فيلم “أصحاب ولا أعز”.. اختيار بين رذيلتين!
بعد ساعات قليلة من عرض فيلم “أصحاب ولا أعز” على منصة نتفليكس يوم الخميس الموافق ٢٠/١/٢٠٢٢، ثار لغط كبير على مواقع التواصل الاجتماعي حول الفيلم وصل إلى حد السب والقذف، بل ورفع الدعاوي القضائية ضد صناع الفيلم باسم الفضيلة والدفاع عن الأخلاق والتقاليد، والسبب يرجع إلى وجود مشهد لمنى زكي فيه إيماءة جنسية، ووجود شخصية مثلية، بالإضافة إلى بعض الألفاظ النابية بنحو ما نوهت منصة نتفليكس نفسها على الشاشة.
وفي المقابل، تصدى البعض، ممن يرون في أنفسهم مثقفين مستنيرين، لهذه الهجمات المتخلفة باسم الدفاع عن الفن وحرية الإبداع، والحقيقة أن ليس بالضرورة أن يكون أحدهما على صواب والآخر على خطأ، فكلاهما على صواب وفقا لقناعاته الخاصة، وللمنظومة الأخلاقية التي يصدر أحكامه على أساسها. ومن الواضح أن قضية الخلط بين الفن والأخلاق ستظل مطروحة في مجتمعاتنا العربية، لأن التنشئة والتربية، منذ البداية، لا تفصل بين المجالين، بالرغم من أننا في تصرفاتنا اليومية نقوم بهذا الفصل، بحيث نؤمن بالكثير من القيم ونسلك بنحو لا يتسق وهذه القيم!
وفي كل الأحوال، فإن الملاحظة الجديرة بالتأمل هي أن هناك قطاع لا يُستهان به من كلا الفريقين لم يشاهد الفيلم، فيما يبدو، أو شاهد أجزاءً منه، أو اكتفى بالإعلان الدعائي، وربما قرأ ما كتبه الآخرون وتابع ما أُثير حول الفيلم من جدل في وسائل الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وحاول أن يشارك في هذا الجدل، ربما من باب إثبات الوجود أو ركوب الموجة أو تحقيق شهرة أو مشاهدات أو إعجابات، كما هو الحال دائما كلما جد حدث يحمل شيئا من الإثارة، أو عُرض فيلم فيه شيء من الجرأة في الموضوع أو التناول.
والحقيقة التي لن نستطيع أن ننكرها أن هذا النوع من الأفلام الذي يثير الجدل، وينقسم حوله الجمهور إلى مؤيد ومعارض، لا يمكن تناوله بنحو منصف دون وضع هذا الخلاف في الاعتبار، وأي ادعاء بالعلمية أو الموضوعية لا جدوى منه في مثل هذا السياق، ويمكن قول الشيء نفسه فيما يتعلق بدعاوى “الفن للفن” والبحث في الجماليات الخالصة للعمل دونما اعتبار للمضمون ومدى اتساقه مع الأخلاق العامة من عدمه.
فحقيقة الخلاف تنشأ من أحادية النظرة، لأن المؤيدين يضعون الاعتبارات الفنية في الصدارة، والمعارضين يضعون الاعتبارات الأخلاقية في الصدارة، ويأبي كلا الفريقين أن يجمع بين النظرتين. ونحن من جانبنا نرى أن جزءا من عمل الناقد أن يبحث في أسباب هذا الخلاف، وأن يضع نفسه مرة في مكان المؤيد ومرة في مكان المعارض، مستخدما أدواته التحليلية، للوقوف على الكيفية التي يفكر بها هؤلاء وهؤلاء من خلال الكشف عن الرسائل المضمرة في الخطاب البصري الذي يحمله العمل.
وبهذا المعني، سوف نلجأ إلى نوع من القراءة المزدوجة للفيلم، نأمل أن تسهم في إلقاء مزيد من الضوء على طبيعة العمل وحقيقة الخلاف حوله.
