شعرية المكان.. عن المدن والسينما

جغرافيا الالتباس

الفيلم السينمائي، على نحو ثابت وبلا أدنى شك، كان يُنظر إليه بوصفه وسطاً مبنياً على أساس الزمن. في علاقتها بالعديد من الأشكال الفنية الأخرى، مادة الفيلم هي الأمد، الجوهر سريع الزوال الذي نختبره عبر الزمن. هذا التوكيد على الزماني قد يُنسب، جزئياً، إلى ولادة السينما في عصر الحداثة، يميّزها الافتتان بلحظات الزمن المركبة على نحو مختلف. السينما، من نواحٍ كثيرة، قُرأت باعتبارها معْلماً للتجربة النفسية لما هو عصري، الميل في اتجاه الغياب، والانتقال المفاجئ والانفصال (بفعل المونتاج).

مع ذلك، في الآونة الأخيرة، علاقة الفيلم بالمكان أصبحت بؤرة الاهتمام والجدال، عند صانعي الأفلام والنقاد على حد سواء. هذا التحوّل الدقيق في التوكيد له علاقة بالبيئة الحالية، عصر العولمة، التي جدّدت جذرياً علاقتنا بالمكان.

عند مستواها العام، العولمة تزيل تواريخ المكان المحددة، وتعمل من خلال الارتباط عبر الحيّز. العالمي يزعم أنه يحمل ثقافة التجانس، مع ذلك يتميّز بحالة متفاوتة عميقة في فعالياته، منتجاً أماكن تصبح مبثوثة عبر شبكة الاتصال وتلك التي تصبح محجوبة. وحتى ضمن المراكز المنبثقة من شبكة جديدة (مدن عالمية)، تجربة المكان تكون موسومة جذرياً عن طريق الاختلاف والتفاوت والانشقاق.

ديناميكية العولمة هذه، فعالية ثقافة التجانس والسلطة مقابل التنافر والتغاير والكبح، تصف صلة السينما السائدة بغيرها. نتاج هوليوود يحتفظ بالاحتكار على الطرق العامة السريعة، بينما السينما المستقلة/ البديلة تكون مجبرة على استخدام قنوات أصغر في ما يتعلق بالإنتاج والتوزيع.

هذا يصف كثيراً الوضع المألوف على نحو مفرط. لكن النتيجة الأبعد لهذا التفاوت العالمي ينبثق ثانيةً في الثقافات السينمائية نفسها وعلاقتها التفاوتية بالزمن والمكان.

انهماك هوليوود الكلي والرئيسي بالأفلام ذات الميزانية الضخمة يعمل من خلال المجرى الزمني، ومعالجة الأحداث الماضية أو إسقاط تخيلات مستقبلية. سواء أكانت تنظر إلى الوراء أو إلى الأمام، فإن سيادة وتفوّق هوليوود في المؤقت الزائل، الملحمي في حجمه، الأسطوري في روحه وطابعه. رداً على ذلك، السينما البديلة، على نحو متزايد، تقدّم لنا إحساساً بالنسيج المخطط، المتفاوت، للمكان. وبفعل ذلك، تعيد كتابة تجربة العولمة من موضع التغيير. مع ذلك، هذا ببساطة ليس قضية تمثيل، وكيف يظهر المكان. الانعطاف المكاني في الفيلم هو على نحو طموح إعادة كتابة لقوانين بناء القصة.

لقطة من فيلم “عشرة” لكياروستامي

حكايات متضاربة

السينما البديلة لها وسائل متنوعة في التعاطي مع المكاني، وهي وسائل عديدة لا يتسع المجال لحصرها هنا. من بينها التعاطي مع المدينة العالمية. هذا لايعني مدينة عالمية محددة، بل بالأحرى التناسق والعلاقة مع تجربة العيش في هذه المراكز الأيقونية. من البعيد (من منظور القمر الصناعي) نقاط اللقاء تضاء مثل خيوط من الأضواء عبر الكرة الأرضية، متوهجة بفعل طاقة التمويل، المعلومات، وتدفق السكان.

