“فضيلة أنْ تكون لا أحد”.. حكايا العابرين الباقية
يكتسب التعبير الفنيّ تفرُّدًا كُلَّما استطاع اقتناص معنى خفيّ من معاني الإنسان الأصيلة، أو من مُجريات حياته ذات المغزى. وإذا تضافَرَ هذا المُكوِّنُ مع مُكوِّن آخر؛ هو الصدق في التجربة الشعوريَّة، وكذا الصدق الفنيّ في أدوات التجربة ورُوحها خرَجَ لنا عملٌ فنيٌّ أصيلٌ يُخاطب فكرنا الغافل عن تلك المعاني وملامح المعاني التي غابت عنه في سراديب الحياة.
هذا ما يقدِّمه فيلم “فضيلة أنْ تكون لا أحد”. وهو فيلم سعوديّ قصير ألَّفه وأخرجه المُخرج “بدر الحمُّود”. فيلم نبَتَ بناؤه المعنويُّ بين حكايا العابرين على الطريق، وتسرَّب في وعي مُشاهده طارحًا أسئلةً ومُثيرًا مشاعر دفينةً، ومُناقشًا تحوُّلات العصر وتأثيرَها في علاقاتنا، ومُنهيًا بتنوير مشاعريّ لإجابة السؤال الذي ينبع من قراءة عنوان الفيلم: ما هي فضيلة أنْ تكون “لا أحد”؟
“فضيلة أنْ تكون لا أحد” ليس عملاً بسيطًا -كما قد تُوهم مُشاهدتُه البعضَ-، بل هو عمل فنيّ اعتمد على التضفير والتكثيف، وأتى بثراء تعبيريّ مُتكاتِف لإبراز المعاني -حتى استغلَّ عنوان الفيلم رُكنًا من أركان معانيه-. ويمتاز الفيلم بالتكثيف في أُطُره؛ حيث الحيِّز المكانيّ محدود (أقصى المنطقة الشرقيَّة السعوديَّة، بجوار جسر البحرَيْن)، والحيِّز الزمانيّ محدود (أقلّ من ساعة واحدة)، مع شخصيِّتَيْن أساسيَّتَيْنِ: “أبو ناجي، وأبو محمد” -سألتزم مذهب الحكاية في الاسمَيْن-.
وبالتكثيف في أدواته الفنيَّة؛ حيث الاقتصارُ على صورة سينمائيَّة هادئة، كان همُّها الأوَّل والأخير حصرَ الشخصيَّتَيْنِ عن البقيَّة في إطار الصورة؛ فلا يكاد أحد غيرهما يظهر إلا في أضيق الحدود، والاقتصارُ على أصوات البيئة المُحيطة دون استدعاء لظهير الموسيقى في الفيلم -إلا بالاستعانة بأغنيَّة “طلال مدَّاح” في آخره-. وقد ظهر أبلغُ تكثيف تعبيريّ في اعتماد الفيلم الأساس على الحوار، وعلى تمثيل البطلَيْنِ ليستند عليهما في إيراد المعاني. ولأنَّ النظرة العجلى أو الأولى قد لا تُوفِّي الفيلم حقَّه في رؤيته؛ فسأبدأ برواية هيكل الأحداث بمنتهى الاختصار حتى أرتكن عليها في البناء التحليليّ للفيلم.
تبدأ الأحداث عندما يُقرِّر “أبو محمد” (مشعل المطيري) الوقوف بالسيارة لاستقلال غريب من الطريق “أبو ناجي” (إبراهيم الحساوي). يُعرِّفه الأخير -الذي يلصق ضمادة على إحدى عينَيْهِ تحجبها- أنَّ وجهته هي محطة النقل الجماعيّ؛ ليذهب إلى “الرِّياض” لإكمال علاج وتجميل عينه. ثُمَّ يجرُّهما التعارف الأوليّ إلى تصريح “أبو ناجي” أنَّ ابنه لو عاش لكان في مثل سنّ “أبو محمد”؛ ومن هنا يبدأ الولوج في خصوصيَّات حياة كلٍّ منهما، ثُمَّ يدور بينهما الكثير من حكايا العابرين. والتي منها أنَّ “أبو ناجي” مات ولدُهُ منذ سنوات، وأنَّه وُلد أعور، وكان الناس يخافون منه، مُشيعين أنَّه المسيح الدجَّال. والتي منها أيضًا أنَّ “أبو محمد” فقد ولده منذ أربع سنوات عند بئر “زمزم”، وأنَّه طلَّقَ زوجته منذ يومَيْنِ لعدم استطاعته الإكمال بعد الصدمة وتغيُّر سلوكيَّات ونفسيَّة كلٍّ منهما.
