“فى متاهة الأكاذيب”.. محاولة جديدة للتكفير عن ذنوب الآباء!
لا زلت أتذكر دهشتى وأنا أتفرج للمرة الأولى على الفيلم الوثائقى الشهير” انتصار الإرادة” للمخرجة لينى ريفنشتال، والذى يؤرخ لزيارة أدولف هتلر لمدينة نورمبرج قبل الحرب العالمية الثانية، لحضور مؤتمر حزبه النازى. الصورة لا تكذب،فقد أذهلنى الإستقبال الأسطورى لهتلر، وبدا كما لو أن الملايين تسانده بصدق وبحماس، وأتذكر أن بعض المتفرجين الألمان انصرفوا بسرعة أثناء عرض الفيلم، وكأنهم يشعرون بالخزى والعار من هذه الوثيقة الدامغة التى تؤكد أن هتلر لم يكن بمفرده، وأن الآباء والأجداد تورطوا حتى النخاع (وعن اقتناع لا عن قهر) فى تغذية القومية الألمانية المتطرفة، والتى أدت فى النهاية الى الدمار. شعرت أن الأجيال الأصغر سنا ما زالت تحس بالذنب، وأنها تحاول وستحاول التكفير عن الماضى الأسود.
تجدد هذا الشعور وأنا أشاهد أحد أفضل وأقوى أفلام مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته رقم 37. إنه الفيلم الألمانى ” labyrinth of lies” أو “فى متاهة الأكاذيب” للمخرج جوليو ريتشياريللى، وسيمثل هذا الفيلم المتقن والمؤثر ألمانيا فى مسابقة أوسكار أحسن فيلم أجنبى فى العام 2016، وأحسب أنه يستحق ذلك.
مخرج الفيلم إيطالى مقيم فى ألمانيا، ولكنه وضع نفسه بالضبط على موجة محاولة الأجيال الجديدة التكفيرعن جرائم الآباء، بل إن الفيلم يقول بصراحة إن هتلر لم يكن أبدا بمفرده، وإن هناك ملايين الألمان الذين ساندوه بحماس، وبدون أى ضغوط. هناك عشرة ملايين ألمانى كانوا أعضاء فى الحزب النازى. انهزمت النازية، وحوكم القادة فى نورمبرج ( حوالى 150 شخصية فقط)، ولكن ألوفا عادوا الى أعمالهم وكأنهم لم يشاركوا فى جرائم القتل والإبادة، بل إنه كانت هناك سياسة رسمية تدعو الى إغلاق ملفات الماضى المشين، وليس فيلمنا الهام سوى التوثيق الدرامى لأول محاولة ألمانية قادها مجموعة من رجال العدالة، لفتح ملفات الإبادة الجماعية للنازية فى معسكر أوشفيتز الشهير، أو بمعنى أدق: تسجيل لعميلة تكفير أولية عن الذنب، يقودها جيل الشباب من مواليد 1930، بدعم ومعاونة من احتفظوا بضمائرهم من جيل الآباء، الملوثين فى معظمهم بعار النازية.
الخاص والعام
أذكى ما فعله الفيلم الذى يتمتع بسيناريو مشوق هو أنه انتقل من الخاص الى العام الى الإنسانى بمنتهى السلاسة: من محاولة الكشف عن تاريخ معلم فى مدرسة كان نازيا سابقا يدعى شولتز ، الى توسيع الدائرة لفتح ملف جرائم معسكر أوشفيتز، ثم توسيع الدائرة بشكل أكبر لفحص علاقة الألمان عموما من فئات مختلفة بالنازية. يوهان رادمان أحد وكلاء النائب العام فى فرانكفورت هو الذى سيبدأ البحث، مدفوعا ربما بالفضول، أو بالإنطلاق الى قضايا أخرى، بخلاف قضايا المرور، التى يتم إسنادها لوكلاء النيابة الشباب. رادمان الشاب المثالى الصارم الذى يؤمن بالقانون، والذى ينفذ كلمات والده المكتوبة على صورته، وكأنها وصية بأن يفعل الابن الصواب دائما هو ممثل الجيل الذى ولد عام 1930، والذى سيكون عليه أن يكتشف أكاذيب جيل الآباء وجرائمهم.
