عودة إلى “بابل” وكيف تبنى برجا بأدوات السينما
فى الأفلام العظيمة والناضجة، لا ينفصل الشكل عن المضمون، بل يندمجان معا، يصبح الشكل هو المضمون نفسه،أفلام كثيرة يمكن استدعاؤها للتدليل عل ذلك، وفى كل مرة لابد أن تأتى سيرة فيلم “بابل” للمخرج المكسيكى أليخاندرو جونزاليس إينيراتو.
الفيلم من اسمه وكتابته وبنائه واللغات التي ينطق بها والأسلوب الذي استخدمه المخرج، كل هذه العناصر هى فى صميم معنى فكرته، بل هى فكرته ذاتها وقد تلونت بألوان أدوات الكاتب والمخرج. هذا الاختيار الفني، الذي يجمع بين التفكيك والتجميع، وبين الغموض والكشف، وبين التعددية اللغوية والمكانية ممتزجة بوحدة الحدث، كل ذلك جعل من للفكرة تنويعات لا حصر لها، تشارك فيها شخصيات الفيلم، بنفس الدرجة التي يتشارك فيها جمهور الفيلم الأفكار والعواطف، مهما اختلفت ألسنتهم أو قومياتهم.
عنوان الفيلم هو مفتاح الحكاية كلها، وأول ما يخطر على البال، أن تتوقع أن يكون لمدينة بابل العراقية نصيب فى أماكن الفيلم، الذي يتابع عدة حكايات تدور فى المغرب والولايات المتحدة والمكسيك واليابان، ولكن بابل لا تستدعى هنا كمدينة للتصوير فيها، وإنما كفكرة قادمة مباشرة من النص التوراتي المعروف، الذي يسرد غضب الرب من قيام الإنسان ببناء برج عملاق، لكى يصل الى السماء، فجاء العقاب سريعا بأن تتبلبل ألسنة البشر فى هذا البرج، فلا يفهمون بعضهم البعض، وهنا فقط توقف البناء.
بلبل الرب ألسنة البشر عقابا فكانت كلمة “بابل”، و “من هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض”، وبعد أن كانت الإنسانية شعبا واحدا ولسانا واحدا، تفرقت وتلونت بكل اللغات: “هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا هو ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم، حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض”.
ما بعد البلبلة
هذه إذن فكرة الفيلم متجلية فى عنوانه: سنحكى لكم عن الإنسان ولكن بعد أن تبلبل وتبدد فى قارات العالم، ستترجم الدراما فكرة الإختلاف والتعددية بل والتشتت، سيكون بناء السيناريو معادلا لبرج بابل معاصر، لنطرح أسئلة الحكاية الأعمق: هل الإختلاف معناه المفارقة الكاملة، أم سيظل الإنسان واحدا فى مشاعره وأحاسيسه رغم هذا الإختلاف؟
وهل هناك ما يمكن أن يجمع بين بشر مختلفين فى كل شئ تقريبا؟ هل يمكن أن تشكل هذه التعددية المبلبلة فى النهاية لوحة منطقية واحدة لها معنى؟
ثنائية “البلبلة ثم الفهم” هى منطق السرد كله، لذلك تبدو الحكايات فى البداية متباعدة تماما، نندهش من انتقالات غريبة بين المغرب وطوكيو، أو بين قرية مغربية وقرية مكسيكية، ومع تعدد اللغات (العربية والإنجليزية والإسبانية والفرنسية واليابانية والبربرية) نصبح فعلا فى برج بابل سينمائى، نعرف معنى العبارات المترجمة فى كل لغة، ولكننا لا نفهم بالضبط ما هو الخيط الذي يربط كل ما نراه من حكايات؟
يضايقنا اللامعنى، ولكن تصالحنا فورا مواقف إنسانية بديعة، وشخصيات تثير الفضول والتعاطف معا، ثم تكون المكافأة الأخيرة، بأن نجد هذا الخيط الذي يربط كل هذه البلبلة، والذي يوضح لنا أخيرا كيف يؤدى إطلاق رصاصة “عشوائية” فى المغرب الى التأثير فى حياة شخصيات لم يكن ممكنا أن تتخيل أن هناك ما يجمع بينها؟
فى قصة بابل التوراتية، كان الإنسان واحدا، يعيش فى مكان واحد هو البرج، فتبدد بعد أن تبلبلت الألسنة، تفرق فى كل مكان، فى فيلم “بابل” تنعكس اللعبة: هذا هو الإنسان وقد تباعد وتفرق وتبلبلت ألسنته، وها نحن نثبت لكم، من خلال الحكايات والدراما وحدها، أن هذا التباعد شكلى، فالمصير مشترك، والأرض الواحدة (معادل البرج القديم) تجعل ما يفعله أخدنا يؤثر على الآخرين، حتى دون أن نعرف.
