سينما الهموم الشخصية.. رحلة الكاتب مع أبطال المخرج

أروى تاج الدين

هناك أسباب عدة تجعل كتاب “داود عبد السيد سينما الهموم الشخصية”، للكاتب علاء خالد، كتابا مثيرا للاهتمام. أول هذه الأسباب هو أن داود هو المخرج المصري الوحيد تقريبًا الذي صدرت عنه ثلاثة كتب في أقل من عشر سنوات، أولها كان كتاب “محاورات” لأحمد شوقي الصادر عن مهرجان الإسكندرية لسينما البحر المتوسط في 2014 بمناسبة تكريم المخرج من المهرجان، وهو عبارة عن حوار طويل أجراه معه الناقد أحمد شوقي حول أفلامه وعملية صناعتها والمواقف والأفكار الملهمة لها.

 أما الثاني فكان كتاب الناقد محمود عبد الشكور “داود عبد السيد سيرة سينمائية”، وهو صادر عن دار ريشة في 2020، حيث يتناول فيه الناقد بالتحليل مشروع المخرج السينمائي كاملًا، انطلاقًا من أفلامه التسجيلية التي استهل بها مسيرته، بالإضافة إلى بورتريه يحلل فيه الخلفية الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي نشأ فيها داود وشكلت رؤيته وتجسدت في أسلوبه السينمائي ومن ثم تجليها في القضايا التي كان مهمومًا بها في أفلامه.

السبب الثاني هو أن الكاتب نفسه، علاء خالد، قادم من وسيط فني مختلف، فهو شاعر وروائي معروف، لم يسبق له أن قدم أي كتابات عن السينما، الأمر الذي يثير فضولنا لمعرفة وجهة النظر التي ناقش من خلالها مشروع واحدٍ من أهم المخرجين المصريين المعاصرين وأحد أعمدة سينما الواقعية الجديدة التي انطلقت في الثمانينيات.

يطالعنا الكاتب في مقدمة كتابه الصادر عن دار “المرايا” والمكون من 213 صفحة، عن السبب الذي جعله يقرر إصدار هذا الكتاب الذي بدأ العمل فيه منذ 2016، وهو تأثره بسينما مخرجي الواقعية الجديدة مثل داوود عبد السيد ومحمد خان وعاطف الطيب، الذين تأثروا مثله بهزيمة 1967 وانكشاف هشاشة أحلام الستينات، ثم سياسة الانفتاح التي طبقها السادات والتي اقتلعت المشروع الناصري من جذوره، وأحدثت تغيرات كبيرة ومفاجأة في المجتمع المصري، الأمر الذي أحدث زلزالاً في التركيبة الطبقية للمجتمع، وأخل بتوازن الطبقة الوسطى، التي ينتمي إليها الكاتب ومخرجو هذا الجيل، وزعزعت استقرارها.

ورغم تماهيه، كما ذكر الكاتب، مع سينما هذا الجيل من المخرجين، إلا أن سعي أبطال داود عبد السيد نحو تجاوز الظروف التي يفرضها عليهم المجتمع، وهموهم الذاتية كأفراد يعيشون داخل ظرف اجتماعي وتاريخي معين، تماس بشكل ما، مع تجربته الذاتية التي أصبحت تميل إلى التجاوز والبحث عن الاستنارة التي تحقق له الأمل في حياة أفضل، ما يجعل عنوان الكتاب يحمل معنى مزدوجًا، ما بين هموم المخرج الشخصية التي عبر عنها من خلال أبطاله، وهموم الكاتب الذي تماهى في تجربته مع أبطال المخرج.

يناقش المؤلف مثلاً، فكرة الفردية التي تجلت عند بعض مخرجي الواقعية الجديدة مقابل ما يواجهه أبطالهم من سلطة، سواء كانت سلطة المجتمع أو الدولة أو العائلة، ولكنها كانت أكثر وضوحًا وتبلورًا عند أبطال داود الذين لم يحصرهم في طبقة معينة، ولكن انصب اهتمامه على الإنسان العادي ورغبته في التحرر من أزماته الداخلية بالإضافة إلى المشاكل الخارجية.

