فطرية الفن وتعقيدات النفس البشرية في مهرجان برلين السينمائي
فيلمان من بين الـ18 فيلما تتسابق في الدورة الـ70 لمهرجان برلين السينمائي، قد لفتا الأنظار بقوة تعبيرهما عن الإنسان الفرد، في معاناته النفسية والروحية من أجل التحقق أو الإفلات من الهواجس التي تعذبه وتقض مضجعه في مجتمعات تحيل الأفراد إلى كائنات قلقة.
الفيلمان المتسابقان في الدورة الجديدة من مهرجان برلين، في ظل مؤشرات قوية إلى قدرتهما على المنافسة وانتزاع الجائزة الكبرى، هما من إيطاليا والأرجنتين، أي ينتميان إلى ثقافة متشابهة إلى حد كبير، تتميز بالعاطفة والتفاعل الحار مع الحياة. ولا شك أن الألوان المختارة من جانب فنان السينما في الفيلمين تعكس تلك الحرارة والرغبة التي لا تخمد في القبض على الحياة ومقاومة الموت، بالحب والفن، ولو كان ثمن ذلك هو الانصياع لنداءات غامضة تأخذ الإنسان إلى عالم مجهول.
الفيلم الأول هو للمخرج الإيطالي جيورجيو ديريتي “مُخَبّأ بعيدا” (Hidden Away) ويمكن ترجمته بتعبير أفضل إلى “مخفي عن العيون”، وهو تصوير مشحون بالمشاعر العنيفة والجموح والغضب، جرّاء القلق النفسي عندما يصبح مجال التنفيس الوحيد عنه هو الفن، والإبداع الفني.
هذا الفيلم يقدم صورة قريبة لشخصية وعالم ومعاناة الفنان الإيطالي التلقائي أنطونيو ليغاوبي (Antonio Ligabue 1965 – 1899) الذي ولد في سويسرا وعانى من طفولة شاقة وأحيل بعد وفاة أمه وأشقائه الثلاثة في حريق شب في بيتهم، إلى العيش في كنف أسرة سويسرية تبنته، لكنه لم يستطع التجاوب مع حياته الجديدة بسبب تداعيات طفولته الشاقة المعذبة، ثم اضطرابه النفسي الذي يدفعه إلى الحدة والتعبير عن مشاعره بالعنف، فيتم ترحيله إلى إيطاليا حيث يعيش في منطقة غوالتيري الواقعة بجوار نهر بو، وهي منطقة شديدة الروعة والجمال تتميز بمناظرها الطبيعية الرائعة التي نراها في الفيلم من خلال براعة عدسة مدير التصوير الإيطالي ماتيو كوتشي.
الفيلم من نوع “السيرة الشخصية” لفنان ينتمي بقوة إلى الفن التلقائي الذي يوصف حينا بالفن البدائي، وحينا آخر بالفن الساذج، أي الذي لا يأتي نتيجة دراسة ومعرفة بقواعد وأساليب ومذاهب الفن التشكيلي، بل بالتعبير التلقائي البسيط المباشر عن مشاعر وأحاسيس الفنان بطريقة تجعل الأعمال الفنية أقرب إلى رسوم الأطفال، لكنها تظل في حالة ليغاوبي، تتميز بالبراءة والبراعة في استخدام الألوان والتماهي مع الطبيعة وعالم الحيوان، وتصلح لدراسة الحالة النفسية للفنان نفسه الذي تعرض للكثير من الصدمات في طفولته، ثم أصبح في شبابه ينتقل بين عدد من المصحات النفسية.
براعة وتحولات
في سن الـ21 تعلم ليغاوبي كيف يرسم أو بالأحرى، اكتشف التعبير بالرسم وكان لا يزال داخل مصحة للأمراض العقلية، وبعدما غادرها أصبح محط سخرية الكبار والصغار، مما كان يدفعه أحيانا إلى الاستغراق في نوبات من الغضب الشديد ويقوم بتحطيم لوحاته وتماثيله التي كان يصنعها من الطين.
