية.
تسوق الطائرة قطعان الخيول وتدخلها للحواجز وبعد أسرها تنقل لمزرعة ليتم ترويضها ثم بيعها في مزاد علني، في الجهة المقابلة تحاول الأخصائية النفسية استنطاق ذلك السجين الصامت الذى تظهر في عيونه علامات الاكتئاب والانعزال أملاً في إعادة تأهيله وعودته للمجتمع، لكنه، ورغم محاولاتها المتكررة، لا يتجاوب معها ويخبرها أنه ليس جيد مع الناس، فترسله إلى تلك المزرعة التي تستخدم السجناء لترويض الخيول البرية الشرسة.
هنا نمسك ببداية الخيط الدرامي حيث تساق الخيول الجامحة المتوحشة لنفس المكان الذي يرسل إليه هؤلاء السجناء في مقابلة مقصودة وربط واضح بين مصير تلك الخيول وهؤلاء البشر الذين جمعهم التمرد على قيد الانسياق، ليكون هذا هو المنطلق الذي ينحت منه السيناريو مضامينه وينسج خيوطه الدرامية.
يقوم الممثل البلجيكي (ماتياس شونارتس) بدور السجين رومان كولمان الذي قضى في السجن 12 عاما جراء الاعتداء على زوجته وإصابتها بالشلل تاركاً ابنته مارثا (جدعون أدلون) تخدم تلك الأم القعيدة التي يحيا بذنبها في هذا السجن. ومما يزيد ألمه ذلك التأنيب الذي يراه في عيون ابنته حين تزوره وتحاول أخذ توقيعه على بيع بيت العائلة.
نجح ماتياس بأداء ملفت في تجسيد تلك الملامح التي يكسوها الندم والاكتئاب وعدم الاكتراث بالمصير والزهد في أي متعة، لكن الأمل يعاود تسلق تلك الملامح الجامدة حين يختاره “مايلس” مدير برنامج ترويض الخيول الذي يقوم بدوره بروس ديرن، ليكون أحد المروضين ويسوقه حظه العاثر الى أن يرتبط بأكثر الخيول عنادا وجموحا.
ماركيز
ماركيز هو الاسم الذي يطلقه على هذا الحصان الحرون الغاضب الذي يفشل في ترويضه في بادئ الأمر رغم توجيهات هنري (جيسون ميتشل) السجين الأسمر صاحب الخبرة في ترويض الخيول. وفى إحدى محاولاته السيطرة على الحصان يكاد أن يدهسه فيقوم بلكمه غاضبا فيعاقب بوضعه في الحبس الانفرادي وهناك يحصل عن طريق المقايضة على مجلة للفروسية وترويض الخيول يتعلم منها مهارات التعامل مع الخيول. وفي مشاهد الحبس الانفرادي ينتقل المونتاج بين مشاهد لرومان وهو يضرب بقبضته جدار زنزانته، والحصان وهو يركل قفصه الصفيحي محاولاً الهروب في دلاله تؤكد ارتباطهما بنفس المصير، وعندما تهب عاصفة رعديه يخرج رومان لانقاذ الخيول وبعد نجاحه في حمايتها من الهلاك يأخذ فرصة جديدة لترويض هذا الحصان العنيد وبعد محاولات ومحاولات يصاب بالإحباط والحنق من عدم استجابة الحصان له وفشله في السيطرة عليه لكن تحدث المفاجأة ويأتيه الحصان من تلقاء نفسه يحمحم بالقرب منه وكأنه يعتذر له عن ما بدر منه. يحتضن رومان حصانه في مشهد ناطق بروعة التواصل بين مخلوقين يحاول كلا منهما السيطرة على طباعه الجانحة من أجل الأخر.
تسير الأمور على ما يرام حتى يطلب شريك رومان في الزنزانة أن يسرق له المخدر المستخدم في تهدئة الخيول مهدداً بإرسال عصابته لقتل ابنته في الخارج إن لم يستجب. وبالفعل يسرق له المخدر لكن هنري يكتشف الأمر ويمنع رومان فيؤدى ذلك لمقتله بعدة طعنات فيضاعف هذا من حزن هنرى وانعزاله عن العالم ليسجن مرة أخرى داخل نفسه بعد أن حاول أن ينتقم من قاتل رفيقه.