هكذا أطلقت رصاصة عشوائية فى قرية مغربية، فأثرت على حياة زوجين من أمريكا، وكشفت مأزق خادمة مكسيكية، وكشفت أزمة فتاة يابانية ووالدها، بالإضافة بالطبع الى تأثير الرصاصة على حياة الرجل المغربى الفقير وولديه.
رصاصة عشوائية فعلت كل ذلك فماذا لو تصرفنا بقصد وبتعمد؟ ما تراه عشوائيا سيقودنا فى النهاية الى منطق، والتعددية ستنتهي الى خيط واحد يربط الجميع رغم اختلافهم، سنكتشف أن الأرض ليست فى حقيقتها إلا البرج القديم رغم تباعد المسافات، وأن الإختلاف صار جسرا إلزاميا للتواصل، ما يحدث هناك نسمعه هنا وبالعكس.
إن العقاب بالتباعد، لو تأملنا، هو فرصة لنكتشف الآخر، ولنعلم أن مصائرنا فى أيدي بعضنا البعض: الرجل المغربى مصيره فى أيدى الرجل اليابانى، والمرأة الأمريكية مصيرها فى أيدى الذين يعالجونها، وأطفال الرجل الأمريكي مصائرهم فى أيدى المربية المكسيكية، والمرأة المكسيكية مصيرها فى أيدى رجال الهجرة فى المكسيك وأمريكا.
حتى لو تعددت ألسنتا فإن مشاعرنا واحدة: سنتعاطف مع الزوج الأمريكى وزوجته المصابة، بنفس الدرجة التي سنتعاطف بها مع المربية المكسيكية، وبنفس الدرجة التي سنتعاطف فيها مع الفتاة اليابانية المأزومة نفسيا.
شخصيات وأعمار ولغات وأماكن وأديان مختلفة، لم تغير من تركيبة البشر، ننسى تماما اللغة كحاجز، فتأسرنا المشاعر والأحاسيس، هذا الألم، وتلك الرغبة فى البحث عن الأمان، وهذه العلاقات المتداخلة العابرة للمكان، تذكرنا فى كل مشهد بأننا فى نفس القارب، نحن فى الأصل شخص واحد انشطر الى ملايين البشر.
ائتلاف المتناقضات
تأتلف المتناقضات الشكلية فى النهاية حتى فى طريقة السرد حيث يعمل الغموض فى خدمة الكشف، ويعمل التفكيك والتبدد فى خدمة فكرة التواصل والاتحاد، تتحول القطعات المونتاجية بالتدريج الى بساط ينقلنا من أحد أدوار البرج، الى الأدوار الأخرى.