ويتجه الكاتب نحو بلورة بعض السمات الموضوعية والأفكار التي عالجها داود في أفلامه مثل الذنب، سواء الديني أو الاجتماعي، وكيفية تعامل الأبطال في رحلتهم معه عن طريق اعترافهم به ليس من أجل التكفير ولكن للتصالح معه ثم تجاوزه. أيضاً دور الجنس وتوظيفه في الحكاية وتعامل داوود معه كفعل طبيعي، فيبدو في فيلم “مواطن ومخبر وحرامي” مثلًا فعلا إنسانيا بدائيا يحدث بتلقائية شديدة دون شعور بالإثم، بينما يوظف في “رسائل البحر” كطريقة تستعيد بها البطلة إنسانيتها.

يتطرق الكاتب أيضاً إلى بعض السمات التي ميزت أفلام المخرج مثل رمزية اختيار أسماء الأبطال والتي تشير أحيانًا إلى شخصيات دينية ودلالاتها المباشرة وغير المباشرة داخل النص السينمائي، ورمزية المكان الذي يعيش فيه الأبطال فهو في “الصعاليك” مثلًا، فهو يركز على “السطوح” أو سطح المنزل، للدلالة على الحلم والتحرر، وفي فيلم “سارق الفرح”، نرى ربوة مرتفعة عن المدينة مما يمنح أبطاله العزلة والسمو في آن.

من فيلم “سارق الفرح”

أيضًا حضور الراوي الذي ظهر في فيلم “أرض الخوف”، واستمر في “مواطن ومخبر وحرامي”، و”رسائل البحر”، واختلاف صوت الراوي ودلالته في كل من الأفلام الثلاثة، فهو في الفيلم الأول صوت البطل الذي تُروى الحكاية من وجهة نظره من خلال رسائله التي يكتبها إلى رؤسائه، وفي الثاني هو صوت الراوي العليم الذي يعرف الحكاية من بدايتها إلى نهايتها وما يدور في دخيلة نفوس أبطاله، وهو في الثالث صوت البطلين بالتبادل، كل منهما يحكي عن نفسه وتجربته.

يُذيل الكاتب مؤلفه بثلاثة حوارات، أولها مع داود عبد السيد، يناقشه من خلاله في الأفكار التي طرحها في الجزء الأول من الكتاب، والتي يتفق معها داود حينًا ويختلف معها حينا آخر، الأمر الذي منح بعدًا آخر للقراءة والفهم.

أما الحواران الآخران فهما مع رفيقي رحلة داوود عبد السيد في مشروعه السينمائي، مهندس المناظر أنسي أبو سيف، والموسيقار راجح داود. هذان الحواران هما أكثر جزء اهتم بالجوانب التقنية في صناعة أفلام داود، فيتحدث أبو سيف في حواره عن كيفية تصميم وبناء الأماكن التي يعيش فيها الأبطال وما تضيفه أو تدعم به الجو العام للفيلم وحياة الأبطال وسلوكياتهم، بينما يتحدث راجح داوود عن مصادر إلهامه، وكيفية وضع الموسيقى التصويرية التي تناسب جو الفيلم وتدعم الشحنة العاطفية داخل المشهد.

من فيلم الكيت كات

لا يمكننا اعتبار كتاب “داود عبد السيد سينما الهموم الشخصية” مؤلفا نقديا، فالنقد عادة، يضع مسافة بينه وبين النص السينمائي تؤهله لعمل قراءة موضوعية مبنية على أسس علمية، يقوم من خلالها بتشريح بناء أفلام المخرج وبيان لغته السينمائية وأسلوبه البصري، ولكن في هذا الكتاب يركز علاء خالد بشكل أساسي على الأفكار التي استنبطها من مشاهداته المتكررة والمتأملة لأفلام المخرج، ويترك لنفسه العنان في شرح وتفصيل هذه الأفكار غافلًا في أحيانًا كثيرة تدعيم هذه الأفكار بأدلة من داخل الأفلام، ما جعل تحليلاته تبدو غامضة في أحيان كثيرة، وهو أيضاً متأثر بشكل خاص، برحلات أبطاله نحو الإدراك الداخلي لذواتهم ومحيطهم، ثم وصولهم إلى التغيير، وتأثير هذا المحيط بما يتضمنه من ظروف تاريخية واجتماعية وسياسية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر على ما يتخذونه من قرارات.

Visited 7 times, 1 visit(s) today