سينما المشاعر واللعب علي تصوف المشهدية
- خان يلعب علي الحان شاعرية البادية والطفل المبروك:
كيف يصبح الشعر والأحلام الأنثوية وباطن الصحراء والارض البور، صورة سنيمائية ومشهدية هادئة حالمة؟ ستجد في فيلم محمد خان المعنون “الغرقانة”، المتنج عام 1993، خيال الصحراء وتفاصيل البادية تغزو اللحظة الزمنية، الصحراء.. وما تتسم به من فقر الثقافة والمدنية، ولكنها غنية بالشاعرية والخيال والاحلام الدائمة، والروح الصوفية، فأهلها يصدقون الأحاديث الدائمة، وينتظرون الفرج مثلهم مثل الصحراء التي تتسع لكل شئ دون ان تخصص لنفسها شئ تحتفظ به، فهي تائهة تبحث عن ذاتها الضيقة التي تاهت في اتساع الرمال والاودية والجبال والخيام.
“وردة” الأنثي الحالمة، فكل لحظة تري فارسها الذي يحمله فحولة الصحراء ووسامة الذكورة، يركب حصانه ويحملها خلفه ويطير بها الي الحب وندي الصباح في أحد الخيمة، يقابله واقع زوجها الدجال الذي يقهرها جسديا وروحياً، ويحول حياتها الي حلم بعيد عن هذا الفارس.
استطاع خان أن يحول حياة الدجال والحلم وأفراد البادية البسطاء الي روح واحدة سارية في ضربات الاقدام والرياح ونظرة السماء الي الأعين البريئة، والطفل مبروك، فتري تصوف المشهد ولحظات المؤامرة والتجسس من البعض للبعض كأنه طفولة ساذجة تستمع به، ولا تراه كالصراع والشر المعتاد.
تتحول حياة وردة الي المصلحة والخيانة عندما تجد فارسها في المدينة والتحضر، اي عندما يتحول حلمها البرئ الي واقع، وكأن خان يريد رسالة هنا عندما تتحول احلامك الي واقع متحقق، ستفقد برائتك ورومانسيتك، ستتحول إلي شخص نهم شره يريد السيطرة وتحقيق انانيته في ذوات الاخرين ستفقد بريق السماء، وطفولة الشعور.
يغرق الطفل في صورة شاعرية بين سماء صافية ونصف جسد غرقان ونصف اخر ينظر الي تيه البحر وهواء الصحراء، ويهرب الفارس الي اللاشئ، ولا تجد وردة سوي الموت غرقاً ايضا علي يد زوجها الدجال.
- رائحة الحزن وفصول الخريف ترسم حياة رجل الخمسين:
تذبل أوراق الشجر، ويتغير لونها إلي لون الوحدة، وتصبح هشة فريشة الأرض، تشعر بالحزن وتنتظر تبددها وفنائها عندما تطير قليلا كلما اقتربت منها أحدي الاقدام او شئ متحرك لكي يدهسها ويهشمها كلياً. أيام وشهور وسنوات تمر علي رجل خمسيني مكتئب صامت، يعيش في وحدة اوراق الشجر الذابلة، يحاول الانتحار كل يوم بمسدسه دون جدوي. وهذا ما نجده في فيلم المخرج الأمريكي توم فورد المعنون بـ A Single Man” “.
كلما يقترب من الحياة يقترب منه الحزن ونهم الانتحار، يستعيد ذكرياته في كل شئ يراه في الحاضر، هذه المرايا المحيرة بين ابواب الماضي المغلقة، وأروقة الحاضر المتسعة، لا تمثل فائدة او قيمة له، يمتلك هذا الرجل وجود جسدي لا يستطيع حمل ذاته لثقله بالذكريات المفقودة وألم الحاضر، وضبابية لحظة المستقبل البعيدة.