عند وصولهما إلى محطة النقل الجماعيّ يعتقد “أبو محمد” -الذي ألِفَ الآخرَ- أنَّه قد تأخَّر عن موعد الحافلة انشغالاً بحديثهما؛ فيقترح أنْ يستأجر سائقًا خاصًّا، الذي يبادر بالاعتذار ضاحكًا فور رؤيته “أبو ناجي”. ويُفاجأ “أبو محمد” من الإصرار العجيب واللهفة التي أصابت “أبو ناجي” ومُغادرته؛ وهو يقول: ألمْ أقلْ لك إنَّهم لا يُحبُّونني! ويترك الأخير نظَّارته في غمرة لهفة تحرُّكه، فيبدأ “أبو محمد” في سؤال العابرين بعد أن يفيق من تعجُّبه من تصرُّف الرجل. مِمَّا يبذر بذرة الشكّ وبعض الغموض حوله.
يجده في النهاية فيحاول “أبو ناجي” التهرُّب منه! مِمَّا يضطرُّه إلى مناداته بأنَّ نظارته معه كي يُجبره على التوقف. ثُمَّ يتفقانِ على الجلوس في استراحة حتى موعد رحيل الحافلة. ويُكملانِ تجاذب أطراف الحديث، ثُمَّ يرحل “أبو ناجي”. ثُمَّ نرى “أبو ناجي” وحده على الطريق، يخلع ضمادة عينه؛ فإذا بعينه سليمة! ثُمَّ نراه يثبِّت الضمادة على عينه الأخرى، ويقف مُشيرًا إلى سيَّارة. وفور استقراره بها يبدأ يُعرِّف نفسه بأنه “أبو محمد”، ثمَّ يشرع في سرد ما حكاه له “أبو محمد” على صاحب السيَّارة الجديدة وكأنَّه حكايته، بينما يستمع لقصَّة جديدة من صاحب السيَّارة.
هذا هو هيكل الأحداث في إطاره العامّ. ولعلَّ بناء الفيلم والتواءته الأخيرة قد يدفع صوب اتجاهات عدَّة بعضها قد يُنسينا الغرض الأساس له؛ ولهذا وجب الوقوف على عدد من الحقائق قبل تحديد وجهة تفسيريَّة عن الفيلم، ومعرفة فضيلته. الفيلم يعتمدُ على وسيلتَيْ الحوار والتمثيل ليُقدِّم إطارًا قصصيًّا، ويُركِّزُ على حفنة شعور إنسانيّ رهيفة تتمحور حول: الفقد، والخوف، والألم، والعُزلة، وغموض الدنيا في نظر الإنسان. ويرتكنُ على تصدير فعل رئيس هو فعل “الحكي” في حدّ ذاته، وأصالة “الرواية والرَّوْي” في خريطة أفعال الإنسان.
وإذا صعدنا إلى مستوى “فكرة العمل” فنجده يطرح فكرة تأثير العصر التكنولوجيّ على التواصل الإنسانيّ؛ مُنحازًا إلى نقد العصر في هذا التهاوي الإنسانيّ الإنسانيّ، ودوره في شرخ ضمير الفرد والمجتمع، ودفعهم إلى حالة من الضيق النفسيّ التي قد لا ينتبهون إلى سببها الأوضح. وإذا صَعَدَنا إلى مستوى “فلسفة العمل” -أو إذا صعَّدنا- فسنجد ذلك التهديد لفكرة “الوجود” الإنسانيّ بسلاح المحو التكنولوجيّ، الذي يمسخ -أيْ يُغيِّر تقزيمًا- ملامح الوجود الإنسانيّ في جوهره العميق شيئًا فشيئًا، وفي مظهره حين يتحوَّل “الإنسان ذلك العالَم في لحم ودم” إلى “الإنسان عبر الوسيط”. وقد أظهر الفيلم تلك الفلسفة بمسحة حنين إلى اللقاء الطبيعيّ المُباشر في حكايا عابرَيْنِ على الطريق؛ وفي فلسفة “التحقُّق” الإنسانيّ في شخصيَّة “أبو ناجي”.
الحوار في فيلم كهذا يحتاج إلى كثير من المميزات كيْ يقوم بدوره، الذي من صميمه عدم إشعار المُشاهد بالملل. ولهذا فقد اعتمد على الآتي: على تقنية “الجُملة المركزيَّة” وهي جملة تحمل في تركيبها أو تأثيرها ما يُمهِّد لتغيير مَجرى الأحداث، أو نقل المعاني نوعيًّا. وتأتي -في تجربتنا- بعد لحظة تأمُّل أحدِ الطرفَيْنِ؛ فينقل بها مسار الحوار جُزئيًّا أو كُليًّا. وحوار الفيلم به العديد من الجُمَل المركزيَّة التي سأحاول الوقوف عليها. وقد استطاع الحوار عبور حدّ “الاستهلاكيَّة” وصولاً إلى تحوُّل الحوار بين شخصَيْنِ إلى رحلة بحثٍ واستكناهٍ لملامح من الشعور العميق، وطرح لأسئلة فلسفيَّة صرفة.