الرجل/ الحصان
يحاول السيناريو الذى كتبته مخرجة الفيلم الطموحة لوري دي كليرمونت مع بروك نورمان ومونا فاستفولد، أن يكرس لفكرة توحد الحصان والسجين فكلاهما لهما نفس الطباع ونفس الرفض لفكرة الاندماج بين البشر والتمرد على القيود، كلاهما يحمل طاقه التحرر والانعتاق حتى وإن كلفهما الأمر الحياة نفسها.
رصدت الكاميرا بمهارة ملحوظة ذلك الحزن الذائب في عيون الحصان الواجمة وكأنه استمد عذاباته من عيون مدربه. وتتوالى المشاهد البليغة داخل هذا الفيلم منها حينما يطلب سجين أن يصور رومان وابنته عدة صور كانت خلفيتها على جدار لمكان مفتوح مشرق رغم أنه في قلب السجن.. تلك المفارقة البصرية التي دلت على ثمن الحرية الغالي حين يحرم منها الانسان.
وربما كان من أهم المشاهد التي صاغها كتاب الفيلم حين تجتمع الاخصائية النفسية المسؤولة عن إعادة التأهيل بالمذنبين وتسألهم عن الفارق الزمنى بين التفكير في الجريمة وتنفيذها فيجيب معظمهم بأنها كانت ثوانٍ معدودة فصلت في مصيرهم طيلة الحياة. ولعل تقطيع هذا المشهد كان له أثر بليغ في خلق هذا الإيقاع المؤثر عند إجابة كل منهم على هذا السؤال الذي انتهى بدموع البطل التي لم تأتى بدافع الندم بقدر ما جاءت دليلاً عن زهده في هذا العالم الذي لا يريد أن يلحق به. ويذكرنا المشهد بمشهد الممثل مورجان فريمان في فيلم “الخلاص من شاوشنك” وهو يحاور لجنة الافراج عنه بمنطق ناضج علمته له السنوات الطويلة في السجن.
عدسة شاعرية
يجمع الفيلم بين نوعين من الأفلام، أفلام السجون التي ترصد يوميات السجناء وصراع البطل مع عصابات المساجين خلف الأسوار وأفلام الغرب الأمريكي western حيث امتطاء الخيول والانطلاق في الوديان الفسيحة، تلك الضدية المكانية منحت الفيلم بعضا من الخصوصية في تنوع أماكن التصوير، لكن السجن بالنسبة لبطل الفيلم لم يرتبط بضيق أو اتساع المكان بقدر ما ارتبط بتلك القضبان النفسية التي سجن البطل خلفها.
نجحت كاميرا روبن امبس في خلق إيقاع بصري متزن بين الأماكن الضيقة المقبضة بإضاءتها الكابية الصفراء والاماكن المفتوحة ذات العمق البصري وخاصة في مشاهد مطاردة الخيول وكما رصدت الكاميرا الفضاء وامتداده خارج السجن أجادت أكثر في رصد ذلك الخواء الممتد داخل البطل بلقطات قريبة اقتنصت تعبيرات الألم الداخلي. ونجحت مخرجة الفيلم في تضفير تلك اللقطات بلغة شاعرية صاحبتها موسيقى تصويرية معبرة أعطت الصورة عمقا دراميا ووقعا سحريا وإيقاعا متوازنا.
أزيز الطائرة
يحشد السيناريو لمشهد المزاد الذى تباع فيه الخيول بعد ترويضها لتخدم في الدوريات على حدود الولايات. يمتطى رومان حصانه بمهاره تبهر الجمهور، يبحث عن ابنته بين الجماهير فلا يجدها وفجأة تمر مروحية أعلى حلبة المزاد فيهيج ماركيز بعد أن أخافته الطائرة التي أودت به لهذا السجن، يقفز في الهواء مسقطاً رومان الذي أصيب في وجهه. يقرر الطبيب البيطري إعدام ماركيز لكن رومان ينجح في تهريبه رغم أن هذا سيحرمه من حريته واللقاء بابنته وحفيده.
رومان ربما كانت روحه هي التي تزفر في جسد هذا الحصان المنطلق لرحابة البرية. نحن أمام فيلم اجتمعت فيه المفارقات لتؤكد في النهاية أن في التسامح خلاص البشرية ولكن الكثيرين لم ينتبهوا.