“فلسطين ستريو”: طائرة مشهراوي التي لم تحلق بعيدا!
من بين أربعة عشر فيلما شاركوا في مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة ضمن فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان دبي السينمائي (6- 14 ديسمبر) شاركت فلسطين بثلاثة أفلام هي فيلم الافتتاح “عمر” للمخرج هاني ابو أسعد الذي حصل على جائزة المهر العربي كأفضل فيلم وأفضل إخراج، وفيلم “مي في الصيف” ثاني أفلام المخرجة شيرين دعيبس بعد فيلمها الأول”أمريكا” الذي وضعها في مكانة جيدة على خريطة السينما العربية والفلسطينية بشكل لم يتمكن “مي في الصيف”من الحفاظ عليها، وأخيرا احدث افلام المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي “فلسطين ستريو” وهو إنتاج فلسطيني تونسي فرنسي نرويجي اماراتي ايطالي سويسري كما ورد في كتالوج المهرجان ومن بطولة محمد أبو جازي وصلاح عنون وبالطبع ممثلة رشيد المفضلة- وزوجته-عرين عمري.
مروحية رشيد
في فيلمه الخامس “عيد ميلاد ليلى” ينظر محمد بكري/ أبو ليلى سائق التاكسي الذي يحاول الوصول إلى منزله يوم عيد ميلاد ابنته ليلى للطائرة المروحية- التي نسمع صوتها طوال الوقت على شريط الصوت ولا نراها- شاكيا من وجودها المستمر فوق رؤسهم بطنينها الذي لا يتوقف مختصرا في تكثيف سينمائي وجود الاحتلال الاسرائيلي في صوت الطائرة الذي لا يغيب عن مشاهد الفيلم مثلما هو جاثم على انفاس الأرض المحتلة.
وفي فيلمه الوثائقي الذي أنجزه في العراق لصالح قناة الجزيرة للأطفال “حوراء بغداد” لا يغيب عن شريط الصوت صوت الطائرة المروحية التي تختصر الاحتلال الأمريكي وتقدم اسباب الوضع المتردي للاطفال العراقيين الذين نراهم يشتغلون ببيع البنزين بعد ان أحترقت بلادهم.
وفي فيلم يتحدث عن مواجهة الاحتلال والفساد الداخلي بالصوت كـ”فلسطين ستريو” يستمر طنين المروحية الشهيرة التي صارت متلازمة صوتية خاصة بمشهراوي في أفلامه الأخيرة.
ولكن السؤال هو : ما قيمة صوت المروحية اذا لم يتكامل بصريا ودراميا مع تفاصيل الفيلم؟
في عيد ميلاد ليلى كان صوت المروحية يختصر اسباب الأزمة الداخلية التي يعيشها مجتمع رام الله عقب الاستقلال الظاهري، كأن الاحتلال يقول “انت مستقل ولكنني هناك فوقك لا تغيب عن ناظري ويمكن لي أن اعود لاحتلال الأرض مرة أخري”.
أما في “فلسطين ستريو” فنرى هذا الوجود العسكري في الكثير من مشاهد المواجهات التي لم تنفذ بحرفية للأسف الشديد وبدت ركيكة ومفتعلة ورخيصة رغم اسماء الدول الممولة التي سبق واشرنا إليها، يبدو صوت المروحية هنا اقرب للنوستجاليا المشهراوية منه لتيمة صوتية تتكامل مع بناء الفيلم العام. ولكن هل هذه هي مشكلة الفيلم الأساسية؟
إن الإشارة إلى تكرار تيمة صوت المروحية بلا تكامل حقيقي مع شريط الصورة سببه الشعور بأن ثمة استسهال سياسي وسينمائي من قبل مخرجنا العزيز في التعاطي مع تفاصيل فيلمه الجديد.
سامي وميلاد الملقب بستريو يقرران الهجرة إلى كندا بعد أن فقد الاول السمع والنطق وفقد الثاني زوجته في قصف اسرائيلي استهدف بنايتهم في جنين، ستريو يريد أن يتخلص من ذكرى زوجته ويعيش في بلد جديد كمواطن عادي بعيدا عن القتل والدمار والازمات السياسية، وسامي يريد أن يعالج ليعود إليه السمع والكلام.
وعندما يواجهان بضرورة وضع مبلغ تأميني في البنك لاستخراج الفيزا يبدأن العمل في تأجير معدات الصوت في رام الله للمناسبات الاجتماعية والسياسية المختلفة من أجل تحصيل الدولارات المطلوبة قبل الهجرة.
من هنا يسير الفيلم في خطين دراميين الأول هو محاولة جمع المال للسفر من قبل الاخوين والثاني دفتر أحوال الساحة الاجتماعية والسياسية الفلسطينية في اللحظة الراهنة عبر المناسبات والمؤتمرات والاجتماعات التي يؤجر لها ستريو اجهزة الصوت.
ليلى كبرت
في المشاهد الأولى من الفيلم نتعرف على شخصية ليلى حبيبة سامي منذ الطفولة وخطيبته التي على وشك أن يتركها ويرحل، يذكرنا الإسم مباشرة بفيلم “عيد ميلاد ليلى” وكأن ليلى الصغيرة التي جاهد والدها أن يصل إلى بيتهم في الفيلم السابق كبرت وصارت فتاة قوية الشخصية حازمة جميلة تشي ملامحها بصرامة واصرار.
