عن مهرجان الاسماعيلية: نصف ثورة سينمائية في المدينة البحرية


يوم واحد فقط كان يفصل بين انطلاق فعاليات الدورة الخامسة عشرة منمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، وإعلان محمد مرسي رئيساً للبلد المضيف. يوم واحد لا يمكن احتسابه بوصفه علامة تدلل على حدوث خرق معاكس للشعار الذي رفعه المهرجان، وإن لم يكن هو “الطريق إلى الآخر”، فهو حتماً سيكون كذلك، وسيكون صعباً جداً أن يكون غير ذلك، فما يجمع بين صناع الأفلام المعروضة الآتية من دول كثيرة (39 دولة – 103 أفلام) قد لا يجمع عموم المصريين على انتخاب رئيس، وإن بدا أن اللعبة الديموقراطية تمضي هي الأخرى في طريقها، بغض النظر عن المآل والرؤية والأهداف.

بالطبع لم يكن ممكناً تلمّس تأثيرات هذا اليوم الفارق على فعاليات المهرجان من بوابة هذه اللعبة في شكل مباشر، فالأجواء المهيمنة هي ذاتها، ولم يحدث ما يعكرها أويزيد من تخوفات أحد من الحضور. فعشية الافتتاح كان ممكناً تلمّس شيء واحد وهو أن هذه الدورة ستشهد تغيراً لجهة تنظيم العروض وإقامة الضيوف، وهو أمرلم يكن ممكناً ملاحظته وإبداء الرأي فيه إلا على وقع ذلك اليوم الذي كان يؤسس لانطلاق حياة سياسية جديدة في عموم البلاد.

خريطة هذه الدورة تتركّب بالطبع على وقع ارتدادات الأحداث التي شهدتها مصر بعد 25 يناير 2011، ولن يكون صعباً فهمها أو تناولها من زوايا مختلفة تتيحها برمجة الأفلام نفسها، وتحت عناوين من الواضح أنها جاءت لتضع هوية واضحة ومحددة لن يمكن القفز عنها مستقبلاً إلا بتوقف المهرجان نفسه، وهذاأمر يرفضه السينمائيون المصريون، وهم يعبرون من ثلاثية شادي عبد السلام “الطريق إلى الله” يوم الافتتاح، مروراً بالأفلام التي صنعت عن الثورة المصرية بعيون مصريين وأجانب، ووصولاً إلى الأفلام القصيرة لرواد كبار في السينما المصرية أنتج معظمها في سبعينات القرن الماضي، وبعضها يعود إلى داود عبد السيد وهاشم النحاس وأشرف فهمي وعلي بدرخان وخيري بشارة وآخرين.

طرق كثيرة

بالطبع تبدو الطرق كثيرة هنا، وجميعها وإن بدت موصدة في الشأن السياسي أو مفتوحة على احتمالات عدة بعد انتخاب مرشح حزب العدالة والتنمية مع ما يفرضه من اصطفافات في الشارع المصري تملك حساسيات كبيرة وتؤرخ بالتأكيد لمرحلة جديدة لم تعرفها مصر في تاريخها الحديث، إلا أن “الطريق إلى الآخر” سينمائياً – سيبدو مختلفاً، على الأقل لجهة الإحساس به وطريقة التعاطي معه بعد الآن، مع بعض الحذر الذي أبداه البعض من هذا اليوم الفارق على الصعيد السياسي، إذ يمكن العثور بين الناس هنا في هذه المدينة البحرية المطلة على قناة السويس على ما يمكن أن يبدد الوجوم والحذر لدى البعض من النتائج التي فرضت نفسها على إيقاع المهرجان ليقول لك في الشارع حين يخوض معك نقاشا لمجرد الإلمام بلهجتك: “لقد أعطيت صوتي لأحمد شفيق، ولكنني سعيد بفوز محمد مرسي”.

