عن السينما النوعية: افلام الكوميديا والرعب

محاضرة: تونى مكيبن

ترجمة: ممدوح شلبى

سنتحدث اليوم عن إثنين من السينما النوعية، وما نقصده بالسينما النوعية هذه، أنها تلك الأفلام التى نتوقع من الجمهور التفريق بينها بسهولة كأنواع، مثل الأفلام الكوميديا وأفلام الرعب والأفلام الحسية، والأفلام العاطفية، فكل هذه التصنيفات تؤدى إلى رد فعل واضح لدى الجمهور. وكما أشارت ليندا ويليامز فى كتاب “الإباحية” (تخيل انك مخرج الفيلم وانك تقف وراء المُشاهدين فى صالة للسينما، وانك أخرجت فيلماً كوميدياً لكن الجمهور لم يضحك: أو أنك أخرجت فيلم رعب ولم يصرخ أحد من المشاهدين، عندئذ ستكون أميل إلى الإعتقاد أن الفيلم فاشل”.

ليست كل الأفلام النوعية تتطلب هذه الإستجابة، فأى شخص يستطيع مشاهدة أفلام غرب أمريكى أو خيال علمى أو حتى أفلاما موسيقية ومع ذلك لا نتوقع منه إستجابة، وفى هذه المحاضرة سوف نُركز على نوعين من السينما النوعية، هما الفيلم الكوميدى وفيلم الرعب.

فى الفيلم الكوميدى تُعتبر الإستجابة بالضحك بصوت عالٍ مؤشراً واضحاً على نجاح الفيلم، وبرغم ذلك فإن أفضل الأفلام الكوميدية لا ينتج عنها رد فعل قوي، هل أفلام “هناك شئ ما بخصوص مارى” و”زولاندر”و”الطائرة” أفضل من الأفلام الثلاثة الكوميدية التى سنركز عليها فى هذه المحاضرة، وحتى إذا كنا نضحك بصوت عالٍ فى هذه الأفلام الساذجة ولا نضحك بنفس الطريقة مع شارلى شابلن وودى ألن وبيل فورسايث، فهل مستوى الضحك مجرد ملمح من ملامح الفيلم الكوميدى؟ يجب أن نتذكر أن الفيلم الكوميدى لا يتحدد فقط برد الفعل من جانب الجمهور، ولكنه أيضاً يتحدد من خلال الحساسية التى يقدمها المخرج فيما يمكن أن نسميه “الحس الكوميدى للمخرج”.

فى الأفلام الثلاثة التى إخترناها، توجد تلك الحساسية التى تقودنا إلى التفكير فى خصوصية الكوميديا، فنحن نقول أسلوب شارلى شابلن وأسلوب وودى ألن وأسلوب فورسىيث، وقد تكون كوميديا الأخوان فاريللى عالمية ولكن أليست هذه واحدة من نماذج الكوميديا البلهاء والسيئة التى ظهرت فى العقد الأخير وغالبا كان آدم سندلر او بن ستيلر هما أبطال هذه الأفلام السيئة رغم أن النجمين رائعين؟

فى فيلم “العصر الحديث” يبدو كما لو أن الكوميديا ليست مُضحكة، إنها تعبر عن حساسية شارلى شابلن وتكشف عن الإشكالية الإجتماعية فى الزمن الذى ظهر فيه الفيلم، وكما أشار بألمعية الناقد السينمائى روبرت وارشو فى “التجربة الآنية” (يهتم المجتمع فقط بالسعى وراء الربح لدرجة الإعتماد على آلات قميئة وغير إنسانية لمجرد أنها تُحقق لهم هذا الربح، بينما الصعلوك كان مهتماً بممارسة علاقات إنسانية ومهتماً بالقيم الإجتماعية).

وكشف شابلن كيف أن الهامشى يظل هامشياً وغير قادر على الإندماج فى النظام الإجتماعى كما خلق شابلن من المصنع ترميزاً رائعاً وواقعياً عن المجتمع الذى كان يتبنى آراء تيلور (كفاءة الإنتاج فى متجر أو مصنع يمكن أن تتزايد بمراقبة دقيقة للعامل على نحو شخصى وبالقضاء على الوقت المُهدر………).

لم يجعلنا شارلى شابلن نضحك بسهولة، كما انه عرض لنا عدم قدرة الأشخاص على الإندماج فى النظام الإجتماعى وخاصة نظام المصنع حيث يتضاءل الإنسان ويصير مجرد جزء من الآلة، حيث نرى شابلن- فى المشهد الكلاسيكى- يعمل على خط إنتاج ويتم تجربة آلة الطعام الجديدة عليه، ألا يتأسس موقف شابلن فى كوميديته على عبثية موقف الرأسمالية حيث الإنسان مجرد وحدة إنتاج؟

توظيف الأماكن

المجتمع فى كوميديات المخرج الإسكتلندى الكبير بيل فوسايث يتم تقديمه بنفس الطريقة، ففيلم “فتاة جريجورى” يُصور بلدة إسكتلندية جديدة ولا يُركز المخرج على قتامة المناطق السكنية للبلدة التى من المفترض أن تُحسن الظروف الحياتية للناس الكثيرين الذين إنتقلوا من الأحياء الفقيرة لمدينة جلاسكو، حيث يعيش الناس بدون هدف ويشعرون بالملل ولا يحصلون على وسائل الراحة فى حياتهم، فورسايث لا يفعل ذلك، فهو يُوظف الأماكن الحقيقية لكل لأغراضه الكوميدية.