- الفيلم من الناحية الفنية:
فيلم ” أصحاب ولا أعز” يقوم ببطولته، منى زكي وإياد نصار وعادل كرم ونادين لبكي ودايموند عبود وجورج خباز، وفؤاد يمين، والإخراج والسيناريو والحوار لوسام سميرة في أول تجاربه الإخراجية، ويعتبر الفيلم النسخة التاسعة عشرة للفيلم الإيطالي Perfect Strangers. وتدور أحداثه حول مجموعة من الأصدقاء، الذين يجتمعون على العشاء في بيت أحدهم في واحدة من الليالي الفريدة، التي يكتمل فيها القمر ويتعرض للخسوف في الوقت نفسه. يجتمع الأصدقاء لقضاء وقت ممتع ومشاهدة لحظات الخسوف، غير أنهم يقدمون على لعبة خطرة عندما يقررون أن يضع كل واحد منهم هاتفه المحمول على طاولة العشاء بحيث يتلقى الرسائل والمكالمات على مرأى ومسمع من الجميع.
تتكون المجموعة من ستة من المتزوجين وشاب أعزب، وتكمن خطورة اللعبة في أنهم يقامرون بحياتهم الخاصة في ظل أجواء متوترة بين الأشخاص الذين تربطهم علاقات زواج (شريف ومريم، زياد وجنى، وليد ومي)، وكذا ربيع الشاب الأعزب الأكثر هدوء.
منذ عنوان الفيلم يمكننا أن ندرك أن الأحداث تضع المعني الحقيقي للصداقة على محك الاختبار، وتميز بين ” الأصحاب” و “أعز الأصحاب”، فالأصحاب هم الذين يكتفون في علاقاتهم بمجرد الصحبة، وبهذا المعنى لا يقبلون بعضهم إلا في صورتهم النقية، أما أعز الأصحاب فهم الذين يقبلون بعضهم رغم عيوبهم. وعلاقة الأصحاب مؤقتة وسريعة الزوال مثل علاقات الدراسة والعمل، أما علاقات أعز الأصحاب فتستمر على مدار العمر، وأصحاب الفيلم بمقياس الزمن ( عشرون عاما) هم أعز الأصحاب، لكن هل هم كذلك بالفعل بمقياس التجربة والاختبار؟ أي هل يمكن لدرجة المعزّة أن تجعل الأصحاب يتجاوزون عن عيوبهم وضعفهم الإنساني مهما كانت فداحة الأخطاء التي يرتكبونها من جراء هذا الضعف؟
- السيناريو والحوار:
يحاول الفيلم أن يجيب عن هذه الأسئلة بجرأة لم نعهدها كثيرا في السينما العربية، ويستغل قضية الخصوصية في ظل وسائل التواصل الاجتماعي، لتكون محورا لاختبار مدى صلابة الصداقة بين أعز الأصحاب. وفي هذا السياق، ينجح الفيلم في نسج خيوط اللعبة الخطرة بمهارة شديدة، وجاذبية يُحسد عليها، من خلال مجموعة من الشخصيات خفيفة الظل، وتتمتع بقدر كبير من الذكاء والثقافة، ما ساعد السيناريو علي طرح العديد من القضايا الاجتماعية والإنسانية، منها قضية اللغة التي تنشأ عندما يتعامل المغترب، للوهلة الأولى، مع أهل البلد بلغتهم المحلية، والمفارقات التي يمكن أن تنشأ عن ذلك. ويمكن أن نفهم الفيلم برمته باعتباره كيانا مغتربا يخاطب المجتمع الذي يتوجه إليه بالخطاب بلغة من شأنها أن توقعه في اللبس وإساءة الفهم، أوأن الفيلم لم يحترم اللهجة الأخلاقية المحلية لأبناء هذا المجتمع، مما دفع هذا الأخير للانقلاب عليه!
