“عصر السينما”: ذاكرة السبعينيات الخصبة

رامي عبد الرازق

كانت هذه رسالة أرسلها إلي الصديق الناقد الأستاذ رامي عبد الرازق بعد أن قرا كتابي “شخصيات وأفلام من عصر السينما” قبل أحد عشر عاما. ورأيت أن أنشرها الآن لتوثيق رؤية ناقد لكتاب كنت أروي فيه الكثير من أحداث الفترة التي عشتها في السبعينيات ضمن ثقافة السينما في مصر…

أمير العمري

في البداية دعنا نتفق ان ما أكتبه الان ليس استعراضا للكتاب ولا عرضاً ولا تحليلاً ولكنه مجرد انطباع اولى بعد القراءة الأولى التي اتممتها ما بين القاهرة وأجواء البحر المتوسط ومطار اثينا الدولي حيث انتهيت من قراءة خر صفحات الكتاب ومطالعة الصور في الملحق ثم استعراض بعض أسماء المراجع والتأكد من تسجيل أسماء افلام كثيرة مما ورد ذكرها والحديث عنها.

أستطيع ان اؤكد بعد قراءتي لكتاب “عصر السينما” و”حياة في السينما” وحتى كتاب الشيخ أمام، أن ثمة ذاكرة خصبة تحتفي بسنوات السبعينيات وتسلط الضوء على تفاصيلها السياسية والأجتماعية دون ان تلق تلك الذاكرة نفس الأحتفاء التي تلقاه ذاكرة جيل الستينيات التي لا تزال تشع بألق غريب وتطفو فوق امواج النسيان باستماتة وقوة.

هناك عشق وتقديس لكل ما هو ستيني حتى هزيمة يونيو نفسها التي تعتبر خاتمة هذا الجيل ومرحلة فاصلة بين عهدين وفكرين واسلوبين وربما حضارتين مختلفتين.

اما السبعينيات حيث سنوات ما بعد الحرب والانتصار، السنوات التي شكلت “بالتة” الألوان التي سوف تصبغ الحقبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التالية باطيافها اللونية المموهة والغامضة والشريرة والايروتيكية والمازوخية فإنها– اي سنوات السبعينيات- لا تحفل بالكثير من الاعتداد والجاذبية والتألق الذي يتباهى بهم جيل الستينيات ومن تبعهم! رغم أنه في رأيي غير المتخصص فإن حالة التماثل التاريخي على الأقل واضحة ومباشرة لدرجة كبيرة – وربما ساذجة – فكما كانت التوجهات الاشتراكية وحلم القومية العربية هو انتصار السيتينيات وكانت نكسة 67 هي هزيمتهم فإن جيل السبعينيات مر بما هو اقسى من ذلك حيث دخل إلى الحقبة وهو محمل بميراث المرارة اليونيوي وذاق عُسيلة الأنتصار في اكتوبر ثم كشفت المرحلة عن هزيمة جديدة في سنوات ما بعد الحرب (الانفتاح والامن الغذئي والأمن الثقافي) إلى ان انتهت إلى “نكسة” خطيرة آخرى بتوقيع معاهدة السلام في نهاية الحقبة التي شابتها دموية رهيبة بدءا من دماء الشهداء في الحرب مرورا بالاغتيالات المعنوية للرموز والتيارات والتوجهات الجادة والأصيلة (اليسارية وغيرها) التي نجت من اهوال الستينيات وصولا إلى رصاصات المنصة و”مش معقوووول “!

لست أدري ما نفع هذه المقدمة الطويلة في الحديث عن عصر السينما ولكن كان من الصعب علي أن استغرق في قراءة الكتاب والاستمتاع به والأندهاش بما جاء فيه – مستكملا خلفيات بعض القصص والشخصيات من الكتاب السابق- دون أن تراودني علامة التعجب الضخمة التي حاولت ان اتعقبها ببعض فذلكات سياسية وموقف منحاز تماما إلى تلك الحقبة التي يتنصل منها كثيرون ويسفه منها أخرون ويحتقرها الأولون ويتجاهلها اللاحقون.

باستثناء قائمة الأفلام الطويلة التي قمت بإضافتها على القائمة السابقة من كتاب حياة في السينما لم اقم بتخطيط او وضع اي اشارات عند مواضع معينة بالكتاب واكتفيت بإعادة قراءة بعض العناوين الجانبية أكثر من مرة وبعض الفصول كذلك وليس معنى هذا ان الكتاب لا يمنح قارئه تلك الميزة التخطيطية التي تميز كتبا كثيرة ولكن لأنه ببساطته وسلاسة لغته وهدوء ايقاعه يرسم خطة قراءته واستيعابه بنفسه ولا يحتاج إلى أي مساعدة من “خطوط سرد ” خارجية.

