عودة إلى الحرب في أفغانستان من خلال مراسلة صحفية

ظهرت أفلام كثيرة عن الحرب في أفغانستان والوجود العسكري الأمريكي هناك، وما يتعرض له الجنود الغربيون الذين يحاولون “إعادة” الاستقرار إلى البلاد، والذين يعملون ضمن قوات حفظ السلام الأوروبية، وغير ذلك، إلا أن معظم هذه الأفلام لم تتعرض لدور المرأة (الغربية) في الحرب

دور المرأة الغربية في الحرب الأفغانية هو موضوع الفيلم الجديد الذي يحمل عنوانا غريبا هو “ويسكي تانغو فوكستروب”، ويعني خليطا من الأمور مثلما نقول في الدارجة احيانا (سمك.. لبن.. تمر هندي) في إشارة إلى اجتماع المتناقضات.

تبدو أهمية أو ميزة الفيلم الجديد، من السطح الخارجي على الأقل، أنه أول فيلم يتناول دور امرأة في الحرب الدائرى في أفغانستان- وهي هنا مراسلة صحفية تليفزيونية أمريكية يدفعها طموحها المهني للتخلي عن عملها المريح داخل مكتبها بإحدى بقناة تليفزيونية تبث من نيويورك، للذهاب إلى كابول حيث يتعين عليها العثور على قصص إخبارية تصلح للبث وذلك منذ 2003 أي وقت ان أصبحت الحرب في أفغانستان- كما يتردد في الفيلم- تلك “الحرب المنسية” بعد اندلاع الحرب في العراق وما تبع ذلك من تركيز أجهزة الإعلام الأميريكية والغربية عموما على الجبهة العراقية وما يقع هناك من تطورات يومية خطيرة.

مذكرات حقيقية

يعتمد “ويسكي تانغو فوكستروب”، على سيناريو معد عن مذكرات الصحفية الأمريكية  كيم باركر بعنوان “تحريك طالبان: الأيام الغريبة في أفغانستان وباكستان” التي صدرت في كتاب عام 2011.

وبعد اجراء بعض التغييرات الشكلية في عدد من التفاصيل تتعلق بالشخصية الرئيسية أي الكاتبة نفسها التي أصبح اسمها في الفيلم “كيم بيكر”، وأصبحت مراسلة تليفزيونية بدلا من مراسلة صحفية، برزت هذه الشخصية لتحتل المساحة الأكبر من الفيلم، بل إنها تظهر في كل المشاهد، وكأنما الفيلم قد كُتب خصيصا لصاحبة الدور الرئيسي “تينا فاي” Tine Feyنجمة الكوميديا التليفزيونية الشهيرة وهي أيضا صاحبة مساهمات في الكتابة والإنتاج التليفزيوني والسينمائي.

وكانت قد التفتت إلى الكتاب فور توزيعه، بعد أن كتب أحد نقاد صحيفة “نيويورك تايمز” يقول إن الشخصية الرئيسية، أي صاحبة المذكرات “تبدو أقرب إلى شخصية تينا فاي” يقصد كنجمة شهيرة ترتبط عند الجمهور بشخصيتها كمتحدثة لبقة وممثلة كوميدية تظهر في البرامج التليفزيونية والمسلسلات الكوميدية والأفلام، وإن لم تحقق نفس الشهرة في السينما حتى الآن. وقامت فاي باقناع شركة باراماونت بإنتاج الفيلم كما شاركت في الانتاج كعنصر منفذ ضمن عناصر أخرى.

تقوم تينا فاي (وهي في السادسة والأربعين) بدور المراسلة التليفزيونية “كيم” وهي في الثانية والأربعين، ولم تكن متزوجة ولكما لم تنجب أطفالا. وهي تصل إلى كابول تاركة وراءها “صديقها” الذي يبدو أيضا مشغولا في مهام أخرى غير واضحة في الفيلم، فكل شخصيات الرجال في الفيلم شخصيات مساعدة، تدور سلبا أو إيجابا حول شخصية “كيم” الطاغية، الآسرة، بعينيها السوداويتين، وجمالها البسيط الغامض، وسرعة بديهتها، تماما كما هي صورة “تينا فاي” في أذهان الجمهور، بل إنها ستبدو أكثر فتنة وسحرا عندما سترتدي الملابس الأفغانية وتغطي رأسها بالحجاب!

