“فيديريكو فيلليني: جنون السينما”

محمود عبد الشكور

مثل كثيرين من عشاق السينما، توقفت طويلا عند أفلام المخرج الإيطالي الفذ فيديريكو فيليني، وصرت مفتونا بعالمها الساحر، منذ المشاهدة الأولى لها، سواء في قصر السينما، أو في المركز الثقافي الإيطالي.

أدهشتني أعمال لا تشبه إلا نفسها، ولا يقنع صاحبها بالسرد التقليدي، وإنما يقدم سردا حرا غريبا، ويصنع دوما حياة موازية للواقع، مستخدما لغة السينما بكل إمكانياتهأ، صوتا وصورة وحركة.

ومن عجب أنه كان يؤثر ويمتع، رغم أن معظم مشاهداتي المبكرة لأفلامه كانت بدون ترجمة على الشريط، لا عربية ولا إنجليزية، ورغم أن أبطال فيلليني لا يتوقفون عن الكلام، إلا أن الصورة عنده لوحات ثرية بالدلالات، ورغم أن بعض تلك الأفلام شاهدتها مرة واحدة فقط، إلا أنني ظللت أتذكر مشاهد بأكملها بكل تفاصيلها البصرية، وخصوصا نهايات تلك الأفلام.

يحق لي إذن أن أحتفي، كعاشق لهذا المخرج العظيم وأفلامه، بهذا الكتاب الصادر حديثا، من تأليف الناقد أمير العمري،

يمكننا الحديث عن أحد أفضل الكتب الصادرة في 2020، عن مرجع شامل لأعمال فيلييني وليس مجرد كتاب، حيث لم يكتف مؤلفه بتقديم رؤيته النقدية الخاصة لجميع أفلام فيلليني كمخرج، بما فيها ثلاثة أفلام روائية قصيرة وفيلم تسجيلي طويل أخرجه بعنوان “مفكرة مخرج سينمائي”، ولكن العمري يقدم أيضا في ثنايا كل قراءة للأفلام، فقرات من قراءات نقدية أجنبية لنفس الأفلام، وترجمات لفقرات منتقاة حول ظروف إنتاجها، وأقوال لفيلليني نفسه حول الفيلم المقصود.

كل اقتباس منسوب الى مصدره، والكتاب عموما يقدم بعد كل فصل المراجع التي اعتمد عليها، ثم يجمع كل المراجع العربية والأجنبية في نهاية الكتاب، ولا ينسى الصور كجزء أساسي يكمل المتن، ويربط النص بصور الأفلام، وإن كان ذلك لا يغني القاريء بالتأكيد عن مشاهد الأفلام نفسها.

الكتاب يقدم كذلك فيلموجرافيا تفصيلية للأفلام التي ذكرت فيه، كما يتضمن ملحقا من أمتع أجزاء الكتاب، يتحدث فيه فيلليني بسرده الشيق عن دخوله عالم السينما من خلال المخرج العظيم روبرتو روسيلليني، ويرد في خطاب بديع آخر على ناقد ماركسي كبير، هاجم فيلم “الطريق”، بشراسة أيدلوجية حمقاء، وهذا الخطاب قطعة أدبية ممتازة، تكشف عن ثقافة فيلليني ووعيه بما يصنع، وهناك أخيرا حوار ممتع مترجم بين فيلليني والروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا، عندما قام الأخير بزيارة المخرج الكبير، أثناء تصوير فيلمه الشهير “ساتيريكون”، وهذا الحوار أيضا لقاء رفيع المستوى بين عقلين متفردين، وما يذكره مورافيا تحديدا في جدله مع فيلليني حول فكرة غرابة التاريخ القديم، وحول تحليل إبداع فيلليني نفسه، يمثل أفكارا لامعة حقا، وتستحق التأمل والمناقشة.

المخرج والإنسان

نحن إذن أمام عرض ونقد وترجمة وجدل مع فيلليني المخرج والإنسان، والاثنان أمر واحد، إذ أن هذا المخرج الذي توفي في العام 1993، يبدو كما لو كان يسكب ذاته في أفلامه، ويبدو أحيانا كما لو أنه يتحرر من ضعفه وعجزه وشعوره بالذنب، بأن يقدم كل ذلك في أعماله.

