“صوفيا”.. صفقة لستر التناقض الطبقي
الفيلم المغربي “صوفيا”، من إخراج مريم بن مبارك عام 2018، والحاصل على جائزة أفضل سيناريو بقسم “نظرة ما” في مهرجان كان السينمائي، يُسلط الضوء على قضايا الأمهات العازبات بالمغرب، مُستندًا على قصص واقعية لنساء مغربيات عايشن التجربة.
“صوفيا” فتاة عشرينية وحيدة أبويها اللذين ينتميان للطبقة المتوسطة. يستثمر والدها “فوزي” أمواله مع صديقه “أحمد” في مشروع تجاري قد يحقق الرفاهية لعائلته، لا تشعر بنفسها إلا وقد أتاها المخاض في جلسة عائلية تجمع بين أسرتها وخالتها وابنتها “لينا”، وصديق والدها “أحمد”، هكذا دون مقدمات ودون أعراض مُسبقة للحمل وفق حالة “الحمل الخفي” الذي لا تظهر أعراضه.
تأخذها “لينا” إلى المستشفى دون علم العائلة، يمنحهما الطبيب أجلا محددا لحضور والد الطفلة، لتبدأ رحلة “صوفيا” ويبدأ التساؤل “من هو والد الطفلة؟” لتُجيب “صوفيا” مضطرة عن هذا السؤال، وتنسب ابنتها لشاب يُدعى “عمر” عاطل عن العمل، يسكن حي “درب سلطان” أحد الأحياء الشعبية بمدينة كازابلانكا، والمعروف بالحالة المتدنية لساكنيه، يستنكر أفراد العائلة اعتراف ابنتها، يشيحون بوجوههم ويُخفونها مُرددين “درب سلطان؟!”، تتوالى الأحداث باعتراف “عمر” بالطفلة، وبزواجه من “صوفيا”، إلا أن الأخيرة تعترف لعائلتها في النهاية أن “عمر” ليس هو الأب الحقيقي!
سيتساءل المشاهد بشكل تلقائي “لماذا اعترف عمر بالطفلة رغم إدراكه أنها ليست ابنته؟!”، لتتجسد الإجابة في الصفقة التي ستُرضي جميع الأطراف، ستمنح لـ “عمر” وعائلته فرصة العمر التي قد لا تتكرر، بأن يقترن بفتاة تنتمي لطبقة أفضل، ويضمن من خلال هذا الزواج فرصة عمل ثابتة يعول بها أسرته وينتشلهم من الفقر المحتوم.
ومن الجهة الأخرى، ستتمكن “صوفيا” من إبعاد شبح الفضيحة عن عائلتها، وبالتالي تحفظ مشروع والدها من الانهيار، ألن تكون هذه صفقة رابحة لجميع الأطراف؟، إلا أن الصوت يرتفع من داخل العائلة، تستنكر ابنة الخالة “لينا” أن تتزوج “صوفيا”، الفتاة التي لم تخرج من بيتها ولم تر العالم، بهذه الطريقة البراغماتية المفتقرة للمشاعر، لتجيبها والدتها -تقوم بدورها الممثلة القديرة “لبنى أزابال”- بجواب حكيم من امرأة محنكة، اقترنت برجل أعمال وتعيش في أرقى الأحياء، فتقول بثقة بعد أن سردت ذكريات يوم زفافها: “أنا لم أتزوج أباكِ لأنني أحبه، وجدته جميلًا، ذكيا، منفتحًا، عطوفًا، تزوجته لكل هذه الأسباب، ولكن ليس الحب، تزوجته من أجل حياة أفضل، لكي لا تحتاجي أي شيء منذ يوم مجيئك للحياة، وكما ترين، تعيشين أفضل حياة الآن، كل طلباتك مُجابة، ألست سعيدة بهذا؟”.
وتتابع “لن يكون الأمر سهلًا في البداية، لكن عمر وصوفيا سيعتادان، وسترين بنفسك، الناس يتكيفون مع كل شيء”. هكذا قدم الفيلم ببساطة رؤية زواج المصالح، الزواج الذي يبدو كصفقة طويلة الأجل تُحسب فيها الأرباح والخسائر، ولا تقودها سوى الأرباح، ضاربًا بعرض الحائط أي وجود للمشاعر بين طرفيه. ومن جهة أخرى؛ فقد عرض إشكالية الحلول المتاحة أمام الأمهات العازبات، إما عقد صفقة مناسبة، أو السجن، أو لا شيء سوى الندم.
