عن فيلم “اليوسفي” الجورجي المرشح لأوسكار أحسن فيلم أجنبي
يشارك الفيلم الجورجي “اليوسفي” Mandariinid في سباق الجولدن جلوب لجائزة أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية لعام 2015، وهو رابع أفلام المخرج زازا أوروشادزي Zaza Urushadzeالذي سبق ووصل إلى القائمة القصيرة لترشيحات الأوسكار لهذا العام.
بإمكان الجميع التعايش مع بعضهم البعض، لأن التواصل مع الآخر خاصية أصيلة في الإنسان، حتى وإن فرقت الحروب الناس، فلا يزال بإمكانهم التعايش في وئام.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اتخذ الاستونيون من بعض قرى أبخازيا مسكنا لهم، وفي عام 1992 عندما بدأت الحرب الجورجية الأبخازية، حيث أرادت جورجيا ضم تلك المناطق لها وأراد الأبخاز الحفاظ عليها لهم، وفي وسط تلك المعمعة، غادر العديد من سكان تلك القرى مما جعلها خالية تماما.
موضوع الفيلم
يروي الفيلم قصة إحدى تلك القرى الصغيرة، أثناء الحرب بين جورجيا وأبخازيا في بداية التسعينات، رحل جميع من في القرية تلك لأنها قريبة من مناطق النزاع المسلح بين قوات الجيشين، وتبقى فقط في تلك القرية ماركوس وهو يرعى أرضا كبيرة بها ثمار اليوسفي يحاول قطفها قبيل اشتعال الأحداث أكثر، ويستعين بـ إيفو الأخير أيضا بصحبة ماركوس في هذه القرية، والذي يمتلك ورشة نجارة، يصنع صناديق لماركوس لكي يضع بها اليوسفي، وكلاهما استوني وبالرغم من اقتراب المعركة، يبقى إيفو في القرية ولا يغادرها، ويغامر بحياته.
تحدث بعض الاشتباكات أمام منزليهما ثم يقتل من يقتل ويصاب من يصاب، يبقى فقط جنديان من معسكرين مختلفين وهما عدوين بالطبع، أحمد وهو شيشاني أحد الجنود المرتزقة الذين يحاربون لصالح أبخازيا، والآخر نيكا وهو جورجي، يأخذهما إيفو لمنزله لكي يعالجهما، ثم يحاول أن يؤلف بينهما بشتى الطرق الإنسانية، ويحاول أن يعيدهما إلى رشدهما بتذكيرهما باستمرار بأن الإنسان في الحرب عبد لأداته/ سلاحه الذي بتماهيه معه يتحول إلى سلاح، سلاح يحمل سلاحا، وأن الطبيعة الإنسانية أصلها التآلف لا التقاتل.
الإنسان يتغير بتغير أدواته، فالطبيب الجراح لا يتأثر بمنظر الدماء عندما يتماهى مع أدواته، ولكن إذا كانت مسألة التماهي تلك مؤقتة، أي أن ذلك الجراح هو جراح لأول مرة، لأول مرة يمسك مشرط ويقطع جلد مريضه، سيحاول التماهي مع أدواته حتى لا يخونها وحتى يسيطر عليها، وإذا انتهى من عمله، عاد إلى طبيعته قبل امساكه وتماهيه مع الأداة التي تقطع وتنشر الدماء، يتأثر يفزع من منظر الدماء مثل أي شخص آخر، كأنما عادت له ذائقته، ذائقة الخوف من الموت والتمسك بالحياة.
يحافظ أحمد ونيكا على إيقاع غضبيهما ويقينهما بضرورة الثأر لرفاق كل منهما، يتدرب جسداهما وروحاهما على التنافر شيئا فشيئا في البداية، يبغضان بعضهما أكثر فأكثر، لعدم وجود رقيب أو ضمير حي، يصحح لهما ويحافظ على قيمة الحياة بينهما، ضمير أكثر خبرة، اسمه إيفو.
يتلاقى الجنديين، يعيشان في مكان واحد، يوجد فيه ضمير حي، يصحح لهما دائما، ينصحهما دائما، يحاول أن يحافظ على القيمة الإنسانية أمام أعينهما، يتجاهلانه في البداية ثم ينصتان له، لأنه يتكرر، ثم يصبح روتينيا، فيعتادان عليه، يشعران بأهمية الضمير وقيمة إيفو بينهما بالإضافة لقيمته الأخرى حيث أنه أنقذ حياتهما، يدركان فداحة موقفهما من بعضهما البعض، يتخلصان من بقايا أخلاق السلاح/ المعركة، يتماهيان مع نفسيهما أكثر، ينصتان لصوتهما الداخلي، يبحثان عن الجمال، واحد يرى الجمال في الأنثى، والآخر يراه في مساعدة الآخرين، وعند تلك اللحظة، يتأكد إيفو من نجاحه في معركته ضد الغضب.