شذوذ هذا الرجل الخمسيني، وبراءة كلماته وطفولية نظراته وصمته، تجذب كل من يراه لكي يقترب منه، ويتحدث معه واذا وجدت فرصة اكثر من ذلك، ان يصبح له صديقا او رفيقا علي السرير، او تقابله صديقة قديمة تنظر الي هذه الشفافية لكي تعطيه الحب المفتوح، هو أمام كل هذه الروح الاجتماعية المفتوحة له وفرص التقرب من ذكورية محببة له ولكنها مفقودة، او انوثة ناضجة متوهجة، يزداد حزناً ووحدة.
من المشهد الاول الي المشهد الأخير نجد تيمة البحث عن شئ وجودي هي الحاكمة لرمزية الفيلم، ولكنها مفهومة وكلية، فهي تتحول من الرمزية والاشارة الي بصريات حزينة تعلن عن نفسها في كل لحظة وكل كلمة، ففي البداية اعلن الرجل الخمسيني المكتئب بعدم وجود جدوي لشئ، وانه مطالب بانهاء حياته.
ولكن هذا الرجل يجد نفسه في مأزق ضيق جدا ولا يستطيع الاختيار واختبار ارادته، فهو ليس لديه حتي ارادة الموت بفعل الانتحار، وليس لديه ارادة الحياة البسيطة الهادئة، هذه الاحالات الحزنية وتفاصيل شاعرية مكثفة تظهر علي ملامحه وصمته الدائم الرافض أي شئ جديد قد يدخل علي نفسه قليل من البهجة والسرور.
- أبيض كيسلوفسكي رمز البراءة يغسل الحياة بخجل وابتسامة مبتسرة:
يحاول كيسلوفسكي في فيلم ( الأبيض) المنتج عام 1994، تبيان رمزية العلاقة بين دولتين في هيئة ثنائية العلاقة الذكورية الانثوية، فرنسا القوية الشابة الذكية الطموحة، صاحبة الارادة الحرة والحديدية، يمثلها الطرف الأنثوي، وبولندا التي تعاني من مشاكل اقتصادية وتفكك مجتمعي هي الطرف الذكوري.
علاقة الحب هذه وما شاهدته من صراع بين أنثي تخفي حبها، وتقوم بالانتقام منه للتخلص من حبه، هي تمثل فرنسا كدولة كبري تقدمت اقتصاديا ولذا يتحتم عليها عدم الالتفات الي الجوار الاوروبي لها يعني بولندا.
هذه الحتمية في الرغبات وتطور العلاقة في الحب، هي نفسها تجري في دماء الدول والعلاقات الكبري بين المجتمعات.
مشهد النهاية من بكاء الحبيب وهي ينظر لها في زنزانتها بكل شغف، وهي تريد منه الزواج مرة اخري، دون جدوي او تطور درامي لتحقيق ذلك، يؤكد لنا علي استحالة تعاون بين طرف قوي وضعيف، وان ما تبقي حب مدفون مستحيل، ودموع ظاهرة باكية حزينة.
شاعرية هذه العلاقة تخفف من رمزية الفيلم الخشنة، فهناك غلاف شاعري صوفي يلون المشهدية، ويجعل المشاهد يتابع بشجن وروحانية عاليا للغاية، وهذه تيمة معروفة لدي كيسلوفسكي في كل افلامه، حيث الشاعرية الصوفية وتوحد العالم في الفرد، واندماج الافراد في الاشياء، بجانب تزواج الشر والخير معاً ليفرز معني وجودي صوفي رائع.
فكل مشاهد الصراع في الفيلم، وكلمات التحدي، ومحاولات الانتقام والشر هي ليس كذلك هي عنوان للحب والتوصف، وهذا ما نلاحظه في قيام الرجل الحبيب بالنظر الي حبيبته وهي جاءت لجنازته وهو لم يمت وكان يقف بعيدا وراء شجرة يشاهدها وهي تبكي عليه وعلي فقدانه الابدي، وهو يشعر بالسعادة انها تبكي عليه.