لكن بطلنا سيلتقي بالفنان الإيطالي ريناتو مارينو الذي يثني على موهبته التلقائية التي يراها مثيرة للإعجاب، وهو الذي سيتولى تعليمه كيفية استخدام الفرشاة والألوان الزيتية في رسوماته، كما سيتيح له الإقامة في منزله مع والدته الطيبة.
براعة الأسلوب هي أهم ما يميز هذا الفيلم. فالسرد فيه لا يسير مسارا صاعدا، بل يميل إلى الانتقال بين الأزمنة؛ من الماضي إلى الحاضر أو من الحاضر ليرتد إلى الماضي. وخاصة في الثلث الأول منه، من خلال تسليط الأضواء على “محنة ليغاوبي” وما تعرض له في البداية وجعله منبوذا شريدا، يعيش على الكفاف، بل وكثيرا ما لا يجد ما يأكله، ولكنه سيجد بعض الرعاية من السيدة الإيطالية الطيبة والدة راعيه الفنان ريناتو، وهي الوحيدة من بين سكان المنطقة، التي ستعامله معاملة تليق بالإنسان، بدافع الحب والعطف وكأنه ابنها.
سيمر أنطونيو ليغاوبي أو توني كما كانوا ينادونه، بالكثير من المشاكل حتى بعد أن يبدأ في الرسم. فبعد أن يكتسب ثقة طفلة بريئة جميلة تسعد كثيرا بدمية أهداها لها رغم أنها مجرد تمثال صغير من الطين، سرعان ما تسقط هذه الزهرة الجميلة البريئة مريضة وترقد على فراش الموت مما يشعره بألم نفسي شديد، ويسري بعدها قول في البلدة ينعته بأنه “يجلب سوء الطالع”.
إلا أن رحلة توني في الحياة ستكبر ويكبر معها حلمه بحياة “طبيعية”، وبعد أن كان يخشى المرأة ويعتبر أنها لا تجلب سوى المشاكل، يحلم بالزواج وحياة الاستقرار ويتودد الى ابنة الخادمة التي تأتي إلى بيته لطهي الطعام، وتزداد ثقته بنفسه وإيمانه بأنه قد أصبح فنانا مرموقا، خاصة بعد أن يحقق شهرة ونجاحا كبيرين، وبعد أن تصل موهبته إلى الصحافة الإيطالية ثم يقام معرض لأعماله في روما، وتلقى لوحاته من يشتريها بكميات كبيرة، فيصبح هذا الرجل الذي كان منبوذا مالكا لسيارة فخمة يقودها له سائق خاص، كما يشبع هوايته في امتلاك دراجة نارية بل عدد من الدراجات النارية التي يقودها بنفسه.
“وصف الحالة” أو “دراسة الشخصية” وهو النوع الذي ينتمي إليه هذا الفيلم وإن استند على الحياة الحقيقية للفنان، لا يحول دون المخرج الإيطالي المبدع جيورجيو ديريتي، وبين التعبير الحر عن هذه الشخصية المعقدة، باستخدام أسلوب فني يعتمد على حركة الكاميرا والمونتاج والموسيقى والألوان مع براعة نادرة في إعادة اكتشاف الأماكن الطبيعية البديعة التي عاش فيها الفنان، والتعبير الحي المباشر الذي يصل أحيانا إلى مستوى الصدمة، عن علاقة الفنان بعالم الحشرات والحيوانات التي يجد معها ألفة ويستمد منها الكثير من لوحاته التي تعكس رؤيته للعالم، أي غضبه واحتجاجه وتمرده.
إنه يستخدم حينا، الكاميرا المتحركة المهتزة التي تعبر عن الاضطراب الكامن في عقل بطله، وحينا آخر يستخدم الحركة للتعبير عن العلاقة بين الفنان وبيئته وبينه وبين الطبيعة. والمكان بوجه خاص حاضر بقوة في الفيلم. وينتقل التصوير من اللقطات العامة إلى اللقطات القريبة والقريبة جدا، للوجه والعينين، أو حتى لجزء من الوجه، لرصد الانفعالات الداخلية (المخفية) التي تدور داخل هذه الشخصية المركبة، مع مزج بالمونتاج عن هواجسها ومخاوفها وفزعها من العالم.
