غناء قاضية في “قانون حماية الأطفال”
في فيلم “قانون حماية الأطفال” The Children Actالذي أخرجه البريطاني Richard Eyre تحضر القاضية بالمحكمة العليا للعدل فيونا ماي (إيما طومسون) إلى غرفة العناية المركزة حيث يرقد آدم هنري وهو شاب يعاني من اللوكيميا (سرطان الدم) مهدد بالموت خلال ساعات ما لم تنقل دماء جديدة إلى عروقه، يرفض أبواه ذلك لاعتقادات دينية (من طائفة شهود يهوه التي لا تبيح اختلاط دم إنسان بدم غيره)، ويبدو الشاب الذي يدق أعتاب الرشد (يقترب من إتمام سنته الثامنة عشرة خلال أسابيع قليلة) مقتنعا ومتفهما لوجهة نظر والديه فيما رأي الأطباء أن هذا القرار هو بمثابة حكم على المريض بالإعدام بطريقة شديدة الإيلام أو بالعيش ما بقي له من حياة في وضعية احتياجات خاصة، لذلك التجأ الطبيب المعالج والمستشفى للمحكمة لاستصدار حكم لإنقاذ حياة المريض بنقل دماء في عروقه.
هكذا يجد المشاهد نفسه في خضم الحبكة الدرامية الأساسية للفيلم، فبعد جلسة مناقشة مستعجلة تقرر القاضية، في سابقة من نوعها، الانتقال إلى المستشفى لتكوين قناعتها بالاستماع للمريض الشاب وتحديد قراره النهائي، الذي على أساسه ستنطق القاضية بحكمها الفاصل بعد سويعات. لم يبد المريض الشاب متفاجئا للقاء المرأة التي تملك مفاتيح نهايته، بل ربما المشاهد والقاضية من فوجئ لقول الشاب إن حدسه دله على أن القاضية ستزوره.
تتأمل القاضية الشاب المنهك في رقاده، وهي التي تعيش أوج أزمة أسرية مع زوجها مارك ماي (ستانلي توتشي) أستاذ الأدب الروماني واللاتيني، أزمة يرجعها الزوج لغياب القاضية التي تستهلك مهنتها كل حياتها، حتى الجانب العائلي الخاص الذي تقتسمه مع شريكها في الحياة الذي صارحها بطول غياب أي تواصل من جانبها معه رغم محاولاته المستميتة، ثم يخبرها بأنه قرر ربط علاقة جسدية بامرأة أخرى.
يسلط المخرج الكاميرا الفاحصة التي تسبر غور القاضية كامرأة غادرها الشباب. ربما ترى فيه الابن الذي لم ترزقه، لما سألها عن الأولاد. فيما يظن الشاب أنه سيلقي مرافعته الأخيرة عن حقه في ترك حبل مصيره على غارب القدر.
يصر الشاب على موقفه رغم أن القاضية وضحت له كفاية خطورة قراره. يشرح الشاب اقتناعه بأن ضخ دم غريب في شرايينه هو من أعمال الشر تماما كالكذب والقتل. ويسأل القاضية عن معتقدها الديني وعن عدم أنجابها أطفالا. فلا تجيب.
قبل الوداع، تلاحظ الزائرة التي استأنس بحضورها المريض، قيثارة قديمة تجثو في نهاية سريره، قال الشاب إنها من ميراث جده وأنه شرع يدندن عليها مؤخرا، تطلب منه عزف بعض الألحان فيمسك بالقيثارة لكي يبرهن عن صدق زعمه، ويبدأ العزف ولما ينحرف عن رقن منها، ترشده هي على مكان ضبط وتر القيثارة الصحيح، ثم يشدو صوتها بقصيدة Down by the salley gardensللشاعر وليم بتلر ييتس بينما يعزف المريض الشاب، منبهرا من روعة غناء القاضية التي ما أن تنتهي الأبيات الثمانية للقصيدة حتى تهب واقفة مودعة إياه، يتضرع إليها راجيا البقاء قليلا أو معاودة زيارته. لكنها كانت في مهمة رسمية والكل كان ينتظر حكمها في قضيته.
تعود للمنصة وتنطق بالأسباب: عند الموازنة بين رغبة الشاب ووالده المستندة على معتقدات دينية وطائفة خاصة، وبين حقه في الحياة والعلاج رجحت في ميزان المحكمة مصلحة المريض القاصر. ولذلك تقررت الاستجابة لطلب المستشفى الإذن له بنقل الدم الضروري لإنقاذ الشاب. وبه صدر الحكم.
بعد مدة يعود الشاب لإرسال رسائل صوتية لهاتف القاضية، فقد نجا من محنته وانطلق في رحاب الحياة مفعما بالحيوية، أخبرها أنه يقرأ الآن أشعار ييتس، ثم اعترض يوما طريقها ليسلمها بعض الأوراق (الرسائل التي لم يرسلها وبعض القصائد والنصوص).