 قد يبدو الطريق ملتبساً. هذا على الصعيد الشعبي، ولكن بما يخص الأفلام التسجيلية المصرية المشاركة في المسابقة ستبدو الأمور في من قلبآ خر، قريبة من هذه الهواجس، ومحتشدة بها، وتغص بأسئلة مترقبة، وبعضها يأتي من حساسية مختلفة نوعاً بحكم طريقة العيش والتفكير أيضاً، فما يجمع مثلاً بين فيلمي “العذراء والأقباط وأنا” للمخرج نمير عبد المسيح، وفيلم “في الطريق إلى وسط البلد” للمخرج شريف البنداري ليس هوية المخرجين، ولكن تلكالرؤية والحساسية تجاه موضوعات لم يكن ممكناً التعبير عنها في أوقات سابقة، لولا تأكد ذلك المزاج الذي بات يتحكم بحياة المصريين بعد ثورة 25 يناير.

نحن هنا لا نقف عند تيمة الفيلمين. فهما مختلفان تماماً، ولكن ما يهم هو محاولة الإمساك بالخيط في الطريق إلى الآخر، ففيما بدا فيلم عبد المسيح متوجاً بلحظة إشراقية لجهة إعادة تنظيم طقس ظهور السيدة العذراء في صعيد مصر الذي ينتمي له المخرج قلباً وقالباً، وإن جاءه هذه المرة بعد إنهائه دراسته في فرنسا من زاوية غير متعودة هنا، فما بين ظهور السيدة الأول، وإعادة تمثيل ظهورها الثاني يفصل أكثر من أربعة عقود، وفيما اكتسب الظهورالأول الذي أهدى المخرج إلى الفكرة معنى شعبياً ملزماً للناس بحكم الظروف التي أنتجته في تلك الفترة للتقريب بين عموم المصريين على خلفيات هزيمة1967، والظهور “المفتعل” الثاني عبر استخدام تقنيات الخدع وحفر الغرافيك بعد اندلاع ثورة يناير، ثمة الكثير ليقال، ويحلل، ويناقش، وما فعله المخرج هو أنه أهدى الناس البسطاء في الريف الذي ينتمي له إمكانية فهم الأبعاد الميتافيزيقية لهذه الظاهرة عبر الضحك. الضحك هنا ربما يقرب بين الناس ويفيد لجهة التطهر وربما يوضح معالم الطريق إلى الآخر، بعكس ما يمكن أن يفرزه يوم واحد يفصل بين نتائج الانتخابات وانطلاق فعاليات المهرجان.

 أما في فيلم “الطريق إلى وسط البلد” لشريف البنداري فسنقف أمام شرائح منتقاة من المجتمع المصري بعد ثورة يناير. وإن بدا الطريق موصداً أمامها للوهلة الأولى، فإن المهم في التجربة ذاتها هو أن هذه الشرائح باتت تدرك بالفعل طريقها إلى هذا البقعة الجغرافية القاهرية بامتياز، وهي وإن ترافقت معهم دائماً، إلا أنها كانت موصدة ومغلقة على الدوام، وما يراه الآن أبطال الفيلم الذين يؤدون أدوارهم هنا في محاولة معرفة ليس الطريق إلى الآخر فحسب، وإنما الطريق إلى النفوس، وهي طريق دائرية طويلة وفيها تشعبات ومنحنيات كثيرة يقول عنها رئيس المهرجان مجدي أحمد علي إنها لن تودي بالتأكيد إلى أعشاش الظلام.

لا ترقب ولا جزع

في مدينة الإسماعيلية لم يكن هناك ترقب بين السينمائيين، ولا جزع من أينوع. يعرف الجميع أن الطريق إلى سينما “رينسانس” حيث تعقد معظم العروض، هوالطريق إلى الآخر، وما يقوم به السينمائيون المصريون هنا – على طريقتهم–  قد يوضح أكثر فأكثر معنى انطلاق هذه الدورة عشية الإعلان عن انتخاب الرئيس. وحتى لو جاء ذلك مصادفة بحتة، إلا أن “نصف ثورة” كما هو حال فيلم كريم الحكيم وعمر شرجاوي بإنتاج دنماركي طويل نسبياً، لن يفوت على أهل المهرجان النظر من زوايا مختلفة لما حدث في البلاد بعد 25 يناير، وما سيحدث من الآن فصاعداً بعد وصول مرشح الإخوان المسلمين إلى السلطة.

Visited 12 times, 1 visit(s) today