“فوي فوي فوي”.. مبصر وسط العميان!
محمد كمال
“فوي” كلمة أسبانية الأصل، تستخدم في المباريات الرياضية بهدف التحفيز من جانب المدربين أو التشجيع من خلال المناصرين في المدرجات، لكن في رياضة كرة القدم للمكفوفين التي يطلق عليها “كرة الجرس” لا يتوقف استعمالها للتحفيز فقط، بل يمتد للتحذير حيث أنها تعد ركنا أساسيا في القوانين التي ترتكز عليها تلك اللعبة.
هنا يجبر اللاعبون على نطقها خلال المباراة حتى لا يتعرض اللاعب للإعاقة من دفاعات الخصم، ويترتب على هذا التوظيف اعتماد حكم المبارة عليه في جزئية احتساب الأخطاء أثناء المواجهات المشتركة والمباشرة بين اللاعبين، لهذا جاء اختيار الكلمة بمعناها التحذيري ليكون عنوانا لفيلم “فوي، فوي، فوي” من تأليف وإخراج عمر هلال في تجربته السينمائية الأولى، وبطولة محمد فراج، بيومي فؤاد، نيللي كريم، طه الدسوقي، محمد عبد العظيم وحنان يوسف، ويعد هذا الفيلم الاختيار الرسمي لمصر ضمن ترشيحات جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي.
يقتصر توظيف استخدام كلمة “فوي” على أنه تحذير في قانون كرة القدم للمكفوفين لكن في المفهوم الأشمل للفيلم هو تحذير يدق ناقوس الخطر عما يحدث للطبقة المعدمة من الفقراء، تلك الشخصيات المهمشة التي عبرت عنها بدقة أفلام الثمانينات من خلال مخرجي الواقعية الجديدة الذين انتقدوا تداعيات الانفتاح الإقتصادي مرورا بفترات العولمة ثم الاحتكار وتأثير كل هذا على الطبقات الدنيا، ليس ماديا فقط بل ومعنويا وأيضا سلوكيا، وصولا إلى العقد الثالث من الألفية الجديدة حيث لم يتغيير وضع هؤلاء البشر بل يزداد في السوء، حتى أصبح الفقراء مضطرين لتغيير واقعهم بالجنوح إما للجريمة أو استخدام الخداع وابتكار طرق للتحايل، بالمعنى المصري الدارج “الفهلوة” ويأتي في مقدمة طرق التحايل إدعاء الإعاقة، وهو ما ترتكز عليه فكرة فيلم “فوي، فوي، فوي”.
فكرة الفيلم جديدة وطازجة ولم تقدم من قبل بهذه المساحة في الأفلام المصرية، فقد اقتصرت فكرة إدعاء الإعاقة على خطوط أو تفاصيل في بعض التجارب كما فعل المخرج خيري بشارة في نهاية فيلمه “آيس كريم في جليم”، والمخرج أحمد السبعاوي في فيلم “المتسول”، وصولا إلى حيلة خالد دياب وماجد الكدواني في “طلق صناعي”. لكن بمرور الوقت والدخول في العقد الثالث من الألفية الجديدة، واستمرار التراجع القيمي والأخلاقي الذي بدوره يسير بالتوازي مع الابتكارات المستمرة في طرق التحايل، وصل الحال بأن يتحول المبصر إلى كفيف من أجل السفر خارج مصر.
فكرة الفيلم مستوحاة من أحداث حقيقية انتشرت أخبارها في الصحف حين أكتشف أن بعثة منتخب مصر لكرة الجرس المشاركة في بطولة العالم في بولندا، وأفرادها بالكامل من المبصرين وليس المكفوفين كما تقضي المنافسة، وكانت الواقعة أثناء فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسي، ومن هنا جاء قرار المخرج عمر هلال بالإلتزام بالفترة الزمنية وهذا لسببين الأول، المستقبل الضبابي الذي سيطر على الجميع في تلك الفترة، والسبب الثاني بالطبع لظروف رقابية.
ينحاز فيلم “فوي، فوي، فوي” للمهمشين، وهو ما يميزه، فقد عاد لطرح الهموم الخاصة بتلك الطبقة المنسية، وقام المؤلف والمخرج عمر هلال بتقسيم شخصيات الفقراء إلى نوعين، النوع الأول هم الذين يحاولون تغيير واقعهم، كما يفعل البطل حسن “محمد فراج”- الشاب الفقير الذي يعمل حارس أمن ويحاول بشتى الطرق السفر إما عن طريق الدخول في علاقات غرامية مع السيدات الأوروبيات العجائز، أو الهجرة غير الشرعية، ثم من خلال شخصية عادل “بيومي فؤاد” الذي يعمل مدرسا للتربية الرياضية ويبحث عن وظيفة أفضل، وأيضا خطيبة حسن التي اختارت الزوج الأنسب، وصديق حسن الثالث “أمجد الحجار” الذي يمتلك “سايبر” لكنه مجرد ساتر لبيع الأفلام الإباحية على أقراص مدمجة.
أما النوع الثاني فهم الفقراء القانعون بواقعهم ولا يسعون لتبديله، وهو ما ينطبق على والدة حسن “حنان يوسف”، وعلى صديقه “قدرة” الذي قام بدوره “طه الدسوقي”.