يركز المخرج على تعابير وجه الأم والابن أكثر من الحرج المهني الذي قد تسببه هذه العلاقة للقاضية التي لا يتفهم الشاب الذي تدخلت في مسار حياته كيف أنه كان مجرد ملف قضية صدر فيها الحكم وأغلق وانتهت.
تقف تنظر إليه متحسرة على فراقه، ثم لاحقا ترده خائبا، مرة أخرى عندما يقتحم عليها بيت مضيفها من علية القوم في نيوكاسل، كيف تقبل رجاء الشاب الحالم أن تحل محل أمه كما يظن، أي جنون ذاك الذي دفعه للاعتقاد أنها يمكن أن تقبل أن ينتقل للعيش معها في بيتها. تشيعه بنظرات الفقد والوداع وقلة الحيلة في جو ماطر يحيل على بكاء السماء لسخرية الأقدار من أوهام الحالمين.
في حفل ليلة عيد الميلاد تُشْعَرُ القاضية بأن المرض عاود الشاب بشراسة كبيرة وأن حالته قد استفحلت ويصارع الموت على سرير مستشفى وقد لا يجاوز ليلته، تعود الكاميرا إلى حصار بطلي الفيلم في مشهد أمومة تتجاوز المظهر تذكر الشاب بما ينتظره في الحياة والحب من نعيم الشعر لكن روحه تفيض اختيارا منه بعدما رفض نقل الدم إليه مجددا.
لقد صار الآن راشدا وحق له أن يقرر مصيره بنفسه، وقد فعل. لم يعد في إمكان القانون إلزامه بما لا يريد القيام به طواعية. أقفلت القاضية راجعة إلى منزلها محطمة نفسيا ومنهكة جسديا، لتعيد قراءة رسالة الراحل وهي غارقة في دموعها. يدلف الزوج إلى البيت فيجلس إلى جانبها مواسيا وبعد حوار قصير تحمل فيه نفسها وزر ما وقع للشاب الهالك ثم تخلد، ويحرس الزوج نومها حتى الصباح. يختتم الفيلم بمشهد صباحي تقف القاضية لتراقب من بعيد مراسيم دفن الشاب في المقبرة قبل أن يسدل الستار بمنظر القاضية تقفل راجعة لحياتها وقد استرجعت ألفة زوجها، تاركة المشاهد ليستخلص العبر ويفكر في كل ما رآه.
تحفة فنية
ما يبقى في ذهن المشاهد هو الإتقان المحكم لهذا العمل الفني المتميز، سواء من ناحية السيناريو أو الأداء والتشخيص، أو من جوانب التصوير وحركة الكاميرا والموسيقى التصويرية، بل حتى الملابس والفضاءات والأمكنة. إتقان وصنعة ينقلان المشاهد إلى عالم القضاء الإنجليزي المثقل بالتقاليد والهدوء والصمت إلى درجة البرود، والجدية والصرامة إلى درجة التخشب.
لابد للمتفرج المعتاد على السينما البريطانية أن يلاحظ تفوق الممثل القديرة إما طومسون على نفسها، حيث تقمصت دور القاضية والزوجة و”الأم” المحرومة من عاطفتها.
أداء إيما طومسون يذكرنا بتفوقها في فيلم “حس وحساسية” Sense and Sensibility. في دور القاضية يتعرف المشاهد على نظام القضاء الإنجليزي العريق، حيث الكل يسير في دقة عقارب الساعة المضبوطة. فسواء في فضاء العمل (المكتب، منصة القضاء وقاعة الجلسات، في البيت منا في محفل أداء اليمين من طرف القضاة الجدد أو خلال حفل مهني، كما في المستشفى) لا تزيغ صورة القاضية التي حفرت مكانتها وسمعتها بين زملائها ورواد المحكمة من مساعدي القضاء محامين وكتاب الضبط.
أما في البيت فنشاهد القاضية مشغولة بتحرير حكم أو دراسة قضية أو البحث في مرجع عن سابقة قضائية، وإيما وهي تتدرب مع زميل لها (محام) على العزف على البيانو استعداد لأداء لحن في الحفل سنوي.
هذا الانهماك في مجال العمل أثر بفداحة على صلتها بزوجها الذي أشعرها بقراره بربط علاقة جسدية بامرأة أخرى فعمدت لمقاطعته وفرضت عليه حالة من الصمت المطبق بل سعت إلى الطلاق منه.
أما المستشفى فقد زارته مرتين في المرة الأولى تنفيذا لإجراءات القانون وفي المرة الثانية لوداع الشاب المريض وهو في النزع الأخير. في الزيارة الأولى تعامل القاضية الوضع بداية بغاية الاحتراف لكنها تفقد رباطة الجأش وتستيقظ فيها عاطفة الأمومة التي حرمت منها. زيارة غريبة لأن المحاكم مستقرة في مثل حالة الشاب القاصر على الاستجابة لطلب المستشفيات دونما حاجة لوقوف القاضي شخصيا على حالة المريض واستفساره.