في القرب، في مستوى الشارع، الطاقة تكون في حالة فوضى وتشتت وتضارب أكثر. في فيلم المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتوAmores Perros  أمورس بيروس””  (2000)، المدينة العالمية هي مكسيكو سيتي. في فيلم ميكايل هانيكه “شفرة مجهولة” Code Unknown (2000) هي أقل من باريس الفاتنة، وفي فيلم عباس كيارستمي “عشرة” Ten(2002) هي الخلفية المتحركة باستمرار لطهران المرئية من نافذة السيارة.

هذه أفلام تنقل الشروط التقليدية للقصة نحو نقيضها: التعاقب السردي ووحدة القصة تفسح المجال لتعايش القصص. التطور الهادف للحبكة يفسح المجال لعشوائية العلاقات وشعرية الصدفة. الزمني بالطبع يلعب دوره حيث التوكيد يكون متروكاً للحدوث المتزامن للأحداث أكثر من الحل المتعاقب عبر الوقت. مع ذلك، إنها السبل المحدودة للحيوات، والقصص، التي تجتاز طريقاً غير متصل بآخر، يتسم بالفوضى، عبر المدينة التي تمنح وضعاً خاصاً للمكان.

المدينة في مرحلة العولمة هي مكان متخيّل مختلف. مكان انتقائي مع ذلك فإن مثل هذه الانتقائية مستنفدة فيما الحيوات معاشة لكن يقصيها التفاوت الاجتماعي.

أحشاء الوحش

فيلم “أمورس بيروس” Amores Perros منقسم إلى ثلاثة أجزاء، وأحداثها تقع في ثلاث بيئات اجتماعية. إنها قصة شاب يناضل في سبيل الخلاص من حياة الشقاء والفقر، ومن أجل البقاء. وقصة امرأة (موديل) ناجحة في مجال الاعلان والأزياء، ومرتبط بعلاقة عاطفية مع رجل متزوج. وقصة ثوري اشتراكي سابق تخلى عن حياته السابقة وأضحى متشرداً.

كل قصة تمثّل خيطاً ضمن نسيج كثيف داخل المدينة، وهذه الخيوط تتداخل وتتشابك مع خيوط أخرى على نحو متزامن، حيث الشخصيات تتلاقى مصادفةً، على نحو غير متعمد ودونما معرفة. الصلة الحقيقية الوحيدة تحدث من خلال التصادم، حادث سير يمثّل نقطة التقاء تتكرر في الفيلم. ونحن نعود إلى هذا الحادث ليس كلحظة حاسمة وفاصلة من التنوير بل ككابوس ذي عقدة متكررة على نحو لا نهائي. حادث التصادم يؤدي إلى إصابة الشاب ومقتل صديقه، والموديل تتعرض لاصابات خطيرة ينتج عنها بتر ساقها وبالتالي انتهاء مسيرتها المهنية. أما المتشردفيسرق ما يعثر عليه بداخل السيارة المصدومة كما يأخذ كلب الشاب ليعالجه ويرعاه.

لقطة من الفيلم المكسيكي “أمورس بيروس”

إذا كنا قد اعتدنا على التزامن وفق ما تطرحه هوليوود من حيل هزلية لتصوير اللقاءات التي تحدث بالصدفة، والأحداث سيئة التوقيت، وحالات سوء الفهم، فإن فيلم Amores Perros يعمل من خلال الإحساس، المصور على نحو قاتم أكثر، بإمكان حدوث شيء مصادفةً، والمواجهة العنيفة.