يقرأ حسن، عن طريق الصدفة خبرا في جريدة كان يلف فيها طعامه، عن استعدادات فريق كرة الجرس للسفر إلى بطولة العالم في بولندا، ثم يأتي أمامه موقف الكفيف وشقيقه التوأم الذي جعل الفكرة تختمر وتكتمل في ذهنه ويقرر التحول إلى كفيف، وينضم إلى هذا الفريق معتمدا على موهبته في كرة القدم، وفي نفس الوقت يحصل عادل على مهمة تدريب هذا الفريق، وبدوره يضم حسن للفريق الذي يصبح بسرعة، نجم الفريق الأول.
ينتقل الفيلم خارج حدود قضايا الفقر والمكوث داخل حياة المهمشين وأحلام الهجرة غير الشرعية، لينتقل بالأحداث إلى الفكرة المبتكرة التي تكفل خروج حسن من عالمه الضيق إلى تجربة أوسع وأشمل وأغرب، من خلال رياضة كرة الجرس التي لا يعلم عنها الكثيرون، لكننا نكتشف معه ذلك الجانب الآخر من الحياة ومن تلك اللعبة، حيث يرتدي اللاعبون غمامة سوداء على أعينهم حتى يتساوى الجميع في درجة الإعاقة، الكرة تحتوي على جرس، والحكام لا يكتفون بمهتهم فقط بل يتحولون إلى مرشدين ومساعدين يوجهون اللاعبين عن طريق استخدام العصا التي تصدر صوتا، ويبقى الأهم كلمة “فوي”، فهي الأساس الذي ترتكز عليه تلك اللعبة.
بعد انخراط حسن مع فريقه الجديد تبدأ دائرة “الفهلوة” للطبقات المهمشة في الاتساع، فلم يكن حسن الوحيد الذي يتحايل بل مارس الخداع الجميع على غرار رئيس النادي “الدكتور” الذي قدم بدوره “محمد عبد العظيم”، ومن ناحية أخرى هناك من استغل التحول الجديد لمصلحته مثل عادل وصديقان لحسن، بل وحتى والدته التي اضطرت للسكوت حفاظا على سر ابنها.
الشخصية الوحيدة التي اتخذت موقفا معاكسا كانت الصحفية إنجي التي قامت بدورها “نيللي كريم” والتي جاء توظيفها في الفيلم جيدا، فهي تنتمي للطبقة المتوسطة التي أخذت في التلاشي، وأصبحت تبحث عن قضية ذات معنى، بعيدا عن إجراء الحوارات وتفاهة ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن من ناحية أخرى لم يتم خدمة دور إنجي دراميا، فقد ظهر فاقدا للأبعاد، خاصة عدم وجود مقدمات أو مبررات لاهتمامها بشخصية حسن فبدت العلاقة بينهما مقحمة.
ظهرت أدوار أخرى في الفيلم كان يمكن أن تستغل دراميا بشكل أفضل مثل نجل الكابتن عادل، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، وكان يمكن أن يصبح المعادل الإيجابي لشخصية حسن، وكذلك حارس المرمى الذي تسبب حسن وأصدقاؤه في إبعاده عن الفريق، فقد تم إنهاء هذا الدور فجأة رغم أنه كان يمتلك دوافع تجعله يقدم على كشف الجميع.
هناك بعض المآخذ الأخرى على فكرة الفيلم تتعلق برياضة كرة الجرس وعدم وجود أندية تتأهل لبطولات العالم، وأن المشاركات فيها تقتصر على المنتخبات الوطنية فقط، والجنوح في بعض المشاهد إلى الميلودراما التقليدية، لكن هذه السلبيات يمكن التغاضي عنها بالنظر إلى مستوى الفيلم في المجمل.
لجأ المخرج عمر هلال إلى إحداث التوازن من خلال أمرين، الأول أنه جعل المتحايلون ينجحون في السفر والهرب لكن جميعهم عملوا في مهن غير ملائمة، والأمر الثاني حصول فريق مصري آخر على بطولة العالم، وهو دليل على أن ليس كل المصريين يستخدمون التحايل وادعاء الإعاقة من أجل الفوز وتم تقديم هذا في إطار كوميدي مضحك!
فيلم “فوي، فوي، فوي” جاء في وقته لثلاثة أسباب، الأول أنه أعاد الفيلم المصري لترشيحات الأوسكار بعد أن تردد أن مصر لن ترسل فيلما للعام الثاني على التوالي، والسبب الثاني عرض الفيلم أثناء المتابعات المستمرة لهروب الرياضيين المصريين إلى الخارج والحصول على جنسيات أخرى لتمثيلها واللعب باسمها في مختلف الرياضات مثل الإسكواش ومؤخرا رياضة المصارعة.
أما السبب الثالث فهو المتعلق باستمرار تواضع مستوى الأفلام المصرية التي تطرح في دور العرض في الأعوام الأخيرة، حتى الآن الموسم السينمائي بشكل عام في مصر متراجع، لكن جاء ظهور هذا الفيلم ومن قبله فيلم “وش في وش”، كبصيص ضوء صغير وسط ظلام التجارب البائسة، ففيلم “فوي، فوي، فوي”، هو مثل بطله “حسن”، مبصر وسط عميان.