أما في الزيارة الثانية فقد هرعت بتأنيب ضمير استيقظ نادما على عدم التفاعل مع سعي الشاب الحالم ومواكبته. لكنها استفاقة متأخرة تبدو وكأن الشاب هو من يحاكم القاضية ونمط حياتها وقراراتها كامرأة. أداء باقي الممثلين لأدوارهم كان في المستوى، فلا جدال في حرفية الذي قام بدور زوج القاضية، وكاتب القاضية فيما كان تشخيص باقي الممثلين لا بأس به (الشاب ووالده والطبيب والممرضتين…).
الفضاءات والأماكن التي صور فيها الفيلم اختيرت بعناية فائقة: بنايات عتيقة لكن مجهزة تجهيزا فائق الحداثة (بهو المحكمة ومكتب القاضية وقاعة الجلسات، سكناها، قصر زميلها في نيوكاسل، ومكان الحفل السنوي وقاعة حفل الميلاد) أو بنايات حديثة (المستشفى، الجامعة في المشهد الافتتاحي). الفضاءات الخارجية على قلتها في الفيلم تعكس وسط المدينة في الطريق بين سكن القاضية والمحكمة وخارجها، والسفر عبر القطار السريع في الدرجة الأولى إلى نيوكاسل، ثم أخيرا المقبرة التي ضمت رفات المريض الشاب.
منذ البداية ثم خلال ثلاثة أرباع مدة الفيلم كانت الكاميرا تركز على القضية سواء عندما تكون ساكنة أو خلال النشاط والحركة، في المكتب والمنصة والقطار وعلى طاولة الضيوف وعلى البيانو خلال التدريب والأداء أمام الجمهور.
هذا التركيز يجعل المشاهد يقرأ ملامح إما طومسون ويعتاد عليها، كأن المخرج يحاول أن يكشف للمشاهد أن هذه المرأة القاسية ذات الملامح المتخشبة الخالية من أية عاطفة أو حنو، التي لا تعرف إلا قليل الكلام ومفيده، هي أيضا إنسانة وامرأة عاطفية تكتم أحاسيسها ووهنها عن الجميع حتى زوجها. تريد البوح أحيانا بمكنون نفسها لكنها تقف أمام الباب، يمنعها مانع ما من الإفضاء والولوج.
لذلك تعلق بذهن المشاهد لقطات حواراتها مع الشاب المريض (بالمستشفى وبالشارع العام وأيضا بقصر مضيفها بنيوكاسل) يبصر المشاهدة نظرات أم رؤوم تحضن وليدها وترعاه وتتمنى له كل خير، لكنها في النهاية تودعه راجية ألا تراه مجددا. وبمجرد مغادرته تندم على فعلها وتعود إلى رسائله المكتوبة والمسموعة.
الموسيقى التصويرية للفيلم المستمدة أساسا من ريبرتوار المقاطع الهادئة للبيانو لكل من يوهان سيباستيان باخ وموزار وبوتشيني رافقت المشاهد باعتبارها خلفية هادية للكاميرا تساعد على استقراء حركة الممثلين وشساعة الفضاءات والأمكنة. فمنذ المشاهد الأولى نستمع لمقطوعة بيانو Piano Partita No. 2 In C Minor لباخ ترافق القاضية وهي تحرر حكما في قضية فصل طفلين سياميين بينما يختتم لحن جنائزي حزين الفيلم في المقبرة بعد أو ووري جثمان الشاب الثرى. وبينهما طيلة أغنية المستشفى حدائق سالي The Salley Gardens والألحان المنوعة الأخرى التي عزفتها على البيانو في الحفل السنوي تحت أنظار إعجاب المدعوين الذين يشاركونها المهنة، رغم أنها كانت في حالة اضطراب وقلق شديد من أخبار تدهور صحة المريض الشاب.
حاصل القول إن فيلم “قانون حماية الأطفال” The Children Act تحفة فنية تستحق المشاهدة والتنويه وتعتبر نموذجا لاستلهام وتجسيد لعمل أدبي (في الأصل رواية بنفس العنوان للكاتب ماكيوان Ian McEwan صدرت سنة 2014 غني يفصل على الشاشة الفضية واقع الصراع بين رسالة القاضية وواجباتها المهنية التي تعود أساسا إلى القَسَم الذي تؤديه قبل الصعود إلى المنصة بأن يحكم لا خوف ولا مجاملة ولا حقد ولا محاباة، وبين الحالات الإنسانية الخاصة التي تسوقها الأقدار بين يديها.
* كاتب ومترجم من المغرب