بمجرد خروجها من مطار كابول برفقة الشخص الذي سيتولى تدبير الاتصالات لها هناك وهو شاب أفغاني يدعى “فهيم”، تهرع نحوها امرأة أفغانية تصرخ في وجهها بشراسة “غطي رأسك أيتها العاهرة”. وفي اللحظة التالية عندما تحاول أن تمنح فهيم بعض المال قبل بدء العمل، تهب فجأة عاصفة رملية فتطير الأوراق النقدية في الهواء ويتقاتل حشد من الرجال والفتية لاختطاف ما يمكنهم الوصول إليه من “الدولارات”، فندرك بالطبع أننا أمام فيلم يمزج بين الكوميديا والدراما وعمل المراسل الصحفي الحربي، مع تنويعات على مشكلة المرأة الوحيدة التي تصبح مطمعا للرجال من كلا الطرفين: الغربي والأفغاني.

خيانة الصديق

في مشهد مقتضب تكتشف بطلتنا وهي تتخاطب عبر “سكايب” مع صديقها الموجود في نيويورك أن لديه امرأة في الفراش تظهر من خلفه في الصورة، فتقطع علاقتها به، ثم تنغمس في حياة اللهو والصخب والعبث الليلية حيث نرى الصحفيين الغربيين الذين تقيم معهم، ينغمسون في الشراب والرقص والغناء وتعاطي المخدرات، داخل ذلك المكان الغريب الذي تنزل به ويفترض أنه منزل للصحفيين.

ومن البداية يقبل عليها مصور صحفي اسكتلندي فظ، لا يخفي رغبته في إقامة علاقة جسدية معها، مما يثير غيرة حارسها الشخصي الذي يطمع فيها أيضا، لتنتهي “المفاضلة” لتختار “كيم” المصور الاسكتلندي وتبدأ معه علاقة تقطعها مغامراتها بصحبة القوة الأميركية المتمركزة في المنطقة. وفي مشهد ذي دلالة يحذرها قائد الفرقة بألا تقيم اي علاقات جنسية مع جنوده.

أما “فهيم” فيحذرها من أن الجو في كابول يمتلئ برائحة البراز، ويعترف لها بأنه كان طبيبا في الماضي، ثم أصبح الآن نراقفا، يقود سيارتها، ويقوم بترتيب المقابلات التي ستجريها مع بعض المسؤولين الأفغان، ومنهم زعيم إحدى الفصائل المتنازعة الذي يقول إنه يتصورها غلاما جميلا إذا ارتدت طربوشا فوق رأسها. أما المسؤول الآخر الذي سيصبح فيما بعد، المدعي العام الأفغاني (ويدعى علي مسعود صديق) فهو يحاول من اللحظة الأولى إغواءها.

وفي أحد المشاهد الهزلية وهي بصحبة القوات الأميركية، ترغم كيم قيادة القوة على وقف مسيرة القول المسلح من السيارات العسكرية لكي تتبول على أحد جانبي الطريق. وفي مشهد آخر ترتدي البرقع الأفغاني الأزرق الطويل الذي يغطي جسدها كله وتخفي من تحته كاميرا صغيرة وتتجه صوب اجتماع لجماعة من أنصار طالبان يخطب فيهم رجل (باللغة العربية) شارحا أهمية الجهاد، وتكاد تنشب أزمة تروح هي ضحيتها، غير أن فهيم ينقذها ويعيدها الى السيارة. وفي مشهد آخر تحضر اشتباكا بين مجموعة مسلحة من طالبان والقوة الأميركية، فتترك مكانها داخل السيارة  لتقوم بتصوير المعركة.

