“عين على السينما” والمشهد النقدي السينمائي العربي
ننشر هنا موضوعا جديدا للناقد المغربي محمد الحجلي بمناسبة الاحتفال بمرور أكثر من عشر سنوات على إطلاق موقع “هين على السينما”…
كثيرا ما تثير العلاقة بين النقد السينمائي وصناعة الأفلام الكثير من النقاش، نظرا للحساسية التي تطغى عليها. والسبب هو ذلك الإغراق في الذاتية التي تظهر على البعض من صانعي الأفلام و النقاد على حد سواء. فصانع الفيلم عندما تغلب عليه ذاتيته، لا يحب أن يسمع انتقادات توجه لفيلمه. والناقد أيضا عندما تغلب عليه ذاتيته، يميل إلى إستعراض عضلاته النقدية و التحليلية إما مركزا على مكامن الضعف في الفيلم و يكيل له الانتقادات على طول الخط، و إما المدح و الثناء على طول الخط. والضحية في كلتا الحالتين هي السينما.
يحدث هذا في الكثير من أنحاء العالم، لكن المغالين في النقد الذاتي منا نحن العرب، يعتبرون أن هذه حالة (عالمثالثية) فقط، ومنها الوطن العربي. و كأن العالم المتقدم (المتحضر)، أرقى منا في كل حالاته. و لا زلت أذكر في سنة 1987 مثلا، عندما فاز الفيلم الفرنسي «تحت شمس الشيطان» بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي. اعتلى مخرج الفيلم «موريس بيالا» المنصة لتسلم الجائزة. قال بانفعال واضح موجها كلامه للنقاد الذين انتقدوه: «إن كنتم لا تحبونني، أستطيع أن أقول لكم أنني لن أحبكم». وليست هذه هي المرة الوحيدة التي ألاحظ فيها اصطداما بين مخرجين و نقاد في السينما، فأذكر أن المخرج الفرنسي كلود لولوش أيضا ـ و إن بدرجة أقل حدة ـ رد على منتقدي أفلامه، في حوار تلفزيوني: «…إنهم لم يفهموا أفلامي».
هكذا تنزلق أحيانا العلاقة بين المبدع والناقد في السينما، و تنزاح عن الموضوعية، لتتحول من علاقة تكاملية تخدم الفن السينمائي، إلى علاقة تضاد يقف فيها البعض موقفا مضادا، و أحيانا معاديا أو مصارعا للآخر.
مربض الفرس (السينمائي) حتى لا يفلت من رباطه و تتحول العلاقة بين المبدع و الناقد من تكاملية بناءة، إلى تناطح و صراعات.. الخ، هو النقد البناء. فكما أن المبدع من حقه أن يبدع في حرية، فإن الناقد أيضا من حقه أن ينقد في حرية. لكن هذه الحرية عندما تكون مفتوحة على عواهنها. فإن النقد مهدد بالإنحراف. والثقافة والجماليات والإنسان بصفة عامة مهددون بالتشويه. ولهذا يجب على صانع الفيلم التقيد بمقتضيات ثقافته: الذوق الجمعي والهوية… كما يجب على الناقد التقيد بمقتضيات حق صانع الفيلم في حرية الإبداع، و في رؤاه الجمالية و الفنية. وإذ يقال في الحياة العامة: تتوقف حريتي عندما تبدأ حرية الآخر. ففي السينما نفس الشيء: تتوقف حريتي كناقد عندما يمارس المبدع السينمائي حريته. وكما أن الناقد يجب عليه أن يحترم ما أنجزه المخرج، يجب أيضا على المخرج أن يحترم ثقافة وسينما البلد الذي ينتمي إليه الناقد.
فالنقد البناء هو ذلك النقد المتوازن الذي يكتبه الناقد، وكأنه يفترض أن المخرج والثقافة حارسان واقفان بجانبه و يراقبانه لحظة الكتابة. ليحقق رغبة السينما التي ينتمي إليها. والتي تتمثل في توظيف التحليل الفيلمي لصالح خطاب تلك السينما وتلك الهوية. فالنقد السينمائي البناء والمتوازن هو نقد موضوعي وصارم في نفس الوقت. لا يغضب صانع الفيلم. و في نفس الوقت لا يحابيه أو يجامله. وإنما يضعه أمام المرآة.
أما الخطاب السينمائي فهو تلك الخلفية التي تحرك الإبداع والنقد السينمائيين لاستثمار الإبداع السينمائي بهدف تحقيق مصالح ثقافية خاصة، أو هكذا يفترض. وهو العنصر الأساسي الذي يحتكم إليه سواء الإبداع أو النقد أو التحليل أو أي نقاش ثقافي سينمائي. وعندما يفقد السينمائي بوصلة الخطاب يكون النقاش و الحوار السينمائي مجرد سباحة ضد التيار.
وبما أنه لا يمكنني الحديث عن أي نقد سينمائي مجرد من هويته، فلا يمكن الحديث عن مجلة «عين على السينما» الإلكترونية، إلا كمجلة سينمائية عربية.
شهدت حركة النقد السينمائي العربي عموما عدة محاولات لإصدار دوريات نقدية سينمائية منتظمة: المغرب تونس مصر لبنان سوريا.. الخ، لكن أسباب الإخفاق كانت أقوى و أكثر من أسباب النجاح. ولا يعود هذا فقط لغياب أو ضعف إمكانية التواصل مع المستهلك للمادة النقدية، (المشاهد السينمائي المفترض)، بل بالأساس إلى البنية العامة للممارسة الفنية و الثقافية في الوطن العربي. (النشر والتوزيع بالدرجة الأولى). ورغم إستماتة وتضحيات أصحاب هذه المبادرات، إلا أن الحلم دائما أكبر من الواقع. أو بعبارة أوضح: الواقع يخضع الحلم للإجهاض. و الواقع أن تقوية البنية كما هو معلوم، لا تأتي إلا بالتجربة. ومن الأخطاء يتعلم الناس.