السيناريو في الفيلم يحاول بشكل مكثف التعبير عن موقفيهما تجاه بعضهما، أحمد ونيكا، من خلال تقديمهما وشرحهما نفسيا للمشاهد من خلال بعض المشاهد في بداية ادراكهما لوجودهما في نفس المنزل، يعرض نية كليهما في الثأر لرفاقه، ثم يعرض حاجزا يمنعهما من تنفيذ ذلك الثأر، والحاجز ذلك هو الوعد الذي أخذه إيفو عليهما بأن لا يمسا بعضيهما في منزله، الوعد ذلك هو الكلمة.
تتصاعد الأحداث في الفيلم من خلال الحوار، لأن الحوار هو النافذة الوحيدة على روحيهما، وهو الذي يمتلك الأثر الوحيد في تلك الحالة، لأن الحوار هنا صوت العقل والضمير، والذي يأخذ إيفو على نفسه تلك المهمة، بأن يوقظ عقليهما وضميريهما من خلال الحوار، الذي يعرض رؤية كل واحد منهما للحياة، أحمد رب العائلة الذي ذهب للحرب طلبا للمال، ونيكا الممثل المسرحي الذي ترك مدينته لنداء الواجب، وأيضا يعرض اندفاع أحمد واستعلاء نيكا، وعقلانية وطيبة قلب إيفو، رمانة الميزان في ذلك المنزل الذي يجمع ألد الأعداء وأحب الأصدقاء.
الشكل الفني
في أوقات الأزمات الشديدة كالحروب مثلا، يتوجب على أي خطاب أن يكون مباشراً حتى يجد صداه الوقتي في نفوس مستمعيه، وهو ما يحدث في الفيلم، فالأزمة الحربية بين البلدين، تستوجب خطابا من جنسها، حتى يتم ادراك أثره في أسرع وقت، خطاب يشبهها في مباشرته ويشبه محتواه الهادئ في طريقة عرضه.
العديد من المشاهد في الفيلم تستخدم شكل التعبير المباشر، ولكنه غير مبتذل، بل هو ضرورة إبداعية، لم تفقد قيمتها لأنها لا تتكرر في الفيلم في غير محلها، كمشهد وجود الجثث وسط الأشجار الميتة، أو لحظة الحزن الكبيرة على وجه ماركوس وهو ينظر من خلال نافذة عليها بعض الشباك، أو شكل الألوان وحركات الكاميرا.
فحركة التراك بالكاميرا (Track in،out،right،left) هي حركة عاطفية بالأساس، تبرز القيمة الإنسانية من خلال تركيزها على الإنسان لا على محيطه، حيث اقترابها دائما، وسلاسة حركتها تجاه الهدف، يوحي بفكرة البحث في ضمير الإنسان، خاصة وأنها يتم استخدامها أثناء الحوارات العاطفية أو المحورية الهادئة والرصينة في الفيلم.
يستخدمها المخرج بكثرة في الفيلم، حتى يكاد يستخدمها طيلة زمن الفيلم، الكاميرا دائما متحركة والحركات الأكثر هي للتراك، وهي حركات تدعم إنسانية الفكرة العامة للفيلم، وتعبر مباشرة عن موضوعه الرئيسي المضاد للحرب بالقلق الداخلي والخارجي، وتعبر أيضا وتؤكد قيمة الحوار الذي هو أصلا محور تصاعد الأحداث في الفيلم.
ويسيطر شكل الألوان المتماثلة على أشياء الفيلم، أي الألوان من نفس العائلة، وما توحي به عن سطوة الحرب على كل شيء في ذلك التوقيت بالذات، واصطباغ الأشياء والمحيط بألوانها، من ملابس وبيوت خشبية وثمار اليوسفي/عنوان الفيلم والأشجار الميتة والأرض الطينية، وهو الشكل المباشر للتعبير عن قيمة الحرب وأثرها على ما حولها، كما تعبر تلك الأشياء أيضا عن فكرة العودة للجذور، عند توحدها التام مع فكرة الفيلم، التي تؤكد أن الفطرة الإنسانية من صفاتها قبول الآخر ودعمه، وهو ما يحاوله إيفو طيلة زمن الفيلم.
يناهض الفيلم الحرب، ويحاول أن يعالج أثرها في المدى القريب قبيل تفاقم وقعها السيئ على المدى البعيد، يستخدم خطابا مباشرا ليصل لشريحة أكبر، ينجح المخرج في توظيف أدواته كل في محله، ينجح في إدارة الممثلين، الذين أضافوا لشخصيات السيناريو، شكلا حقيقيا وحيا، وتوظيفه للموسيقى الجورجية ذات اللحن البسيط، كألحان الأزمات دائما الارتجالية، لتتضافر كل تلك العناصر كي تعبر بصدق عن تلك الأزمة التي راح ضحيتها في الواقع وكما تذكر الشهادات، حوالي خمسة عشر ألف شخص، لم يجدوا الفرصة لكي يتفاهموا.