وفي سياق الحديث عن اللغة لا يفوتنا أن نشيد بالحوار الذي جاء سريعا ومتداخلا بنعومة بين الشخصيات علي اختلاف تفكيرها ومشاعرها، ما صنع حالة من الهارموني (الانسجام) تناسبت مع حركة الكاميرا وتقطيع المشاهد. والذكاء الذي اتسمت به لغة الشخصيات يجعلنا نتوقف كثيرا عند بعض المواقف منها إصرار شريف ( إياد نصار) علي تصحيح عبارة “كسوف القمر” إلي “خسوف القمر”، في إشارة ذكية إلى أن تدهور الأوضاع تجاوز مرحلة “الكسوف” ووصل إلى درجة “الخسوف” ، وقد أكدت الزوجة مريم (منى زكي) المعنى نفسه عندما علقت على عبارته بنفس المنطق التهكمي قائلة ” اللي اختشوا ماتوا”. وفي حوار آخر حول طبيعة القمر الذي هو مزيج من النور والظلمة، يعلق شريف بأن الظلمة هي حقيقته!
إننا، إذن، أمام شخصيات مأزومة منذ البداية، ما يجعلها تتصرف وكأنها تستعد لمعركة ما مخبأة في طي الغيب.
ومن القضايا الاجتماعية التي تم طرحها للنقاش فكرة الإنجاب، فقد رأى البعض أنها فكرة أنانية لأن الشخص ينجب أبناءً في الصغر حتى يقوموا علي خدمته عندما يكبر ويشيخ في المستقبل، ورأى البعض الآخر أنها فكرة مقحمة على حياة الإنسان الراغب في الخلود، لأن الإنسان يستطيع أن يحقق خلوده بنفسه ودون مساعدة الأبناء، بينما رأى البعض الثالث أن الأطفال نعمة وأن السعادة لا تكتمل إلا بهم، بالرغم من شقاوتهم والأعباء التي يشكلونها علي الآباء.
- الأداء التمثيلي:
على مستوي الأداء، أجاد جميع الممثلين، دون استثناء، في أداء أدوارهم، خاصة في النصف الثاني من الفيلم الذي حمل الكثير من التصادمات العنيفة بين الشخصيات عندما بدأت الجوانب الخفية في الظهور حتى وصلت إلي درجة الفضح والتعري. كان يحدث ذلك بينما يتوارى القمر تدريجيا ليختبئ نوره خلف ظلمة دامسة، في مفارقة تجعل بعض الشخصيات تعزي إليه ما آلت إليه أحوالهم المخجلة!
قدمت منى زكي واحدا من أفضل أدوارها، خاصة في المشهد الذي اكتشفت فيه، على سبيل الخطأ، أن زوجها مثلي الجنس، كما قدم إياد نصار أداءً عبقريا في المشهد نفسه، خاصة نظرته الحائرة التي كان ينقلها بين زوجته المنفعلة وصديقه الشاذ الحقيقي من ناحية، وبين أصدقائه الذين آثروا الصمت من ناحية أخري. ويحسب للمخرج قدرته علي إدارة حركة الممثلين ببراعة من يقود فرقة موسيقية، وضح ذلك في لحظات ضحكهم وصمتهم وردود أفعالهم المعبرة جدا كلما افتضح أمر واحد منهم.
- الرؤية الإخراجية:
على مستوى الصورة نجح المخرج في التغلب علي محدودية المكان، الذي انحصر في السفرة والمطبخ وحديقة المنزل الصغيرة، بانتقالات الكاميرا السريعة على الوجوه وأطباق الطعام وشاشات الموبايلات بحيث لم يشعر المشاهد بالملل، ومر الوقت، الذي قارب الساعتين، سريعا.
جاءت الكادرات موفقة جدا في توظيف لعبة الموبايلات لخلق حالة من التوتر والتشويق، بحيث كان المشاهد يترقب اللحظات التي يرن فيها هاتف أحدهم حتي يشهد المفاجآت الجديدة والكيفية التي سيتعامل بها سيئ الحظ الذي سيرن هاتفه! ونجح في التدرج برسائل الهواتف ومكالماتها حتى وصل إلى الذروة مع نهاية الأحداث، كما نجح في أن ينقل إلى المشاهد خطورة المبالغة في الاعتماد علي الهواتف المحمولة التي تخترق حياتنا، ومعني أن تكون كتابا مفتوحا أمام الآخرين حتي لو كانوا أعز الأصحاب.