عنف مثل هذه التعارضات ليس متضمناً بواسطة بناء سردي يقود نحو حل قابل للشرح والتفسير، لكن يستمر في التماوج نحو رحلات منفصلة مرة أخرى: الشاب يغادر المدينة للعيش في مكان آخر. علاقة الموديل بحبيبها تتعرض للارتياب جوهرياً، وعلى نحو كامن تصاب بأذى وضرر. وحده المتشرد تتحول حياته إلى الأفضل نوعاً ما، حيث يرمم علاقته بابنته، ونفهم ضمنياً عودته ليؤدي دوراً اجتماعياً منظوراً. مع ذلك فإن فعل الترميم هو بحد ذاته معبّر وشديد الأثر: المتشرد يقتحم خلسةً شقة ابنته من أجل الاستكشاف والإقامة في حيّزها بينما هي غائبة. في انعطاف آخر للعلاقات المكانية في المدينة، يمكن للشخصية أن تقطن في الحيّز نفسه الذي تقطن فيه ابنته لكن من دون حدوث اتصال بينهما.

تماماً مثلما التقارب في حياة المدينة غير مساوية للألفة والحميمية، كذلك الحميمية لا تعتمد على التقاسم المتزامن للمكان. ومثلما الالتقاء وجهاً لوجه لا ينتج عنه التواصل، فإن الارتباط الإنساني يحدث على نحو متزايد من خلال الأشكال الوسيطة، غير المباشرة. لو أصبحت اللقاءات الإنسانية مستحيلة، موسومة بالوحشية (عراك الكلاب، تصادم السيارات)، فإن الارتباط الإنساني غير قابل للتحقق إلا في غياب الآخر.

استحالة تقاسم المكان

إن كان هناك تناسق بين العزل المكاني في المدينة وتشظي الشكل السردي، فإن هذا يتوسع إلى مدى أبعد في فيلم هانيكه “شفرة مجهولة.. حكايات ناقصة عن رحلات عديدة”. كما يوحي العنوان الفرعي، شكل الفيلم يُحدث تمزقاً في التماسك السردي وترابطه المنطقي. الفيلم على نحو فعال يقدّم إلى الجمهور اغتراب حياة المدينة من خلال رفضه لإقامة صلات، وتأويل الأحداث بوصفها حافلة بالمعنى، ولحل الشفرة لنا على نحو فعال. مع ذلك، العلاقات المكانية في الفيلم ببساطة لا تعيد انتاج الاغتراب بل تقدّم الاستحالة التخيلية لتقاسم المكان الاجتماعي، واخفاق المدينة كرمز أو شعار للوحدة.

علاوة على ذلك، المدينة تُرى على أساس أنها متشكلة من خلال علاقتها بالمكان الآخر. افتتاحية الفيلم تُظهر شارعاً باريسياً، مركز الحياة الكوزموبوليتانية، مع ذلك، مباشرة تتعرض تلك الاستقامة إلى الارتياب والمساءلة.

امرأة تلتقي بشقيق حبيبها الهارب من الحياة الريفية مع والده ليعيش في المدينة حيث يحقق أحلامه من خلال تواجده فيها. لكن الأمور تتعقّد عندما يرمي هذا الشقيق نفاية في جحْر امرأة جالسة تشحذ. رجل أفريقي يشهد ذلك فيقترب منه ويوبخه على فعلته طالباً منه أن يعتذر. الأمور تتطور إلى مشادة تستدعي تدخل رجال الشرطة الذين يكشفون عن عنصرية بغيضة حيث يتم اعتقال الأفريقي بسبب بشرته.

لقطة من فيلم “شفرة مجهولة”

فيلم “شفرة مجهولة” يجمع قصصاً من أمكنة مختلفة تتجمع في باريس. هنا التوكيد ليس على التصادم والتعارض بل على الاخفاق في تحقيق الاتصال. المدينة هي موقع للارتباطات المؤقتة في عالم متحرك يتسم بامتزاج الفئات الاجتماعية على نحو متزايد. لكن تجربة الأمكنة الأخرى هي مؤجلة، محفورة في كل شخصية. المصور الصحفي الذي كان حاضراً في نطاق الحرب الدائرة في بلدان يوغوسلافيا السابقة يجد نفسه مرغماً على العودة إلى هناك (تجربة المكان الآخر تتحكم بتجربة الـ “هنا”). المهاجرة من رومانيا لأسباب اقتصادية، والتي تشحذ في شوارع باريس، وتتعرض للإبعاد عن فرنسا، تعود ثانيةً إلى باريس. الشاب الذي يعيش في مزرعة مع أبيه لا يستطيع أن يعيش في الريف بعد أن جرّب العيش في المدينة. والأب الأفريقي المولد يرحل عن باريس لزيارة موطنه الأصلي.