هناك التزام “درامي” في الحكي يعتمد على ملمحين اساسيين الاول هو شخصنة الاماكن والأفلام والمراحل او التيارات التي يتحدث عنها الكتاب والشخصنة هنا ليس معناها عرض المعلومات او وجهة النظر من خلال نظرة شخصية ضيقة او مغرضة- رغم ذاتية السرد والرواية- ولكن القصد هو الشخصنة بمعناها الدرامي البحت أي الحديث عن الأبعاد المكونة للشخصية الدرامية أو تشكيل ابعاد درامية للمكان أو الفيلم او التيار الذي يتم الحديث عن، على الأقل على مستوى الأبعاد الأساسية الثلاث البعد الشكلي والبعد النفسي والبعد الشخصي وخلفية البيئة القادمة منها “الشخصية /التيار/ المكان/ الفيلم ” هذه الشخصنة الدرامية هي نفسها الملمح الثاني او لنقل الوجه الاخر لعملية الحكي أو الاسترجاع – بحكم منطق الذاكرة الذي اتحيز إليه – فالحديث عن صبحي شفيق وحسين بيومي ويوسف شريف رزق الله والفصل الخاص بتجربة غالب شعث وشخصية نصري حجاج كله يتم في قالب من الدرامية التي لا تفرزها فقط طبيعة الأحداث ولكن اسلوب السرد وعملية – وعلمية-  الاستعراض والأسترجاع والربط .

عناوين الفصول رغم كونها احتفائية إلا أنها تحمل الكثير من الحزن والاشفاق على مرور هذا الزمن الجميل او التصريح بطبيعة الألم الذي كان يقترن مع لذات كثيرة مكتسبة بحكم الظرف التاريخي أو الحركة الشخصية للكاتب ومن حوله ضمن خطوطهم الحياتية,لكننا في نفس الوقت لسنا امام محاولة للتألم بصوت مرتفع او الاستلاب النفسي لصالح الماضي ولكنني اعتقد ان الهدف هو محاولة قراءة اسباب الألم واللذة  بعد سنوات من انبعاث ضجيجهم الذي لا يزال صداه يتردد داخل نفس الكاتب وعقله -خصوصا في الفصول الأولى من الكتاب- وقبل النفاذ من الشباك الضيق إلى افق العالم الأكثر رحابة وشدة وأعني بذلك سفر الكاتب للخارج.

(مصطلح الخارج هنا يتخذ بعدا جغرافيا ضيقا لأنني اتصور انه في عصر السينما كانت مفاهيم مثل الخارج والداخل على غير ما نعرفه نحن الآن وندركه).

الفصول الخاصة بقراءة وتحليل الأفلام يمكن ان تشكل مرجعا مهما وجيدا في التواصل مع تلك التجارب وعن نفسي قمت بتأجيل قراءة الفصل الخاص بافلام من عصر الثورة والغضب لحين التحصل على نسخ من تلك الأفلام وقد حصلت بالفعل على نسخ من “سحر البرجوازية” و”الطوبو” إلى جانب بحثي –عن- ومشاهدتي لفيلم “زائر الفجر” وإعادة قراءة ما كتب عنه ليس فقط من قبل الكاتب ولكن من قبل نقاد اخرين، بل وخروجي من افق زائر الفجر المحلي إلى تجربة جافراس “زد” التي اعتمدت على تعدد اصوات السرد وتفتيت الزمن والتي تمت الأشارة إلى كون صناع زائر الفجر قد تأثروا بها ومن هنا تبدو قيمة ان تشير ككاتب بمنهجية إلى خطة دراسة بشكل غير مباشر يمكن أن ينتهجها أخرون ممن سوف يجتازون اروقة الكتاب بشكل غير عابر.

اتصور ان الاختلاف مع الكتاب يمكن أن يأتي من خارجه وليس من داخله اي ان الاختلاف سوف يكون في تأويل بعض الأحداث او زاوية تناول الشخصيات ولكن لا اتصور ان احدا يمكن ان يختلف على واقعيتها وصدقها لسبب واحد وهو أن الكاتب يكتب عن اشخاص لا يزال اغلبهم على قيد الحياة وحتى من رحل منهم فإن لدي من عاصروهم وعرفوا عنهم الكثير ما يمكن ان يجعلهم يتصدون لاي معلومة خاطئة او اشارة مغرضة.

نعود إلى مسألة الذاكرة الخصبة. أن اهمية الكتاب بالنسبة للاجيال الجديدة والحالية من نقاد السينما والمهتمين بها -على قلتهم- هي هذا الزخم من الأسترجاع واعادة تشكيل التفاصيل والإشارات. إنه درس عملي في كيفية احياء الثقافة السينمائية والتعامل بجدية مع روافدها وفروعها ومصبها الرئيسي بل والشد من أزر من يعاني وتعضيد من تخور قواه، فإذا كان ” الزمن الصعب ” قد افرز مثل هذا الجيل من النقاد والمهتمين والمؤمنين بقيمة وقوة الفن السابع فلماذا لا نتصور ان الزمن الحالي/ “الأصعب” يمكن أن يعيد لنا الثقة في أنفسنا وفيما نحاول أن نقوم به ونحارب من أجله.

إننا أمام ميراث قريب زمنيا ذو حضور آخاذ يمكن أن يشكل قاعدة انطلاق متينة لو درسناه جيدا واستوعبنا اخطاءه واستلهمنا من نقاط قوته وجلد اصحابه ومعاصريه.

ملحوظة:

الأقواس لاتزال مفتوحة لإعادة قراءة الكتاب والبوح بالمزيد من الأفكار التي يطلقها.. والفكرة المختمرة منذ الكتاب السابق لصياغة الشخصيات والأحداث في قالب فيلمي لذات اصالته وتشبع بيت الرأس برائحتها. قريبا قد تشتعل الكوانين أو تحمي الأفران للبدء في طقس الانضاج والتسوية.

Visited 7 times, 1 visit(s) today