واقتناص الحوار لرُوح حكايا العابرين كان له دور بارز في لفت انتباه المُشاهد؛ فبما تتصف به تلك الحكايا من إثارة الفضول المعرفيّ، ومن الرغبة في عبور اللحظة الآنيَّة -مثل رجل ينتظر الحافلة فيثير حوارًا جانبيًّا- تُكوِّن فرصةً دراميَّةً مُثمرةً جدًّا. فإذا أضفنا تحميلها بقصة مُثيرة للغموض في أحيان، وبمغزًى إنسانيٍّ عميق عرفنا لِمَ كان الحوار ناجحًا.
وهنا تأتينا الشخصيَّة الإشكاليَّة؛ وهي الشخصيَّة الفنيَّة في الأعمال الأصيلة الجيدة، فالشخصيَّة الإشكاليَّة -التي قد يُقابلها في منحًى الشخصيَّةُ المُسطَّحةُ أو المَكشوفةُ- هي أحد أغراض العمل الفنيّ الأصيل. فهذه الشخصيَّة لا تكتفي بطرح الأسئلة على لسانها، أو إثارة المعاني، بل تكون هي السؤال وتصير هي المعنى. والإشكاليَّة في شخصيَّة “أبو ناجي” كانت في ضرب الثابت المعرفيّ؛ فيجد المُشاهد نفسه لا يعرف ما الحقيقة وما الزَّيْف فيما يقول! .. فبعد بعض مَناحي الغموض التي تأتي بها الشخصيَّة، نجد لحظة الالتواءة التي تفجِّر التساؤل وشعور الشكّ فيها.
ورغم هذا قد أمدَّنا الفيلم ببعض ما يُمكِّننا من رؤية الشخصيَّة في الحقائق التالية: “أبو ناجي” يعيش في “البحرَيْن” بدليل أنَّه كان يتنقَّل بين “جسر البحرَيْن” و”المنطقة الشرقيَّة”. وأنَّه يُمارس لعبة “أنْ يكون لا أحد” منذ زمن؛ بدليل معرفة السائقين به وضحكهم منه -الذي أوَّله “أبو محمد” بقصَّة عَوَرِه- وبدليل احترافيَّة أدائه. وأنَّه يُعاني من شعور “الفقد” و”الخوف” حقيقةً وهذا هو دافعه لتلك اللُّعبة. وأنَّه يُعاني انفضاض الناس من حوله والتفافهم حول جامع “الشاشة الإلكترونيَّة” الذي يُشعره بوحدة قاتلة -كما يُشعرهم هُم أنفسهم، ولكنْ لا يدركون- وبذلك يكون هو نفسه مُمثِّلاً لمجموع ما أراد الفيلم التعبيرَ عنه، ويكون تفسيرُ فعلِهِ إدراكًا لفضيلة أنْ تكون “لا أحد”.
وإذا روينا بعض الأحداث من مُنطلق الجُمَل المركزيَّة؛ فسنجد أنَّ المُمثل “إبراهيم الحساوي” قد أوحى بمهارة تمثيليَّة منذ أوَّل لحظة أنَّه مُحرَج حقًّا، وكأنَّه غريب عن تلك اللُّعبة. لكنْ ما إنْ استقرَّ إذا به يطرح جُملته السحريَّة المِفتاحيَّة “لو كان ابني حيًّا لكان في مِثل سنِّك”، والتي بها يُركِّز حواره مع مُحاورِيْهِ حول الفقد والألم. ويعرض “مشعل المطيري” في مهارة مأساة الشخصيَّة التي ضاع ابنُها في مُقابل موت صريح لـ”ناجي” فتأتي على لسانه جملة “أنْ تفقد الشيء مرَّةً واحدةً أريح لك”. ونرى انسجام “أبو ناجي” وهو يستمع لآلام غيره، حتى تأتي جملة أخرى عن طلاق “أبو محمد” لزوجته: “استيقظت بعد الطلاق فلمْ أجِدْ في نفسي شعورًا، ووجدتُ نفسي خاليةً .. فضميري أنَّبَنِي لأنَّ ضميري لمْ يُؤنِّبْنِيْ”.