انتهى الفيلم بعد أن تصالح الجميع مع أنفسهم، وعاد كل منهم إلى سيرته الأولى وكأن شيئا لم يكن! وكأنهم كانوا في كابوس ثقيل ما لبثوا أن صحوا منه. وفيما يبدو فإنهم لم يتطهروا ولم يتعلموا من الدرس، فقط اعتمد كل منهم على تسامح الآخرين واحترامهم لحريته وضعفه الإنساني، غير أن هذا التسامح لم يكن كافيا للتغيير، وإنما أصبح مبررا للاستمرار في تكرار الأخطاء ذاتها!
وينقلنا هذا إلى منظور الأخلاق لنعيد قراءة الفيلم من زاوية المعارضين.
– من الناحية الأخلاقية:
خلافا للنظرة الجمالية التي تهتم بجانب الشكل في العمل الفني، ترتبط النظرة الأخلاقية بالمضمون. وعلى مستوى المضمون يحتوي فيلم ” أصحاب ولا أعز” على العديد من القضايا الأخلاقية ذات الحساسية الخاصة.
وقبل الدخول في تفاصيل هذه القضايا ينبغي أن نضع في الاعتبار أن الفيلم من إنتاج شركة نتفليكس، وأن الأعمال التي تنتجها هذه الشركة لها مواصفات خاصة لا تتفق وعادات وتقاليد المجتمعات العربية، لأنها تروج للابتذال والإباحية والشذوذ.
ومن هذا المنطلق جاء فيلم “أصحاب ولا أعز” يشبه كيانا ممسوخا، لأنه لا يشبهنا ولا يعكس روح الشرق المتدين بالفطرة فينا، لكنه يجنح نحو النموذج الغربي في المسكن والمأكل والملبس والسلوك. ويمكنك أن تلحظ ذلك في تصميم المطبخ الأمريكاني وفي الأزياء والسيارات، وفي العلاقات الإنسانية الحميمة، كما في تبادل القبلات والأحضان بين الأصحاب رجالا ونساءً، بل ومناقشة أدق الأمور الخاصة على مرأى ومسمع من الجميع، بالإضافة إلى شرب الخمور بنحو ربما يفوق شرب الماء!
بعيدا عن منطق الفن لا يمكن التعامل مع الفيلم ببراءة الأطفال، فثمة رسائل مضمرة يحتشد بها، وكلها مخالفة للأخلاق والأعراف الشرقية العربية، لأنها ترتبط بالسمات المميزة لإنتاج نتفليكس: الابتذال، الإباحية، الشذوذ. فكيف استطاع صناع العمل أن يمرروا رسائلهم بنعومة دون أن يشعر بها المشاهد البري؟!
المفارقة أن المشاهد الحصيف استوقفته إيماءة منى زكي الجنسية التي لم تتجاوز الثواني المعدودات على الشاشة، في حين أن الفيلم يذهب بالمشاهد إلي مسافات أبعد من الغواية والابتذال!
اعتمد الفيلم علي حيلة فنية ماكرة ترتد بأصولها إلى أرسطو الذي عرّف الفضيلة بأنها ” الوسط بين رذيلتين” ، ومع بعض التحريف تصير الفضيلة عند صناع الفيلم “واحدة من الرذيلتين” ، فالفيلم يضع المشاهد، في كل مرة، بين خيارين أحلاهما مر، أي بين رذيلتين أقلهما رذيلة!
- الابتذال
وإذا عدنا إلي مثلث الخطايا الذي أرست قواعده منصة نتفليكس، فسنجد، منحيث الألفاظ المستخدمة فإن هناك ألفاظا مبتذلة ترددها الشخصيات كثيرا بحيث تألفها الأذن منها لفظ مقزز، تكرر كثيرا، واستخدمه إياد نصار قرب نهاية الفيلم بصيغة المبالغة بشكل لم يضف للفيلم شيئا بقدر ما أثار النفور في نفوس المشاهدين، والمشكلة تكمن في أن الفئات العمرية الصغيرة يمكن أن تلتقط هذا اللفظ وتضيفه ألي قاموسها اليومي بحيث تستخدمه في حواراتها العادية كما حدث من قبل مع كثير من الألفاظ.