لا يكتفي فيلم “صوفيا” بعرض قضيته المثيرة للجدل فحسب؛ بل يغوص عميقاً داخل مجتمعات العاصمة الاقتصادية للمغرب، طبقات لا تنتمي للمجتمع ذاته وإن جمعتهم هويتهم المغربية، بدا ذلك بشكل جَلِيّ في جلسة المواجهة الأولى بين عائلة “صوفيا” وعائلة “عمر”، تكوين الصورة نفسه قسمهم لفئتين، إذ يجلس والد “صوفيا” ووالدتها وخالتها في جهة، بينما تجلس عائلة “عمر” في الجهة المقابلة، ولا يصل بين الجهتين إلا مقعد تجلس فيه “صوفيا” حاملة ابنتها بين ذراعيها، وكأنها ستكون من يربط بين طبقتين متباعدتين.
تنظر إليهم والدة “عمر” ببساطة السيدة التي لم تخرج من حي “درب السلطان” وبالكاد تملك قوت يومها وتتساءل “أين تسكنون أنتم؟”، تُجيبها والدة صوفيا: “أنا أسكن في المدينة، وأختي تسكن في حي أنفا” -يُعتبر هذا الأخير أرقى أحياء مدينة كازابلانكا- فتجيبها السيدة: “تبارك الله، أسمع أن المنازل هناك من أفخم ما يكون”. جلسة المواجهة الأولى بين العائلتين جمعت ثلاث طبقات من المجتمع، مُرتبة تصاعديًا بداية من عائلة “عمر” بدرب السلطان، مرورًا بعائلة “صوفيا” الساكنة في المدينة، وصولًا إلى أرقى الأحياء حيث تسكن “خالة صوفيا”، عائلات تُميز بينهم أماكن سكنهم، وتُحدد مكانتهم وإمكانياتهم وفق ترتيب هرمي دقيق، ففي كازابلانكا؛ يكفي أن تُعرِّف عنوانك ليعرف الجميع كل شيء.
إلا أن اختلاف الأحياء السكنية ليس العامل الوحيد الذي يفصل بين شخصيات الفيلم، إذ يتم التركيز على عنصر لا يقل أهمية، هو عنصر اللغة، فنلاحظ بوضوح أن الأشخاص لا يتحدثون اللغة نفسها، فعائلة “عمر” لا يتحدثون إلا اللهجة الدارجة المغربية فقط، وعائلة “صوفيا” يتحدثون بمزيج بين اللهجة المغربية واللغة الفرنسية، أما الخالة وابنتها -الساكنتان بحي أنفا- فلا تتحدثان إلا الفرنسية، في الحزن والفرح وحتى في أشد لحظاتهم خصوصية، وفي مناقشة الأمور الدقيقة الخاصة بهم وحدهم، لا تحضر إلا اللغة الفرنسية.
ولا نتعرف على هذه التناقضات من خلال الحوار وحده، وإنما للكاميرا وحركتها لغتهما الخاصة التي تنتقل بين الأحياء في مشهد طويل، تعبر فيه السيارة بين أحياء كازابلانكا المختلفة حركة تصاعدية مُبتدِئة بأبنية سكنية تُشبه عُلب السردين، وتستمر في التحضّر متجهة نحو الحداثة تدريجيا حتى تصل بنا أخيرًا إلى حي “أنفا” وتستعرض للمشاهد ما يعنيه بذخ السكن في مثل هذا الحي وما تحوي البيوت داخلها.
نقدٌ ذاتيّ دقيق تُقدمه مُخرجة الفيلم “مريم بن مبارك” وتتحكم بخيوطه دون أن يختلط أحدها بالآخر، تطرح التساؤلات خلال الأحداث عن هوية المجتمع المغربي الذي يتميز فيه الأفراد وفق لغة يكتسبونها ويتعاملون بها حسب عوامل عديدة، وعن عائلات لا تجمعهم اللغة نفسها حتى وإن جمعهم النَسَب.
يحاول الفيلم انتقاد الفصل 490 من القانون الجنائي المغربي والذي يقضي بسجن “كل رجل وامرأة جمعت بينهما علاقة جنسية خارج إطار الزواج لمدة تتراوح بين شهر إلى سنة”، يستعرض أن المشكلة لن تكون في الممارسة وإنما في تبعاتها التي لن تُحَل بالحبس أبدًا.
يطرح الفيلم قضية الأمهات العازبات بجرأة البحث عن الحلول وسط مجتمع مضطرب بفعل قضايا لا يمكن فصلها، فيشتغل صُناعه بذكاء مُنتقلين بسلاسة بين خيوط لا يمكن تجنب تشابكها، يبدأ بالمرأة ويعود إليها ليعرض الإشكالية التي لا تزال تشغل الرأي العام منذ سنوات، تُجسدها الفتاة “صوفيا” التي تعرضت للاغتصاب ولم تجد أمامها إلا أن تُدبر أمورها مُستلهمةً الحكمة والذكاء من اسمها الذي لم يكن مُصادفة.