إن قابلية التحرك أو الانتقال هي التي تحوّل علاقتنا بالمكان. السفر ليس الفتح غير المشكوك فيه، الذي لا يحتمل النقاش والجدل، للآفاق الجديدة، إنما هو الوسْم النفسي، الذي غالباً ما يخلّف أثراً باقياً أو يترك ندوباً. نحن نتاج المكان الذي كنا فيه. ومع هذه الأمتعة المكانية المتراكمة، فإن امكانية أي عودة إلى الوطنيتم تجاهلها واقصاءها. فكرة تقاسم المكان، وكون ذلك موضعاً لتجربة اجتماعية مشتركة، هذه الفكرة تتعرّض للتلاشي فيما ينسل الفيلم نحو قصص منفصلة، وصعوبة سرد تلك الحكايات.  

العنوان الفرعي أو الجانبي للفيلم يشير صراحة إلى أنها حكايات ناقصة، بالتالي هذا يحول دون توقعنا لقراءة قصة موحدة مركزية. ثمة مشاهد تبدأ من منتصف محادثة وتنتقل الكاميرا إلى مشهد آخر من دون أن ينتهي المشهد السابق. مثل هذا الانتقال الراديكالي يصعّب من إمكانية استيعاب المشهد استيعاباً كاملاً، ويتحدى قدرتنا على ربط القصص ببعضها. هذا يوحي باستحالة الاتصال بين الشخصيات.

من جهة أخرى، الفيلم يسعى وراء إيجاد لغة سينمائية تعيد انتاج تجربة التشظي الاجتماعي. وهي لغة قوانينها تبدو اعتباطية كما اللقاءات الإنسانية التي تختلقها المدينة. إن فيلم “شفرة مجهولة” لا يمثّل ببساطة الوضع الاجتماعي المشتت لحياة المدينة وانما يتيح للغة الفيلم (المتصلة بالمونتاج وبناء القصة) أن تعاد كتابتها أثناء المعالجة.

العالم من خلال النافذة

هذه الأفلام تكون في طليعة التناقضات الظاهرية للعولمة: القرابة من غير حميمية، تبادل الحوار من غير فهم، التجمع المكاني من غير حب الاختلاط بالآخرين. إنه نموذج من صنع الفيلم الذي يفكك الأساطير العالمية الخاصة بالانضغاط والاتصال الزماني المكاني، والخاصة بالحلول العالمية لمشكلات العالم ومعضلاته، والخاصة بالتجمعات العالمية.

ليس هناك لقطة مثبّتة على المدينة، بل كما في فيلم كيارستمي “عشرة”، هناك رؤية من خلال نافذة السيارة لمواقع في المدينة عابرة وسريعة الزوال، ومثل هذه المناظر لا تكون أبداً في البؤرة، أو ضمن نطاق التركيز. نحن طوال الوقت تقريباً داخل سيارة متحركة، اتجاهاتها تمليها رغبة الركاب في الذهاب إلى جهة أو أخرى. نحن نشهد أو نستمع إلى شذرات من قصص أفراد لا نعرفهم جيداً، وهذا قد يحدث في لحظات من الحميمية المؤقتة أو تبادل الحوار العادي. إننا نتقاسم المكان بطريقة اعتباطية فيما نحاول، على نحو أخرق، أن نجتاز مسالكنا الفردية من خلاله.

هذه هي أحشاء الوحش العالمي، أسفل شبكات من التحكم المشترك والقنوات المأمونة والمضمونة لمقايضة السلع.. تجربة السبل المحفوفة بالفوضى والتشوش، والتصادمات العشوائية.

المصدر:

Vertigo, Volume 2, Issue 6, Spring 2004         

Visited 56 times, 1 visit(s) today