والكيفية التي يتم بها تمرير الألفاظ المبتذلة تكون عن طريق الحيلة التي أشرنا إليها منذ قليل ” الخيار بين رذيلتين” وهنا نجد الألفاظ المبتذلة جنبا إلي جنب مع اللكنة الأجنبية، ولا سبيل أمام المشاهد سوي أن يختار (يتأثر) واحدا من الاثنين، العامية المبتذلة أو الأجنبية المغتربة، وغالبا سيختار المشاهد العادي، خاصة إذا كان صغيرا في السن، اللفظة المبتذلة.
- الإباحية
لم يعتمد الفيلم كثيرا على الصورة، ولكن على الحوار الذي كشف عن العديد من العلاقات غير المشروعة التي خاضتها شخصيات الفيلم مثل علاقة زياد (عادل كرم) بنيكول التي أسفرت عن حملها سفاحا، وعلاقته بمي (نادين لبكي) زوجة صديقه الأعز وليد ( جورج خباز)، وعلاقة جنى ( دياموند عبود) زوجة زياد بصديقها السابق التي استمرت بعد زواجها ووصلت إلى حد أن يأخذ رأيها، كناصحة أمينة، في إقدامه علي ممارسة الجنس مع أخرى، وعلاقة شريف ببنت مراهقة ترسل له صورها بالبيجامة علي الموبايل، وعلاقة زوجته مريم بشخص لا تعرفه وتراسله عن طريق الشات لإشباع رغباتها كأنثى بعد أن أهملها الزوج. هذا بالإضافة إلى الموضوعات الحساسة التي تم طرحها ومناقشتها بصراحة وحميمية كما في حوار وليد مع زوجته حول لجوئه لجلسات علاج لضعفه الجنسي، أو بصراحة وفكاهة كما في حوار مي مع الأصحاب حول إقدامها على إجراء عملية تجميل في الثدي، أو بصراحة ووقاحة كما في المشهد الذي تحدث فيه وليد إلي ابنته المراهقة التي كانت تأخذ رأيه في أن تنام مع صديقها في منزله أم لا!
وبهذا المعنى، نجد أنفسنا أمام حزمة من العلاقات الإباحية المتشعبة، التي إن دلت علي شيء إنما تدل علي هيمنة روح الانحلال والفوضى، التي جعلت كل الأطراف تتصرف بنحو غير مسئول، بحيث تعالج الخطأ بخطأ أكثر فداحة، وتكمن الخطورة في تلك النعومة والأريحية التي يتصرف بها الأصحاب تجاه بعضهم البعض، فهناك منظومة شيطانية مثيرة، لا تخلو من جاذبية.