إنها سينما المؤلف في صورتها الرفيعة، وسينما الفن، ونظرية الكاميرا/القلم في صورتها الناضجة، أي تحويل السينما الى أداة للتعبير مثل الريشة في يد الرسام، رغم أنها فن مكلف للغاية، ورغم أنها محصلة جهد جماعي، ولكن موهبة فيلليني أذابت كل هذه العناصر، وصنعت عالما متجانسا يكاد يدل على مخرجه من لقطة واحدة.

بصمة متفردة سواء في طريقة السرد، أو في استدعاء الماضي، أو في مزج الخيال بالأحلام، أو حتى في التفاصيل الصغيرة، عندما نتحدث عن نساء فيلليني البدينات، وكبيرات الصدور، أو عندما نتحدث عن روحة الساخرة، أو عن احتفاله بفنون السيرك والإستعراض، وعن سخريته من كل المؤسسات.

لذلك أعتقد أن أمير العمري كان على صواب في هذا المنهج المركب، وفي صنع هذا المزيج الذي يقرأ الفيلم، دون أن يفصله عن شخصية وتفاصيل حياة وأقوال صاحبه، ودون أن يتجاهل الرؤى النقدية البديعة لنقاد أجانب، كل واحد منهم يعمق الصورة، ويقرأ ما يراه من زاويته الخاصة.

فالأفلام شديدة الثراء، وبعضها يبدو مثل طبقات من الأفكار والرموز والمجازات، وولع فيلليني بالذات بعلم النفس، وبعالم الأحلام عموما، وبفرويد ويونج بالتحديد، يجعل من المحتم تفكيك رموز بعض الأفلام، مثلما فعل العمري مثلا في قراءته لفيلم”مدينة النساء”، والفيلم أصلا حلم طويل مركب، يمثل بالأساس رؤية فيلليني للمرأة وللنساء.

لكن الكتاب لا يقوم بتحليل وتفكيك الأفلام فيلما فيلما فحسب، ولا يتوقف فقط بالتفصيل عند مشاهد معينة هامة، ولكنه يقدم أيضا ملامح عامة تربط بين الأفلام، وبين مراحل إبداع فيلليني، الذي يبدو بشكل عام قد صنع فيلما واحدا طويلا، بتنويعات مختلفة، وبسمات أسلوبية واضحة، وقد كان مشهورا بإصراره على تصوير كل شيء في الأستديو، ليحكم السيطرة على فيلمه، خاصة عنصر الإضاءة، الذي كان يراه أهم عناصر الفيلم، وكان مشهورا أيضا بأنه لا يسجل صوت الممثلين والحوار أثناء التصوير، لكي يقوم بخلق الحوار من خلال الدوبلاج، وكان لديه فريق عمل معروف، ولديه مكان خاص في استديوهات شينيتشيتا أو مدينة السينما في روما، والتي قدم لها تحية خاصة أقرب الى الرثاء في فيلم”المقابلة”.

الأحلام والذكريات

أهم ما يؤكده الكتاب أن فيلليني، الذي بدا حياته بالمشاركة في كتابة سيناريو فيلم “روما مدينة مفتوحة”، والذي يؤرخ به لظهور تيار الواقعية الجديدة، سرعان ما ابتعد عن الواقعية، وأصبح يصنع مادته من الأحلام والذكريات أكثر من أي شيء آخر.

صار الواقع الخارجي مجرد ملهم بالعودة الى الذات أو الى الماضي، ومن هنا كان هجوم بعض النقاد الماركسيين عليه، لأنهم انتظروا تحليلا للصراع الطبقي في أفلامه فلم يجدوه، بل إن سينما فيللينى بدت منفصلة عن محيطها السياسي المضطرب في إيطاليا، باستثناء فيلمه “بروفة للأوركسترا”، وحتى هذا الفيلم لم يكن مباشرا أبدا، وإنما قدم مجازا للفوضى السياسية في إيطاليا، من خلال فوضى بروفة للعازفين، حيث يحاول المايسترو السيطرة عليهم بدون جدوى.