فى العام 1958، وعن طريق الصدفة، اكتشف رجل يهودى يدعى سيمون كيرش ، الذى كان معتقلا فى أوشفيتز، أن أحد الجنود فى المعسكر تحوّل بعد الحرب الى مدرس، وأنه يعمل فى مجال التعليم منذ تسع سنوات كاملة. لجأ سيمون الى صديقه الصحفى الجسور توماس جنيكا، ولكن مكتب المدعى العام فى فرانكفورت لم يهتم بالبلاغ، رادمان وحده هو الذى بدأ فى تتبع هذا الخيط، دون أن يدرك أنه دخل الى متاهة من الأكاذيب، وأن هذه المتاهة ستقوده فى النهاية الى حقائق أكثر إيلاما.
ينتقل السيناريو ببراعة، ومن خلال مشاهد قصيرة لا تشعرك بطول زمن الفيلم الذى يزيد عن ساعتين، من عقبة الى أخرى تؤدى الى فتح أبواب الماضى الأسود كله. تتمثل هذه العقبات فى اتجاهات متباينة: المستشار أديناور يريد شخصيا إغلاق ملفات الماضى، والقبض على شولتز يحتاج الى شهود، وسيمون كيرش اليهودى (سجين أوشفيز الذى أخضعوا طفلتيه الصغيرتين لتجارب طبية إجرامية) لا يريد أن يتذكر مأساته، وزملاء رادمان يسخرون من بحثه فى أضابير تتضمن ملفات 8 آلاف ألمانى كانوا جنودا فى معسكر أوشفيتز، وبعض رجال النيابة يعتقدون أن الجيل الشاب لا ينتمى بالقدر الكافى لوطنه، وأنه لايمكن محاكمة جنود ألمان كانوا يؤدون واجبهم العسكرى.
لكن دعم الصحفى جنيكا، وهو من جيل أكبر قليلا من رادمان، ودعم النائب العام العجوز ( الذى يمثل بعض الضمير المتبقى لدى جيل الآباء)، بالإضافة الى قائد عسكرى أمريكى يفتح باب الأرشيف لرادمان لفحص ملفات النازيين القدامى، كل هؤلاء مضافا إليهم سيمون، وأعضاء جمعية ضحايا أوشفيتز، يساهمون فى دفع التحقيق الى الأمام، والى مسافات لم يتخيلها أحد.
من فرد الى ملايين
لم تعد القضية فى شولتز فحسب، ولكن فى أن آلاف المتورطين فى القتل بالغاز فى أوشفيتز يكتشفون تدريجيا: أحدهم مثلا يعمل خبازا، والطبيب السفاح يوسف منجيلى الذى كان يجرى تجاربه على المساجين هرب الى الأرجنتين، ويعود فى إجازات الى ألمانيا، وسط تواطؤ وصمت رسمى. سيقود رادمان فريق التحقيق لتعرية نازيين سابقين استفادوا من سياسة التعتيم، ومن فكرة سقوط الجرائم بالتقادم. شولتز سيكون بداية الرحلة فقط، وسيقال بصراحة أن الأجيال الجديدة لا تعرف أصلا قصة أوشفيتز، وسيقال أيضا بصراحة أن ملايين الألمان كان يؤيدون هتلر بإرادتهم، وأنهه يسيرون مع الحاكم، أو كما قال أحد شخصيات الفيلم :” لو نزلت كائنات فضائية لتحكم ألمانيا، فسيؤيدهم الألمان”!