واذا اقتربنا أكثر من سلوكيات المجموعة ودققنا النظر فيما اقترفوه من آثام سنجد أنفسنا طوال الوقت أمام رذيلتين إحداهما أخف وطأة من الأخرى، ولكنها ليست أخف في منظومة القيم والأخلاق بعامة. فإذا لم تقبل أن تمارس البنت المراهقة الجنس مع صديقها فستقبل حوارها الصادم مع الأب ومنحه لها حرية الاختيار، وإذا لم تقبل علاقة زياد الآثمة مع نيكول فستقبل علاقته العاطفية مع مي، وإذا رفضت أن تنصح جنى صديقها فيما يتعلق بحياته الجنسية فربما تقبل هذه العلاقة دون الخوض في هذه الموضوعات.الشذوذ
الشذوذ
يمكن أن يُقال الشيء نفسه في مسألة الشذوذ، وهي القضية الأكثر حساسية، وإثارة للنفور والجدل، فلسبب غير معروف يحظى هذا الموضوع بمساحة كبيرة للطرح في أعمال نتفليكس، فقد سبق لها أن عرضت، في العام الماضي، فيلما من ثلاثة أجزاء ( شارع الخوف) حول المثلية. وفيلم “أصحاب ولا أعز” يجعله بطريقة مستترة الخيط الأساسي في العمل برمته، فيمهد له جيدا، ويسخر معظم عناصر العمل من أجل خدمته، وبالرغم من أن البطولة جماعية إلا أني لا أبالغ إذا قلت إن ربيع (فؤاد يمين)، الشاب المثلي، هو البطل الحقيقي للفيلم. فقد منحه السيناريو أهمية خاصة منذ الدقائق الأولى وحتى الدقائق الأخيرة من الفيلم، ويكفي الاحتفاء المبالغ فيه الذي لقيه من نساء المجموعة في أول ظهور له، بالإضافة إلى السمات الشخصية الجذابة التي حرص صناع العمل على إضفائها عليه، فهو شاب وسيم ، هادئ الطبع، عقلاني التفكير، ويبدو بين أصدقائه صاحب الحكمة السديدة والرؤية الأعمق بالرغم من اختلافهم معه في كثير من الأمور، حتي لقّبه البعض بالفيلسوف! ليس هذا فحسب بل إن ربيع يعيش حياة منظمة ويهتم بصحته، لدرجة أنه يتابع تمارين رياضية منتظمة من خلال أحد تطبيقات الموبايل بحيث يمارسها دون خجل، في الشارع، أو في وجود الآخرين.
وربيع، كما يصوره الفيلم، إنسان على درجة عالية من الحساسية التي تجعله يبدو، في بعض الأحيان، كطفل برئ ما أكسبه قدرا كبيرا من التعاطف. وضح ذلك في المشهد الذي تم فيه دعوة جميع رجال المجموعة من قبل صديق مشترك، للاشتراك في لعبة جماعية، دون أن يتلقى هو الدعوة نفسها، الأمر الذي أغضبه، وجعله يعبّر عن غضبة بطريقة تشبه غضب الأطفال. وفي الوقت نفسه يتمتع ربيع برجولة وشجاعة كبيرين من الناحيتين الأدبية والعضلية، وضح ذلك عندما اعترف على نفسه بأنه الشخص المثلي المستهدف بمكالمة الموبايل، وليس صديقه شريف الذي تلقي المكالمة عن طريق الخطأ، كما وضحت رجولته العضلية عندما قام بكسر باب الحمام بضربة قوية من قدمه لحظة انهيار جنى، بعد أن عجز الرجال الطبيعيين جميعهم عن فتح الباب، في إشارة إلى أن الشذوذ لا يتعارض مع الرجولة، أو أن الشذوذ الحقيقي لا يكمن في المثلية وانما في خيانات الرجال ونذالتهم بنحو ما رأينا في الكثير من سلوكيات رجال المجموعة!
وكان من الممكن للأمور أن تمضي دون تحفظ لولا تلك النهاية التي حرص الفيلم على أن يجعلها بمثابة بيان أخلاقي جديد يرحب بالرذيلة ويضفي المشروعية على الشذوذ. فشريف يربت علي كتف ربيع ويطالبه بأن يرفع قضية على الجامعة التي فصلته بسبب مثليته، وجنى تنصحه بأن يجعل صديقه المثلي له وحده، ودون اعتبار للآخرين، وفي مشهد معبّر يوقف ربيع سيارته علي جنب الطريق فجأة، ويخرج ليمارس رياضته الصباحية علي إيقاع الموبايل في إشارة إلي انتصار الحرية التي لم يحظ بها سواه من بين الأصحاب (المتزوجين) الذين مازالوا أسرى علاقاتهم الأسرية وخياناتهم السرية!
وتظل القضية، في التحليل الأخير، مسألة اختيار بين رذيلتين: إما أن تكون زوجا خائنا أو مثليا مخلصا، أن تنحاز للفن أو للاخلاق، أن تنتمي للأصحاب أو للأعز، أن تستمر في مشاهدة نتفليكس أو أن تلغي اشتراكك!