التهالك على الجنس

تواجه كيم منافسة من جانب مراسلة أخرى شابة شقراء تدعى “تانيا” تنقل تقارير تليفزيونية من أفغانستان وتقيم معها في نفس المسكن الجماعي المشترك الذي يبدو غريبا تماما على أجواء منطقة حرب، فهو أقرب إلى كباريه أو بؤرة من بؤر تناول المخدرات والشراب.  وتبدو تانيا أكثر تحررا من بطلتنا، بل وتتطوع من البداية بأن تعطيها درسا عن أهمية وجود المرأة في هذا المكان في أنظار الرجال، وكيف أنها لا تفوت أية فرصة لكي نتقضي غرضها معهم، بل وتستأذنها في مضاجعة حراسها المسلحين.

في مشاهد الرقص والغناء، يستخدم مخرجا الفيلم: غلن فيكارا وجون ريكوت (سبق أن أخرجا ثلاثة أفلام لبطلة لتينا فاي) الكاميرا المتحركة، والإضاءة الخافتة الضبابية، والموسيقى الالكترونية الصاخبة، ولكن المشكلة أن الصورة التي يقدمها الفيلم بل ويركز عليها في مشاهد عديدة، لهذا العالم المغيب تماما، لا تبدو مقنعة لأنها لا تعبر عن فكرة ما يمكن أن تثري الفيلم، بل هناك الكثير من الإكزوتية التي تتمثل في الخلط بين الثقافة الشرقية والغربية، ففي هذه المشاهد نرى أيضا نساء أفغانيات متحررات، ترقصن، وتدخن الحشيش والأفيون، ونشاهد حفل زواج بين شاب وفتاة من الأفغان المتحررين، وفي مشهد آخر ننتقل إلى ما “ماخور” صيني، بحيث يصبح الاهتمام الأكبر للفيلم منصبا على تصوير “التدهور” و”الانهيار” الأخلاقي الغربي، دون أن يكون هناك هدف من هذا أو علاقة ما بين ما يحدث في الخارج من عنف وقتل وبين هذه الرغبة المسعورة في الهروب من الواقع>

وتبدو الديكورات المصنوعة لعلب الليل كما لو كانت تحت الأرض في مانهاتن أو أي مدينة أميركية، وليست في أفغانستان ذات البيئة الجافة. ويتردد في الفيلم أن الصين تتمتع بعلاقات خفية مع النظام الأفغاني وربما ستنجح في منافستها للمصالح الأميركية الاقتصادية والعسكرية ولكن دون أن يتتبع الفيلم هذا الخيط بهدد ذلك.

ومن أكثر مشاهد الفيلم طرافة المشهد الذي نرى فيه “علي مسعود صديق”، بعد أن أصبح المدعي العام الأفغاني، أمام المنزل الذي تقيم فيه كيم، يتحدث معها ويطلب أن تكون “صديقته الخاصة” أي عشيقته، وعندما تذكره بأنه المسؤول الرسمي عن حماية القيم الأخلاقية في البلاد،  يقول لها: وهل تعتقدين أنني لست إنسانا أحب أيضا الاستمتاع بالحياة والرقص: انظري. ثم يأخذ في الرقص أمامها بطريقة مبتذلة.

ابتزاز

فيما بعد سيتم اختطاف صديق كيم المصور من قبل إحدى الجماعات مسلحة، وسنعرف أن هذه الجماعة قد تبيعه إلى جماعة أخرى تطالب بفدية له، فتحاول “كيم” إقناع قادئ القوة الأميركية بإنقاذه لكنه يرفض ما لم تزوده بمعلومات محددة عن المكان الذي يحتجز فيه المصور، فتلجأ إلى مسعود صديق الذي يطلب أن يضاجعها مقابل تزويدها بالمعلومات المطلوبة، فتطلعه على تسجيل بالفيديو يصوره وهو يرقص أمام منزلها، وتلوح له بأنها يمكن أن تفضحه إن لم يعطها ما تطلب.