ولعل المشهد الأول من الفيلم يجسد هذا كأفضل ما يكون حينما نرى توني وهو ملتف بملاءة سوداء تبرز إحدى عينيه من بين طياتها، وهو يتطلع مرعوبا إلى الطبيب الذي يتأهب لفحصه.
وينتقل عبر المونتاج بين الأزمنة، المضارع والماضي القريب والماضي البعيد، في لقطات قصيرة لا تستغرق الواحدة منها ثواني معدودة على الشاشة، لكي يمنحنا موجزا عن المراحل الصعبة التي مرّ بها الفنان منذ مولده، كما يستخدم المخرج الموسيقى التي تسود فيها آلة التشيللو ذات النغمات المضخمة والحزينة، مع استخدامات أخرى للبيانو والكمان مليئة بالشجن والحنين.
اكتشاف الحرية
ويبقى أهم عنصر من العناصر التي تجعل الفيلم ينبض بالحياة ويجعلنا نتعمق في قلب الشخصية وهي تمر عبر فترات في التاريخ الإيطالي مثل صعود الفاشية والحرب العالمية الثانية، ثم ما بعد الحرب، هذا العنصر هو عنصر الأداء. فالممثل الإيطالي الكبير إليو جيرمانو في الدور الرئيسي (أنطونيو ليغاوبي) يعبر عن الشخصية في حدتها وغضبها وطفوليتها وتقلبها واستعدادها الفطري للتجاوب، لكن في الوقت نفسه حساسيتها الشديدة تجاه ما يمكن أن تلمحه من سخرية أو محاولة للتقليل من شأن ما ينتجه من لوحات. إن جيرمانو لا يعبر فقط من خلال التقمص بل والتعبير بلغة الجسد والوجه والفم المفتوح والانحناءة الدائمة والنظرات الحادة الصارخة التي تشي بالعذاب وفي الوقت نفسه الرغبة في العيش والتشبث بالعيش حتى اللحظة الأخيرة، من أجل مواصلة مسيرة التعبير الفني، فمن خلال الفن عثر ليغاوبي على الحرية، وظل رغم قبح منظره الخارجي، يشعر بالزهو ويتفاخر حتى النفس الأخير، بأنه سيصبح بعد وفاته، جزءا من التاريخ وليس مجرد تمثال مهمل من الطين مثل سائقه الجميل الطلعة.
فيلم “الدخيل”
فيلم “الدخيل” (El prófugo) للمخرجة الأرجنتينية نتاليا ميتا التي كتبت السيناريو عن رواية “الشر الأقل” هو أيضا من أفلام “دراسة الشخصية”.. هواجسها الداخلية وإحباطاتها ومعاناتها ورغبتها في العثور على الحب. ولكنه يخضع الشخصية التي يتناولها وهي امرأة شابة تدعى أنييس تعمل مغنية أوبرالية وتقوم في أوقات الفراغ، بعمل الدوبلاج الصوتي لأفلام الرعب اليابانية إلى اللغة الإسبانية.
أنييس التي تقوم بدورها ببراعة لافتة وتحمل الفيلم بأكمله على كتفيها الممثلة إريكا ريفاس، امرأة مطلقة في منتصف الأربعينات، ترتبط بعلاقة مع رجل استحواذي؛ ليوبولو، لا يكف عن مطاردتها بالأسئلة المقلقة عن حياتها الماضية بل وعمّا تحلم به أيضا، يريد أن يسيطر وجدانيا عليها. وأنييس في الحقيقة، كثيرة الأحلام، تطاردها الكوابيس المرعبة. ومن أول الفيلم تتضح لنا معالم هذه الشخصية المضطربة. وبعد أن يلقى حبيبها ليوبولو مصرعه بطريقة غامضة، ويمر بعض الوقت ويبدو أن أنييس استعادت توازنها، تبدأ في الشعور بوجود مشاكل في صوتها، فهناك أصوات غامضة تتسلل لتفسد تسجيلات الدوبلاج التي تقوم بها بل وتجعلها تبدو أضحوكة على المسرح حين تؤدي عملها مع الكورال الأوبرالي.