مع ظهور الإنترنت، برزت بعض المجلات السينمائية العربية الإلكترونية المختصة، إلا أن تأثيرها لم يزدد حجمه رغم مرور سنوات طويلة على انطلاقها. ثم ظهرت المجلة الإلكترونية عين على السينما.
تأثير المجلة على المشهد السينمائي العربي في بعده الكوني و الإنساني، لا يمكن استنباطه سوى من رؤيتها للممارسة النقدية السينمائية. و بقدر ما تكون هذه الرؤية رصينة و متعمقة في الفن السينمائي كفن إنساني (في متناول كل الشعوب و المجتمعات)، بقدر ما تمكنها من مخاطبة العالم ـ و هذا مطمحها ـ لكن لا يمكن أن يتأتى لها ذلك، إلا إذا كان خطابها منطلقا من هويتها العربية.
القول بأن عين على السينما أرقى مستوى من باقي المجلات السينمائية الإلكترونية ليس مجاملة. و لكن في نفس الوقت القول بأنها في حاجة إلى التطوير لا يقلل من شأنها، فالتطوير دائما شرط الاستمرار و شرط الحياة، حتى يكون العمل النقدي ذات فاعلية أكبر وأكثر تأثيرا على المشهد السينمائي و صناع الأفلام في الوطن العربي. وأغلب ظني أن المجلة تضع نصب عينيها تبوأ مكانة أكبر، لتصبح أبرز منبر نقدي سينمائي عربي. لكن هذا الطموح المشروع، يتطلب تطوير وترقية المستوى النقدي للكتاب المحترمين في المجلة. وإذ لا أستثني نفسي من هذا المتطلب، فإن تطوير التجربة و الإرتقاء بها، لا يأتيان إلا بالحركية و العمل الدءوب.
تطوير التجربة، يتطلب تحديد التوجه الصحيح و التقدمي في الممارسة النقدية السينمائية العربية. ولتحديد هذا التوجه، أقترح على المجلة مشروعا فكريا و نظريا يتمثل في طرح الأسئلة الأساسية و الجوهرية في السينما العربية على كتابها و تقديمها لهم كمقترحات للتوصل بردود عليها في شكل مقالات، و تكون هذه المقالات، بمثابة إسهامات في نقاش موسع و معمق قدر الإمكان، على أن تتضمن هذه الردود/ المقالات، ملاحظات حول الإشكاليات التي تعيق تطور السينما العربية، وتقديم مقترحات و حلول لهذه الإشكاليات إنطلاقا من الإيمان الراسخ بأن تخلف أو أزمة السينما في البلدان العربية، ليس قدرا بقدر ما هو خيار بشر. وأقترح هنا الأسئلة التالية:
لماذا لم تتطور السينما العربية؟ ما الذي ينقصها؟ لماذا تهيمن صورة الغربي على أذهان المشاهدين العرب بشكل شبه كلي؟ ما سر هذه الهيمنة؟ بماذا تتفوق الأفلام المستوردة على الأفلام العربية؟ خاصة الأفلام الغربية؟ والأمريكية بدرجة أكبر؟ هل هو تفوق جمالي؟ فني؟ تعبيري؟ تقافي؟ تقني؟ لماذا لم تستطع السينما العربية إضفاء الهيبة على صورة العربي لإستقطاب المشاهدين في الوطن العربي وحتى في العالم؟ هل الإشكال جمالي فني، أم تقني مهني؟.. الخ. فأن يستهلك المشاهد العربي الأضعاف المضاعفة من الصور الغربية ـ الأمريكية بالأساس ـ مقابل ذلك القدر الضئيل من الصور العربية، و الذي يكاد أن يكون منعدما في بعض المناطق العربية، فهذا ليس قدرنا. و لا قدر السينما العربية.
إن طرح المجلة لهذه الأسئلة على كتابها وتقديمها في شكل إقتراحات للكتابة في مواضيع تهم صلب السينما العربية، من شأنه أن يحفز هؤلاء الكتاب للبحت الفكري في السينما. بل يمكن أن يجعل هذه الكتابات ترقى إلى مستوى التنظير. وهكذا يمكن أن يتوسع تأثير المجلة على المشهد السينمائي العربي. بل يمكن أن يتطور هذا التأثير ليخلق جيلا جديدا من السينمائيين العرب سواء في الإبداع أو النقد.
وعند ينطلق هذا النقاش ويتوسع، يمكن أن يتحول إلى قسم يضاف إلى الأقسام الثابتة في المجلة. وأقترح تسميته ب: آفاق السينما العربية. وعند تطوير هذه التجربة، يمكن تجميع أعداد معينة من المقالات، وطبعها وإصدارها في شكل كتب ورقية.
في النهاية، أحيي الأستاذ أمير العمري على هذه الطريقة العملية للإحتفال بمرور عشر سنوات على ظهور المجلة. وعلينا جميعا أن نعتبر أن مرور عشر سنوات من عمر المجلة، ما هو إلا بدايتها. وأن الآفاق أمامها لا متناهية الإنفتاح والرحابة.
ناقد سينمائي من المغرب