هنا خطوة واسعة جدا فى مسألة التكفير عن الذنب، ليس فى الإنتقال من شولتز الى جنود أوشفيتز فحسب، ولكن فى مناقشة مسألة ملايين الأعضاء فى الحزب النازى، وفى الشك فى جيل الآباء بأكمله، حيث سيكتشف يوهان نفسه أن والده كذب عليه، فقد قال له إنه كان معاديا للنازية، بينما تكشف الأم لأول مرة أن والد يوهان كان عضوا أيضا فى الحزب النازى، بل إنه سيذهل عندما يعرف أن الصحفى جنيكا نفسه كان جنديا فى معسكر أوشفيتز. صحيح أنه لم يرتكب جرائم قتل أو خنق بالغاز، إلا أنه صمت على ما رآه، حتى والد خطيبة يوهان، كان كذلك من المحاربين القدماء، الذين ارتكبوا جرائم مروعة فى بولندا.
يعلن الفيلم بوضوح أن جيل الآباء موصوم بالعار فى معظمه، وأن النازيين السابقين فى كل مكان، لذلك يشعر رادمان بالعجز، فيستقيل من عمله، ويقرر أن يعمل فى مكتب محاماة، ولكنه فى لحظة مراجعة، يعود الى عمله مؤكدا أن أفضل وسيلة للتكفير عن الذنب هى أن يصنع الصواب. ربما لن يستطيع أن يعيد الضحايا الى الحياة، ولكن يكفى أن يكسر التابو، وأن يواجه جبل الأكاذيب الحالية، بوثائق وحقائق الماضى، يكفى أن يقدم أول خطوة ألمانية لمحاسبة الذات، لأن الماضى لا يموت، ولا يمكن غسيله، ولا تستطيع أبدا تبييض الصورة بمجرد تجاهلها.
خلال خمس سنوات، قاد رادمان، ومكتب المدعى العام فى فرانكفورت عملية تحقيقات موسعة وشاقة، انتهت الى أول محاكمة ألمانية لمجرمى معسكر أوشفيتز فى العام 1963. عشرات الشهود تسابقوا لإدانة 17 نازيا سابقا، والمدهش (كما تذكر عناوين النهاية ) أن من أدينوا فى تلك المحاكمات لم يشعروا أبدا بالندم.
يمزج الفيلم بين الشكل البوليسى والمضمون السياسى والإنسانى، أراه فيلما محكما وجيد الصنع الى أقصى درجة، ليست هناك لقطة واحدة زائدة، إنه فيلم للتكفير عن الذنب الألمانى بالأساس، وليس محاولة لمغازلة اليهود. ليست القضية فى الفيلم مسألة التعويضات التى حصل عليها فعلا ضحايا أوشفيتز فى الفيلم، ولكن القضية فى التخلص من عار الماضى، من خلال جيل جديد يمتلك القوة الإرادة، القضية فى أن يثبت الألمان لأنفسهم وللعالم أن هناك من يرفض ما حدث، ليس لأن بلدهم هزمت فى الحرب، ولكن لأنه أمر يتناقض مع الإنسانية.
هذا فيلم بديع فى مدح الحقيقة ومواجهتها حتى لو كانت مؤلمة، وفى ذم الأكاذيب حتى لو كانت مريحة، هذا فيلم عن استحالة أن تصنع الحاضر إلا بعد تصفية حساب الماضى، عن ضرورة مواجهة الذات والآخر، وعن أهمية أن يكون نخب الحقيقة الذى نتجرعه، هو نخب الحياة ، وقانونها الذى لا بديل عنه.
بعض النازيين السابقين مثل الطبيب يوسف منجيلى لم تصل إليهم يد العدالة، وماتوا فى أماكن خارج ألمانيا، ولكن فتح المدعى العام فى فرانكفورت فعل شيئا جوهريا: لقد بدد مئات الأكاذيب، وحاسب بعض المتورطين، ومحا بعضا من العار، ومنح للألمان أملا بحجم جيل جديد، رفض أن يدفن رأسه كالنعام، فخرج من التجربة الصعبة، أكثر قوة واحتراما.