بين مزيج من فيلم الرعب والإثارة والدراما النفسية والجريمة التي تبقى غامضة حتى النهاية، يتأرجح الفيلم، لكن دون أن يفقد حرارة التعبير عن تلك الشخصية التي تخشى الماضي، تنظر إلى علاقتها بأمها نظرة مليئة بالشك والخوف، وترفض الحديث عن زوجها السابق.
لكن من فيلم الواقع، ومن الأسلوب الواقعي بألوانه الطبيعية، ننتقل في النصف الثاني من الفيلم إلى فيلم الكوابيس والهواجس الخيالية حيث تمتزج الحقيقة بالخيال، والخرافة بالحقيقة، وتشيع الألوان الكثيفة للديكورات القريبة من التعبيرية بانحناءاتها وحدّة زواياها مع غرابة زوايا التصوير، بحيث يبدو استديو التسجيل الصوتي الذي تتردد عليه البطلة عالما سريا غريبا كل الغرابة.
شخصية فصامية
أنييس تعاني مما يعرف بـ”أزمة منتصف العمر”، فترتد الى الأحلام، وتستدعي من الماضي ما يعجز عقلها عن قبوله في الحاضر. كما أن هذا الفصام الذي تعاني منه بين الواقع والخيال، قد يكون ناتجا عن انفصام شخصيتها باستمرار بين دورها كمغنية أوبرا، وبين تقمص أصوات شخصيات أخرى تنتمي إلى عالم الخيال والعنف في الأفلام اليابانية التي لا تدخر المخرجة جهدا في جعلها حاضرة دائما في خلفية الكادرات.
تكتشف أنييس عن طريق سيدة عجوز غامضة يبدو أنها على اطلاع وافر بعالم ما وراء الطبيعة، أن الأصوات التي تفسد عليها صوتها، ما هي سوى أصوات الأشخاص الذين يظهرون لها في كوابيسها، فهم يحاولون الآن السيطرة على جسدها بل وروحها أيضا. وستكتشف أيضا أن أمها التي جاءت مدّعية الوقوف معها في محنتها ليست أمها، بل أحد هؤلاء “الدخلاء” وأن حبيبها الجديد منهم أيضا. ولكن هل من الأفضل لكي نعيش في الواقع أن نطرد الدخلاء جميعا؟ وماذا لو كانت أنييس قد وقعت في حب “الدخيل” وتريد أن تستمر في الشعور بالسعادة معه؟
التلاعب بالمشاعر
الفيلم رغم سذاجة موضوعه والكثير من أفكاره ومشاهده، طريف ومثير وفيه الكثير من الخيال الخصب في صياغة فكرة تسلل الأصوات، وكيفية رصدها ثم فكرة أن المرء هو الذي يسمح بالدخلاء بالتسلل إلى حياته، فبوسعه أن يطردهم أو يسمح لهم بالبقاء. ولكن أبرز ما فيه هو تلك الروح العابثة التي تميل إلى تحويل الواقع إلى طرفة أو مزحة أو قصة تثير من الضحك أكثر مما تدعو إليه من الرعب.
المخرجة تداعب المشاهدين وتعبث بمشاعرهم حينما تجذبهم إلى عالم النفس المعذبة القلقة التي تعاني من الصدمة بعد وقوع ذلك الموت المفاجئ أو الجريمة الغامضة، ثم تتمادى في التلاعب بعواطفهم حينما تمزج بين المزاح والجد، وبين الطرافة والحقيقة، ولكن دون أن تفقد القدرة على الإضحاك والتسلية. ونهاية الفيلم تأتي عكس ما هو متوقع، وهو ما يشي بأن ما شاهدناه قد يكون نابعا من خيال شخصية أنييس نفسها. وهو تلاعب مقصود لدفع المتفرجين إلى الجنون. جنون السينما. أليست السينما نوعا من الخيال المجنون أو جنون الخيال؟