الملمح الثاني الهام في سينما فيلليني أن ارتباطها بمنطق الحلم والذاكرة، وهما عنصران يعتمدان على التداعي واللامنطق أحيانا، أدى الى تطور السرد الى سرد حر تماما، يفتقد الى التفسير، أو الربط الذي تقوم عليه الدراما التقليدية، بين السبب والنتيجة، بل إن سينما فيلليني عموما تعنى برسم الشخصيات أكثر من ضبط الحبكة، رغم أنه قادر بالتأكيد على كتابة سيناريوهات محكمة الصنع، ولكن التجربة اتسعت، فاتسعت بدورها وسائل التعبير عنها، ولذلك تبدو سينما فيلليني حداثية، لأنها تعكس هذه الطفرة الأسلوبية، بل وقد أثبتت أيضا أن الجمهور يمكن أن يتقبلها، كما حدث في فيلم “الحياة اللذيذة”، الذي نجح جماهيريا، رغم ابتعاده عن البناء التقليدي، وهو أيضا فيلم شخصيات، صارت جزءا من ثقافة القرن العشرين.

هي أيضا سينما حداثية لأنها تعبر عن ذات صاحبها بطريقة قوية وصريحة، وتبرز روحا قلقة لا تكف عن المراجعة والإبتكار، بل ويبدو صنع الأفلام عنده محاولة لكي يفهم نفسه، وامتدادا لحياة الرجل نفسها، في هذه الأفلام يظهر عشقه للنساء، وخيانته لزوجته، ومعاركه مع المنتجين والنقاد والكنيسة والتليفزيون، وفيها هواجس وعقد طفولته، وأحلامه العجيبة، وقد كان يؤكد دوما أن الأحلام هي الحياة الحقيقية، ووجد دوما معادلا فنيا فذا ينقل كل ذلك، وتفنن في الترحال بين الماضي والحاضر، وبين الذات والآخر، وألغى المسافات بين الحلم والواقع، وبين الروائي والتسجيلي، لقد صار حرا شكلا ومضمونا، يقول كل شيء، وبالطريقة التي يحسها، يطلب من الجمهور أن يشعر لا أن يفهم فقط، ويحقق مستوى فنيا رفيعا في ظل الظروف المتاحة.

يتوقف العمري ثالثا عند ملامح شكلية في أعمال فيلليني، مثل ولعه بفن السيرك، وله فيلم هام عنه بعنوان “المهرجون”، كما اكتشف في فترة أخيرة فن الأوبرا، وقدم في تحيته فيلمه “السفينة تبحر”، ومن ملامح سينما فيليني الشكلية: تلك الوجوه الغربية بل والمخيفة أحيانا التي تظهر في أفلامه (ساتيريكون وكازانوفا مثلان واضحان)، لقد كان دوما مولعا بالوجوه، ويراها مرايا عاكسة للشخصيات، ولما يراه فيها، وحتى عندما كان يرسم الوجوه بشكل كاريكاتوري لكي يكسب عيشه في بداية حياته، لم يكن ينقل ملامح وجه من يرسمه كما هي، وإنما يرسمها كما يراها.

وجوه فيلليني ماركة مسجلة، وهي تبدو فعلا وكأنها ترتدي أقنعة، أو كأنها جزء من حلم يراه، ويريدنا أن نراه، في فيلم “كازانوفا” مثلا، اختار فيلليني الممثل دونالد ساذرلاند لأداء الدور لأن له وجها غبيا، وأصر فيللني على أن يحلق دونالد شعر رأسه وحواجبه، ثم رسم حواجب للشخصية أعلى من مكانها الأصلي، وأضاف للوجه أنفا، وذقنا من المطاط، كان يريد مسخ الشخصية، وإبراز تفاهتها وعجزها، رغم فحولتها المدعاة.

الملمح الرابع الهام هو أن هناك جانبا روحانيا ينشد الخلاص في أعمال فيلليني، بل إن أمير العمري يطلق على أفلام فيلليني الشهيرة الثلاثة، “الطريق” و”المحتالون” و”ليالي كابيريا”، مصطلحا لافتا وهاما هو “ثلاثية الخلاص”، وتفسير ذلك مرتبط بالتأكيد بتنشئة فيلليني الكاثوليكية، ورغم أن والده كان غائبا عن البيت، بسبب عمله كتاجر للجملة، إلا أن أمه كانت كاثوليكية محافظة، ورفض فيلليني لسلطة الكنيسة، وسخريته من رجال الدين، لم يهز اعتقاده في البحث عن طريق أوخلاص، بل إن بعض النقاد فسروا فيلم “الطريق” تفسيرا رمزيا مسيحيا، وما شعوره بالذنب الذي يظهر في مغامرات الطفولة، أو بسبب خياناته (أوبمعنى أدق خيانات أبطال أفلامه الذين يعبرون عنه)، إلا أثر واضح لتربيته الكاثوليكية، وإن كانت طريقته في التعبير حرة، وشديدة الجرأة، وقد كان فيلليني أيضا مولعا بعالم الأرواح، ورغم حضور الجسد في أفلامه، إلا أن الروح والحب والبحث عن السعادة من أفكارة الأثيرة أيضا.