لسنا في حاجة إلى معرفة كيف يمكن أن ينتهي الفيلم، فسينتهي تلك النهاية السعيدة التي ينتظرها عادة جمهور الطبقة الوسطى الأميركية من افلام هوليوود. وتبقى المشكلة الأولى هنا أن الفيلم رغم أنه يدور في ظل صراع سياسي مباشر، إلا أنه لا يكاد يلمس الوضع السياسي في أفغانستان، فالمتفرج يخرج بعد مشاهدة الفيلم، أكثر جهلا بأفغانستان وشعبها وثقافتها وبالنزاع القائم هناك، بل إنه يختزل الأفغان في صورة هزلية نمطية، كما نرى – على سبيل المثال- عندما يقترب رجل أفغاني مسن من جندي أميركي أسود ويسأله: هل أنتم روس؟ فيقول له الجندي: “الروس خرجوا من زمان… نحن أمريكيون.. أصدقاء.. وقد جئنا للمساعدة.. كما أنني أسود”. يبتعد الأفغاني وهو يغمغم “والروس أيضا سود”!

ورغم وجود بعض مشاهد القتال ومشهد لتفجير سيارة مسلحة لطالبان بواسطة احدى الطائرات بدون طيار، بالتحكم عن بعد، إلا أن الجانب الحربي هزيل مع كثير من الاستطرادات في مشاهد الرقص والغناء والاحتفالات الليلة التي لا تتوقف. والأكثر مدعاة للدهشة أننا لا نكاد نرى “كيم” وهي تعمل، ولا نعرف ما الذي حصلت عليه من مقابلات تليفزيونية، وما أهميتها، لكننا نراها تذهب الى نيويورك لكي تشكو من تهميش القصص التي ترسلها الى القناة التليفزيونية فتفاجأ بأنهم قد تعاقدوا مع منافستها الحسناء “تانيا”، وهناك يشرحون لها أن الاهتمام الأساسي أصبح الآن منصبا على ما يجري في العراق، وأن الجمهور الأميركي لا يحب مشاهدة ما يحدث في أفغانستان رغم اهتمامه بالجنود هناك.

تبدو تينا فاي هنا وكأنها تعيش في عالمها الخاص، تتمتع بنقاء البشرة، وجمال الصورة، وطزاجة الوجه، بحيث لا نلمح نقطة عرق ولا اتساخ ملبس، ولا اختناق في أجواء كابول التي قيل لها (ولنا) إنه مناخ خانق، ويبدو أداؤها نمطيا أحاديا يسير في خط واحد، بينما يبدو الممثلان اللذان أديا الشخصيتين الأفغانيتين في الفيلم، أي الممثل الأميريكي كريستوفر أبوت في دور “فهيم”، والممثل البريطاني ألفريد مولينا في دور “مسعود صديق” أكثر إقناعا، وأكثر مصداقية، وفي أحد المشاهد يبدو أبوت متمتعا بالحكمة والرصانة والعقل وهو يقول لكيم إنه لن يستمر في العمل معها بسبب انغماسها في المخدرات ويشرح لها تأثيرها المدمر على البشر (كطبيب سابق).

كما يبدو مولينا أكثر الشخصيات جاذبية في الفيلم بتقمصه لدور السياسي الأفغاني الانتهازي الذي يخفي أكثر مما يعلن، والذي يفخر أمام كيم بأن لديه غرفة نوم داخل مكتبه يزيح عنها الستار في محاولة لإغوائها. والطريف أنه لا يكف عن المحاولة. وتظل المشكلة الرئيسية في النهاية أن الكوميديا لا تناسب الموضوع الساخن العنيف الذي يفترض أن يدور في أجواء أفغانستان الصارمة، حتى لو كانت المشاهد الخارجية قد صورت في “نيومكسيكو”!

Visited 126 times, 1 visit(s) today