وإذا نظرنا إلى “الحساوي” وهو يتأمَّل بعُمق ما يقوله الآخر، ويُحرِّك حدقة عينيه في الفضاء وكأنَّه يهضم ما يُدلى إليه، ويحاول استيعاب عُمق الموقف. لكنَّ المهارة الحواريَّة أنَّه أتى بتفسير اعتياديّ تمامًا أنَّ “الله” -تعالى- صبَّر قلب “أبو محمد” -وهو ما يتلاءم مع الشخصيَّة، ويمُدُّ طرف الحديث في آنٍ معًا-. ثُمَّ تتداعى قصص الفقد والشعور به في قصَّة أثر قدَمَيْ “ناجي” المُنطبعتَيْنِ على لوح أسمنتيّ، وبكاء “أبو ناجي” الدائم عند رؤية الأثر رغم عدم بُكائه وهو يقبره بيدَيْهِ. حتى نصل للجُملة التالية التي قد تحمل ملامح كامل حوار الفقد: “نبكي على آثارهم، ولا نبكي لحظة فراقهم”.
وفي مشهد الاستراحة نجد سؤالاً عن مستقبل “أبو محمد” يُحوِّلنا إلى الحديث عن هذه شاشة الهاتف الصغيرة التي احتوت الإنسان وعالَمه، وأضاعتْه في دهاليز الوهم والافتراض. ثُمَّ نجد “أبو ناجي” يتعجَّب من التواصل مع الغرباء على شاشة الهاتف -رغم أنَّه يفعل هذا في الواقع-؛ ليُجيبه “أبو محمد”: “يقولون أشياء لا تصلح للإفضاء عنها إلا للغريب”. ثُمَّ نجد “أبو محمد” يشير لصُلب القضيَّة بأنَّه منذ عام لمْ يتحدَّث مع أحد وجهًا لوجه كما فعل مع “أبو ناجي”!
وفي انتقالهما لشعور الخوف يجيب “أبو محمد” بجُملة تحمل خُلاصة فكرة الانمحاء الإنسانيّ عن أبيه المُصاب بالزهايمر: “أخاف كلَّما دخلتُ عليه أنْ أجده قد نسيني” ولعلَّنا هنا نتماشى مع عصر الانمحاء وملامحه. ثُمَّ تأتي أحد أبرز جُمل الحلّ في شخصيَّة “أبو ناجي” بإجابته -التي بروَزَهَا الصانع بالتصوير-: “أشدُّ ما يُخيفُني الآنَ أنْ تكون الحافلة خاويةً”.
أمَّا الجملة الأشدّ دلالةً -في نظري- على شخصيَّة “أبو ناجي” وتعبيرها عن رُوح التلاقي الطبيعيّ أمام هجمة التكنولوجيا فهي جُملة هرَبَتْ في ثنايا الحوار عندما ردَّ “أبو ناجي”: “أنا لا أنتظر شيئًا من الدنيا”. فهذا الإنسان الذي عانى تجارب الفقد والألم والخوف، ورأى الناس مُنفضِّينَ من حوله، تسحرهم شاشات لا يعلم ما فيها وما تأتي به، فشعر بأنَّه مُغترب عن تلك الدنيا، ولمْ يجد أمامه إلا أنْ ينغمس مع الغُرباء -في اعتبار الآخرين- الذين ليسوا غرباء في اعتباره، فكيف يكون غريبًا مَن شارَكَك الألمَ والفَقدَ وعُمقَ التجربة الإنسانيَّة؟!
أمَّا “الفضيلة” في أنْ تكون “لا أحد” فمن المُمكن أنْ ننظر إلى “أبو ناجي” ونرى فيه ومن مَنظوره ما الفضيلة حينما تكون غير مُشخصَن، غير مُعيَّن، أنْ ترتدَّ درجةً من التكوين الضارِب حولك الذي يُسمَّى “شخصيَّة”، والذي يفرقُك عن غيرك من البشر، إلى أنْ تعود من “جنس” البشر وحسب، أنْ تكون مُتماهيًا ومُكتفيًا بالهُوِّيَّة الإنسانيَّة.
وفي اعتباري تدور إجابة هذا السؤال حول الآتي: أنْ تكتسب فضيلة الحُرِّيَّة كالطَّير الذي يقف على كلِّ شجرة يريدها دون حوائل تمنعه منها، أنْ تحبط ثقل اللحظة الراهنة المُرتبطة بك وأن تسير حُرًّا منها، أنْ تتلفَّع برداء التخفِّي الذي يُضفي عليك سمة “المجهول”، والذي بدوره يُكسبك قُدرة أنْ يكون “لا أحد” كُلَّ أحد، وأنْ تقصَّ كامل القصص والحكايات، وأنْ يُحرِّرك فعلُ الرواية في ذاته، أنْ تصل إلى درجة التطهُّر من خلال مُشاركة الناس آلامهم وأحزانهم وضحكاتهم البريئة، وأنْ تشعر بالإيناس الذي يمنحه هذا التعاطُف الإنسانيّ .. هذا باختصار بالغ فضيلة أنْ تكون “لا أحد”.