الملمح الخامس يتردد كثيرا في تحليلات العمري للأفلام، حيث يبدو فيلليني الطفل والمراهق قويا وحاضرا في أفلام المخرج الكبير، بل ويرى العمري عن حق أن الجنس في أفلام فيلليني هو جنس طفولي وغير صريح، بالذات في فيلم “كازانوفا”، أكثر أفلامه ارتباطا بالجنس، وهناك من يرى أن فيلليني ظل عموما وحتى النهاية حبيس ذاكرة طفولته ومراهقته .

ظل الجنس بالنسبة له مثل اللعبة والإكتشاف، ويمكن أن نضيف أنه حتى في اعترافات فيلليني بخياناته، فإنه يبدو مثل طفل يخشى العقاب من أمه البديلة، وأقصد بذلك زوجته وبطلة بعض أفلامه جولييتا مازينا، لقد كان يرى جولييتا، كما يذكر الكتاب، أقرب الى الأم منها الى الأنثى المثيرة.

يمكن أن نضيف أيضا أن تعلق فيلليني بالنساء البدينات، مرتبط بالتأكيد بالطفولة والمراهقة، فيما يصفه علم النفس “بالتثبيت”، أي ارتباط الجنس بالتجربة الأولي التي تظل ثابتة، وتؤثر على حياة الفرد، مهما تجاوز سن المراهقة أو الطفولة.

حكاء بارع

نحن إذن أمام سينما متفردة مضمونا وأسلوبا، وليس صحيحا أن فيلليني لم يكن يهمه الجمهور، بل كان تشارك الجمهور في تجربته مطلوبا وأساسيا، ولكنه كان يريد التعبير عن نفسه بطريقته، ولأنه كان عبقريا وصادقا، وحكاء بارعا وساخرا عظيما، فقد أحب الكثيرون أفلامه، رغم أنها تخالف كل ما ألفوه، صاروا يرونها عالما موازيا، لايقل أصالة وجاذبية عن الحياة، بل لعلها أكثر عظمة من الواقع، لأنها بعين فنان كبير وفذ.

هذا الذي امتلك موهبة الكذب والخيال، والذي لم يرو أبدا نفس الحكاية مرتين بنفس الطريقة، حتى قال عن نفسه إنه أسوأ شاهد أمام المحكمة، هذا الذي صنع من عجزه عن الإبداع إبداعا ( ثمانية ونصف)، والذي صدم الناس بالمجد الزائف (ساتيريكون)، والذي ألغى المسافة بين السينما والسيرك وفنون العرض (جنجر وفريد والمهرجون)، ظل دوما وفيا لنفسه، وأمضى نصف قرن في استديو سينمائي، وبدا كما لو أنه، كما قال، قد عاش سنة واحدة طويلة.

هذا الكتاب البديع مرجع متكامل بذل فيه أمير العمري جهدا عظيما، لا يمكن أن يفسره الإ الشغف بالسينما، وبالمخرج العظيم، وبعظمة كل فنان موهوب وحر.

لقد أعاد العمري مشاهدة كل أفلام فيلليني، فنقله الينا مكتوبا، أفلاما وحكايات، عرضا ونقدا، جدلا وحوارا.

ليس سهلا أبدا أن يمتعنا كتاب عن أفلام عظيمة، ولكن هذا الكتاب يفعل، وبكل جدارة مستحقة.

فشكرا للمؤلف، وشكرا للأفلام التي ألهمته هذه الكتابة الواعية والمعتبرة، والتي تليق حقا بفيلليني العظيم.

“فيديريكو فيلليني: جنون السينما”، صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت- عمان، 2020.

Visited 7 times, 1 visit(s) today