كبرت ليلى وصارت هي فلسطين، فعبر سياق العلاقة بين سامي وليلى والتي تذهب وراءه إلى رام الله حيث يقيم عند اخته “عرين” هو وستريو في حجرة إبنهم المعتقل في السجون الإسرائيلية- والدلالة واضحة بالطبع: أن يحل الحر محل المعتقل حتى اشعار أخر- تصر ليلى مثل أي شخصية درامية جيدة التكوين وواضحة الخطوط أن تحارب نفسيا ومعنويا ضد هجرة سامي، ترتدي دوما ملابس ملونة زاهية كأنها تغويه- في اشاره لونية وبصرية رقيقة إلى جمال البلاد رغم فقرها واحتلالها- ثم تبدأ في ترك رسائلها المتوسلة والراجية والصارمة في ذات الوقت على جدارن حجرة المعتقل الغائب التي يقيم فيها سامي وأخوه وكأنها رسائل من فلسطين نفسها تطالبه بأن لا يغادرها لأنها تحبه وتحتاج إليه بل وتقبل أن تصير صماء وبكماء أن كان هذا يرضيه كي لا يشعر بالدونية أو بفقدان الثقة بالنفس بعد اصابته.
مشهراوي على الحدود
ويعود بنا السؤال مرة أخرى: اذا كان سيناريو الفيلم قادرا على أن يستعرض افكاره السياسية بمثل هذه الكثافة والطرافة والحميمية عبر العلاقة بين ليلى وسامي من ناحية وعبر الانتقال من الأعراس إلى الوقفات الإحتجاجية على الجدار ومؤتمرات وزراء السلطة الفارغة التي تحاول فلسطين نفسها ممثلة في العلم أن تسكتهم عندما يسقط عليهم العلم في مشهد خطبة الوزير التفاهة، اذا كان لديك كصانع فيلم هذه الإمكانيات التي تذكرنا في مستوى من مستوياتها بتجارب دريد لحام ومحمد الماغوط خاصة في “الحدود” فلماذا يكتظ الحوار بالفيلم بهذا الكم من المباشرة والثرثرة السياسية المجانية التي لا رابطا عضويا بينها وبين الحوار الدرامي أو وظيفته في رسم ملامح الشخصيات وتطوير الاحداث ومراكمة التفاصيل الساخرة والشعرية في تركيبة تخص مشهراوي بمفرده!
لماذا تبدو كل اجابة عن أي سؤال في الفيلم بين الشخصيات عبارة عن مقال سياسي أو دائرة فوق شخصية كاريكاتورية في جريدة تتحدث فيها عن اوضاع البلاد وأزماتها التي لا تنتهي!!
أما كان يكفي أن ينقى لنا المخرج شريط الصوت من هذه الثرثرة تاركا مشاهد عربة الاسعاف-والتي اشتراها ستريو لنقل معدات الصوت- كي تعبر لنا في كوميديا سوداء عن أن المجتمع الفلسطيني صار مجتمعا صوتيا بلا فعل وحين تحدث ازمة فإن الصوت هو الذي يهب للنجدة وليس الإسعاف الذي تحتاجه البلاد المحتلة.
اما كان يكفي مشهد مواجهة قوات الاحتلال المدججة بالسلاح بسماعة “الاستريو” المحمولة فوق ناقلة المصابين وهو مشهد غني بالدلالات السياسية والشعرية على حد سواء خاصة عندما تكتمل اللقطة بكون سامي الأصم الابكم هو الذي يدفع العربة غير منتبها ولا مستمعا لنداءات التحذير الأسرائيلية بالتوقف واغلاق الصوت.
الا يبدو هذا المشهد بكل تراجيديته وسخريته مكملا للمشهد الكوميدي الذي يخطب فيه أحد الوزارء بكلام مكرر بينما يضطرب صوت الميكروفون نتيجة عدم قدرة سامي على ضبطه لأنه لا يسمع وكأنه يحاول اسكات الوزير بشكل غير مباشر، ثم ينضم هاذين المشهدين لمشهد محاولة ستريو في احد الأعراس أن يلقن سامي طريقة تقييم مستوى الصوت كي يشعر به حتى وهو لا يسمعه.
اليس شكل الفيلم في النهاية هو مضمونه؟ وإذا كان الفيلم يريد أن ينتقد الصوت العالي للحكومات الضعيفة التي لم يعد لديها سوى الوعود الباهتة والمتاجرة بالشعارات والإسترزاق من وراء أمال المواطنين في أن يصل صوتهم خارج الجدار فكيف به هو نفسه يتحول إلى كائن حواري عالي الصوت بنبرة زاعقة دون أن يتم توجه هذه الطاقة الحوارية والصوتية لصياغة صورة محكمة ومتقنة التنفيذ.
على مستوى التصوير والاخراج الحركي لمشاهد المواجهات والتجمعات والأعراس والمؤتمرات يأتي الفيلم أقل مما استطاع مشهراوي انجازه من قبل، المباشرة الحوارية جعلت الشخصيات تفتقد إلى الطبيعية في الأداء وغلب عليها روح مسرحية أقرب للأستاند أب كوميدي وكأن كل شخصية تظهر تريد أن تقول “إفيه”- أوتعليقا لفظيا، قبل أن تغيب عن الكادر- في حين اهدرت طاقات تمثيلية مثل “عرين عمري” في مشاهد مكررة لم تفعل فيها شيئا سوى أنها تقدم صحون الطعام لأخواتها سامي وستريو، وهو دور كان من الممكن أن تقدمه اي كومبارس نتيجة عدم الإلتفات إلى جانبها الإنساني المتمثل في كونها أم لواحد من المعتقلين- والتي تزين غرفته الغائب عنها في انتظار عودته ليتزوج- بينما اخواتها على وشك الهجرة إلى الأبد. هذه واحدة من الشخصيات الدرامية الهامة التي لم نشعر بالصراع النفسي الذي تعيشه نتيجة أنها انشغلت بالطبخ طوال الفيلم.