فى المشهد الذى يمشى فيه جريجورى (الشخصية الرئيسية فى الفيلم) أمام بابه ويرى مجموعة من الأطفال يلعبون فى المنطقة، هذا المشهد يلخص جيداً كوميديا فورسايث المتناقضة: ولعلنا نتسائل، أين آباء هؤلاء الأطفال؟ ولكن فى نفس الوقت نرى جيل جديد من الأطفال الأصحاء يلعبون بأمان بعيداً عن المدينة فى تلك البلدة الصغيرة جداً. يلعب فورسث طوال الفيلم على توقعاتنا الطبقية فى مقابل حسه الكوميدى، حتى أنه عندما يرتطم جريجورى بوالده فى الطريق، فإن فشل التواصل بين الأب والإبن يتحول إلى فرصة مثالية للأب ليُظهر معرفته بمراوغة الشباب وميلهم إلى عدم التواصل.

الذى إستطاع فورسث عمله بتفوق هو تضمين وجهة نظر أخرى للأحداث، وكمثال على ذلك نكتته التى قالها، فى كتاب “أبطال قوميون” لألكسندر ووكر، حيث يركز الكتاب على تشاؤم الأسكتلنديين وعلى وجهة نظره الخاصة للعالم، فى أحد المرات تسلق إسكتلندى قمة جبل إفرست وقوبل صعوده إلى القمة بنفس النظرة التى يتطبع الجميع بها، فالمواطن الأسكتلندى سيقول (كل هذا جيد جداً، لكنه مازال عليه أن ينزل الجبل مرة ثانية).

لقطة من فيلم “موت عذراء” لبولانسكي

فى فيلم “مانهاتن” لوودى ألن يبدو لنا الفيلم خاليا من الكوميديا، ومثل معظم أفلام وودى ألن من منتصف السبعينيات وحتى أواخر الثمانينيات، كان العنصر الكوميدي يأتى دائماً من خلال الشخصية التى يُمثلها وودى ألن، حيث تنبع الكوميديا من طرافة الحوار وليس من الموقف الكوميدى.

دعونا نفكر فى المشهد المبكر من الفيلم حيث يجلس وودى ألن وأصحابه فى مطعم إيلين ويناقشوا أخلاقية إنقاذ أحد الأشخاص من الغرق، فنجد إستنكار وودى ألن وفى نفس الوقت يبرر لنا موقفه بأحسن ما يمكن: هو لا يحتاج إلى القلق بخصوص الموقف الأخلاقى لأنه -وودى ألن- لا يستطيع السباحة.

دائماً فى أفلام وودى ألن ثمة إظهار للحوار الثقافى المتحضر مع كلمات يصعب أن نسمعها فى حياة الناس الحقيقية، هذا مثال واضح لشخصية ألن الكوميدية، لكنها أيضاً تخبرنا الكثير عن الموقف المتحضر للشخص، ولا يمكن أن نجد مدينة تصلح كخلفية للفيلم من مدينة مانهاتن، فهى المدينة التى يقدمها لنا بكل مجدها وسُمعتها، لكن هذا أيضاً يحول الشخصيات إلى مرضى بمرض عصابى غير معروف حيث يتردد الناس فى مواقفهم، وغالباً نحن نضحك على الموقف المضحك الموضوع فيه وودى ألن وعجزه عن إتخاذ أى موقف بحسم.

المناخ الكوميدي

كتب الناقد جيرارد ماست فى “كتاب السينما” إصطلاح ” المناخ الكوميدي” للإشارة إلى الأحداث التى يمكن وقوعها فى الفيلم النوعى والتى تجعلها مفهومة للجميع، عندما ينزلق أحد الأشخاص على قشرة موز فإننا لا نتوقع أن ينكسر ظهره، فهذا الشخص سرعان ما يقف على قدميه، لكن كل السينما النوعية يمكن أن نقول عنها أنها تحتوى على “مناخ” وانه من المفيد أن نستتوضح  ما نعنيه بالمناخ، ففى فيلم الرعب ما هو الشيئ الذى يجعلنا نشعر أننا فى عالم تقشعر له الأبدان، ولا يهم إذا كان كل فيلم أخرجه مخرج له شخصية إبداعية؟

فى المشاهد الأولى التى تكشف شوارع لندن من فيلم “إشمئزاز” لرومان بولانسكى، نجد انها لقطات تسجيلية للمدينة، ولكن هل هو أسلوب بولانسكى فى إستخدام العدسات الواسعة، الأسلوب الذى لا ينتقل فيه من اللقطة إلى اللقطة العكسية إلا ليسمح للشخصية أن تغزو إطار اللقطة، أم أنه أسلوب الصوت الذى يتم تكبيره بوحشية حتى يُعطينا إحساساً بالخطر؟

رومان بولانسكى مخرج عظيم لمشاهد الخطر والإنهيار التى تحدث للأشخاص بسبب بيئة خانقة وقمعية.