عندما نكتشف اللعبة تبدو الإنتقالات سلسلة للغاية وذات معنى، نشعر بنشوة حقيقية وكأننا خضنا مع أبطال الفيلم نفس التجربة: علامات الإستفهام حصلت على إجابات، والرصاصة أصابت فى الحقيقة أفكارنا النمطية غير الحقيقية بأن ما يحدث لإنسان فى مكان بعيد لا يعنينى، ولا يجب أن يهمنى، الرصاصة أسقطت فكرة المكان واللغة والدين والقومية كوسائل يستغلها البعض فى النبذ والتعصب والتباعد، الرصاصة ذكرتنا، كشخصيات فى الفيلم وكمتفرجين، بإنسانية الإنسان، وهى الأصل قبل اللغة والدين والقومية، كما أن الرصاصة قتلت كل الأفكار النمطية السهلة من نوعية: “كل عربى إرهابي”، و”كل أمريكى متغطرس”، و”كل مهاجر شرير”، و”كل يابانى سعيد “.
لاحظ أن الشخصيات بعيدة أيضا عن التنميط، فالأخيار والأشرار فى كل مكان: مرشد مغربى خدوم، يقابلة شرطى مغربى شرس، ومربية مكسيكية طييبة بقابلها ابن أخيها الندل الذي تركها في الصحراء، وشباب يابانيون غارقون فى المخدرات، يقابلهم رجل بوليس يابانى يرفض أن يستغل القتاة الضائعة، أو ينتهك جسدها.
إخراجيا كان نجاح المخرج أليخاندرو جوزاليس إينيراتو متعدد الأوجه، ومرتبطا كذلك يفكرة التعددية والإتحاد، كل مكان له طابعه الخاص، والتناقض واضح بين صحراء المغرب والمكسيك، وبين شوارع وصخب طوكيو، ولابد من تأكيده بصريا ومن خلال الإضاءة وباليتة الألوان، هنا الاختلاف والتنافر شكلى ومطلوب، ولكن من خلال التكنيك أيضا نشعر بوحدة ما، حيث تلتصق الكاميرا بلقطات قريبة ومكبرة بالشخصيات فى كل المشاهد الإنسانية رغم تنوعها، وتستخدم الموسيقى فيها بطريقة عاطفية ومؤثرة، مهما اختلف المكان والبشر.
هناك عنصر أساسى آخر وهو الصمت، فرغم أن اللغة مهمة فى نقل المعلومات، إلا أن الصمت هو الأساس الأهم فى التعبير، من عناصر النجاح أيضا ضبط الإنتقالات المونتاجية بين الأماكن، بحيث نصل فى النهاية الى ما يقترب من لوحة واحدة متماسكة، جدارية تبددت ثم أعيد تجميعها، لعبة بازل بكل الألوان، أخذت كل قطعة منها مكانها، فأصبح للحكاية معنى.
تتغلغل الفكرة فى ثناية السرد والأسلوب، هذا هو الإنسان الذي تبدد فتوحد من جديد من خلال مشاعره وأفكاره ومصيره المشترك، وهذه هى اللغة التي لم تعد تفرق، ولم تعد تفصل، لم تعد تشعرنا بالغربة، وهذه هى دموعنا على مغربى فقير، أو على مربية مكسيكية، أو على أمريكية مهددة بالموت، أوعلى فتاة بابانية منبوذة، وهذه هى السينما تطوف بك العالم، لتكتشف أنه برج مشترك وعالم واحد، ولتؤكد من جديد بأننا أجزاء من كل، وبأن كل تفكيك ينتهي حتما الى تركيب وائتلاف مثلما نرى فى أفيش الفيلم البديع.
“بابل” فيلم عظيم شكلا ومضمونا، يعيد بناء البرج الذي توقف، ويقوم بتجميع البشر الذين تبددوا، لنكتشف الفرصة الذهبية فى العقاب القديم.
ليتهم يعرضون الفيلم صباح مساء على أولئك الحمقى الذين يظنون أن مقاومة وباء لا يحتاج الى الآخر، أو يتصورون بغبائهم أنك يمكن أن تنجو بإغراق الآخرين.
ويظل السؤال مستمرا من قبل ومن بعد: هل يجب أن ننتظر رصاصة أو وباء أو كارثة فى كل مرة لكي نتذكر أن البرج واحد والإنسان واحد رغم تعدد الألسنة؟