لكن هذا الإختناق من صنيعة الأشخاص غالباً، وفى فيلم “سكين فى الماء” و”طفل روزمارى” و”إشمئزاز” وكذلك فيلم “الموت والرباعية” “Death and the Maiden” فى هذه الأفلام يُحلل بولانسكى الرعب على أسس نفسية: مدينة لندن ليست مدينة مرعبة لكن بولانسكى شغوف بالعقول المشوهة وسينما الرعب شغوفة بالأطر المشوهة والأصوات المُبالغ فيها والتى تقود إلى تزاوج مدهش للعناصر.

ويمكن أن يُقال الشئ نفسه عن ديفيد كروننبرج، ذلك المخرج الشغوف بالجسم كشغفه بالعقل، فعندما خصصت مجلة “سكرين” أحد أعدادها لأفلام الرعب الجسمانى فى عام 1986، كان المخرج كروننبرج محور هذا العدد، فأفلامه تكشف لنا رؤوساً تتفجر وعضلات أيادى تكسر أيادى أخرى، كما نستمع إلى تكسير عظام وأعضاء تتطاير من الأجسام.

هل من المسلم به أن مُخرجاُ يقرر أن يرى الجسم كمكان لإستكشاف الرعب يمكن ان يعمل فيلماً عن طبيبى أمراض نساء توأمين “قارعوا الأجراس الميتون” أو أنه توجب عليه ان يُعيد نفس الحالة فى فيلم “الطائر” “The Fly” مع التركيز على تعفن جسمانى؟

عندما يلاحظ أحد شخصيات فيلم “الحاضنة” ان جسمه يسقط فإنه يتندر على ذلك بقوله (لديه ثورة صغيرة فى يديه) وهو تعليق يتفق مع فكرة كروننبرج فى “كروننبرج وكروننبرج” أنه إذا كنا نستطيع أن نتخيل فيلماً من وجهة نظر المرض، فإن عدداً من أفلامه تنتهى نهاية سعيدة، ولكن إذا كان كروننبرج مثل بولانسكى يبحث عن مناخ الرعب وأيضاً يستخدم العدسات الواسعة والأصوات الخافتة التى تتحول فجأة إلى ضوضاء، فكل هذا يجعلنا نشعر بأننا لسنا فى بيئة آمنة، لكن الأولوية عند كروننبرج هى الجسد بينما الأولوية عند بولانسكى هى العقل.

غربة كوبريك

قد لا يكون ستانلى كوبريك مشهوراً بأعتباره مخرج أفلام رعب، لكن أفلامه فى كثير من الاحيان تكشف عن الغُربة، إحساس التشويه الذى ينتج من إستخدام العدسة واسعة الزاوية، وإستخدام الأصوات التى تستدعى عناصر من أفلام الرعب، لدرجة أننا عندما نتناول فيلمه “السطوع” “The Shining” فإننا لا نجد هذا الفيلم جديداً عليه، فى المشهد الأول عندما يتقدم جاك نيكلسون لطلب وظيفة حارس شتوى لفندق، نلاحظ  نوع الإيقاع المتباطء واللقطات المُشوهة التى تحيط بالغرفة فتخلق مناخاً ينذر بالخطر، ومثله مثل كل المخرجين الذين تحدثنا عنهم اليوم، يتوافق ستانلى كوبريك مع توقعات السينما النوعية وفى نفس الوقت يزيد عليها.

توجد لحظات نكاد نصرخ فيها، ورغم ذلك يهتم كوبريك بمناخ الفيلم النوعى أكثر من إهتمامه بتقديم الإثارة المتوقعة من مخرج أفلام رعب، وبصفته مخرج نوعيات محتلفة من الأفلام مثل “دكتور سترانجيلوف” وفيلم “2001” وفيلم “البرتقالة الآلية” وفيلم توني كيبن”عيون مفتوحة على اتساعها” Eyes Wide Shut” وبصفته مخرجاً قدم أفلام رعب ودراما تاريخية وأفلام حرب وخيال علمى وأفلام إثارة، يعى ستانلى كوبريك إصطلاح الفيلم النوعى جيداً لكنه أيضاً يريد أن يوظف الفيلم النوعى لكى يخدم أهدافه الخاصة، ما هى الأهداف الخاصة فيما يتعلق بكل مخرج من المخرجين الذين تحدثنا عنهم اليوم، هذا ما سوف نستكشفه أثناء مشاهدتنا لأفلامهم، كذلك فإننا نترك النقاش مفتوحاً حتى نتفق على الأسباب التى تجعل الفيلم كوميدى أو فيلم رعب مهول.

Visited 44 times, 1 visit(s) today