سيناريو “أوديب ملكا” لبازوليني: الاحتفاء بسينما الشعر

من الأحداث الثقافية التي تعد مفاجأة حقيقية جيدة صدور كتاب يتضمن نص سيناريو فيلم “أوديب ملكا” للمخرج الإيطالي الراحل بيير باولو بازوليني. والكتاب خلاصة جهد الكاتب والمترجم البحريني الكبير أمين صالح.

صدور كتاب كهذا في تلك الحلة البديعة، بغلافه المميز، وطباعته الأنيقة، هو حدث كبير في حد ذاته، لأن نشر سيناريوهات الأفلام في كتب لم يعد يلقى ترحيبا من غالبية دور النشر في العالم العربي، خاصة لو كان الفيلم من النوع الفني المتميز أي ليس من الأفلام الرائجة المعروفة لدى عموم المشاهدين- القراء، فأفلام بازوليني تظل أفلاما “نخبوية” حتى بين القراء الأوروبيين أنفسهم. ويصبح النشر بالتالي “مغامرة” أقدمت عليها مشكورة دار “روايات” إحدى شركات مجموعة “كلمات” في إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية.

أمين صالح مترجم هاوي ومحترف في آن واحد، فهو عاشق قديم للسينما، ولسينما الفن بوجه خاص، ويمتلك ثقافة سينمائية راقية، لذلك فهو يترجم ما يحبه ويجد هوى في نفسه، لكنه يتمتع بقدرات المترجم والكاتب المحترف الذي يتميز بسلاسة الأسلوب وبراعة السرد والقدرة على تحويل النص الأصلي عند نقله من اللغة الإنجليزية التي يترجم عنها، إلى قطعة أدبية بديعة.

وفيلم “أوديب ملكا” الذي أخرجه بازوليني عام 1967 هو أحد أهم أعماله وأكثرها صعوبة في الوقت نفسه. وهو أحد فيلمين أخرجهما بازوليني عن نصوص المسرح اليوناني القديم، والفيلم الثاني هو “ميديا” (1969).

بازوليني في فيلمه هذا، الذي يُعد أول أفلامه الملونة (صورت مشاهده الخارجية في المغرب) يعيد تقديم التراجيديا- الأسطورة الشهيرة، بعد أن ينزع عنها غلاف الأسطورة، بل ويخلصها من دلالاتها الفرويدية. إنه مثلا يتخلى عن فكرة أن الكائن الخرافي “سفنكس” هو مكون من رأس امرأة وجسد أسد، فيجعله على هيئة عراف أقرب ما يكون إلى مهرج عابث، يمضغ الطعام في فمه بطريقة همجية، ويستمتع بقص النبوءة المأساوية على أوديب، وهو يضحك ويسخر منه، لذلك يندفع أوديب في نوبة غضب عارم بعد أن يدرك ما سيواجهه مستقبلا ولن تجدي توسلاته التي تبدو كما لو كانت موجهة إلى القدر نفسه، دفعا له فيما بعد.

في الفيلم جميع عناصر التراجيديا اليونانية لكن في سياق يربط بين إيطاليا المعاصرة، واليونان القديمة (التي يجعلها هنا بلدا شرقيا فقيرا يدمن سكانه ممارسة الطقوس ويقدسون الملوك، ويرتدون الأقنعة في القتال وفي الاحتفالات). لكن الأهم أن بازوليني حاضر بقوة في فيلمه، ليس فقط من خلال دور الكاهن الأعظم الذي يقوم به أمام الكاميرا، بل حضوره كمخرج وفنان يضع لمساته بوضوح على النص وعلى الصورة بحيث يصبح حضوره أقوى من حضور المؤلف الأصلي سوفوكليس نفسه، بل وأقوى من حضور كل من ماركس وفرويد.

لقطة من “أوديب ملكا” لبازوليني يظهر فيها بازوليمي في دور الكاهن الأعظم

يعترف بازوليني في تقديمه للسيناريو المنشور ضمن الطبعة التي بين يدينا، بأنه لم يعد مشغولا بتلك المزاوجة التي شغلته من قبل، بين الماركسية والفرويدية. وهو يبدو مشغولا أكثر بالسينما، بالعثور على لغة- شفرة- أداة، للتعبير عن شعوره الشخصي بما يعذبه، مما عاشه في طفولته، من علاقته الملتبسة الغريبة بأبيه الذي تخلى عنه في طفولته تماما كما يفعل لايوس مع ابنه أوديب عندما يرسله للموت.

المشاهد الأولى في الفيلم تدور في إيطاليا الفاشية قبل الحرب. وهي تكشف أن بازوليني يريد أن يصور قسوة الفاشية دون أن يربطها بالقدر الغاشم الذي لا فكاك منه، بل بسطوة الأيديولوجية، وبالعنف المرتبط بالرغبة في الاستحواذ، حتى لو كان موجها الى الإبن نفسه.

أما يوكانده أم أوديب، التي سيتزوجها بعد أن يقتل أباه، فهي تشارك في جريمة الأب في البداية لكنها تغمض عينيها باستمرار عن مواجهة الحقيقة التي تعرفها جيدا من قبل أن يأتي أوديب لكي يتزوجها. وحتى بعد أن تتضح الحقيقة أمام أوديب، تحاول هي أن تقنعه بضرورة قبول العلاقة بينهما، باعتبار أنها موجودة وشائعة وليس فيها ما يشين، لكنه رغم اشتهائه لها يصر على عقاب نفسه. ولعل الأب الذي ارتكب الخطيئة الأصلية، والأم التي شاركته جريمته الأولى، يستحقان المصير الذي انتهيا إليه: مقتل لايوس وانتحار يوكانده. على هذا النحو، يمكن اعتبار أوديب ضحية الأنانية وسيطرة الشهوة، لا القدر الغاشم. وهو عندما قتل والده وتزوج أمه لم يكن يعرف من الذي كان يقتله، ولا أن من تزوجها هي أمه، بمعنى أنه ضحية أكثر من كونه مجرما.

ومن أغرب ما قرأت مؤخرا اعتبار وجود المخرج أو بالأحرى، الشعور بحضوره وهيمنته على الفيلم، من الأمور التي تقلل كثيرا من قيمة أي فيلم، في حين أن أفلام بازوليني، تدلل بصورة واضحة على وجوده الذي يتمثل في استخدامه لجماليات السينما.

أوديب بعد أن فقأ عينيه

يقول بازوليني في تقديمه للسيناريو: “أنا ركبت الكادرات بطريقة أكثر سينمائية مما هو معتاد أو مألوف (لا أعرف إن هي صارت جميلة أو قبيحة، لكن ما كنت أحاول فعله هو أن أجعلها تبدو جميلة، أن أحصل على تكوينات جميلة).

ولعل الشعور بحركة الكاميرا باستمرار في معظم المشاهد الخارجية، لهو من أكثر ما يؤكد على وجود التقنية في الفيلم، أي حضور المخرج ببصماته الخاصة التي يريد أن يشعرك من خلالها أنك تشاهد فيلما. ومع ذلك فنحن نستمتع بالمشاهدة ونتقبل تلك التقاليد السينمائية الجديدة التي جعلت بازوليني منحازا لسينما الشعر مقابل ما يدعوه “سينما النثر” حسب الطريقة الأمريكية التي تميل لرواية قصة بطريقة تقليدية.

كان بازوليني يرى أن السينما يمكن أن تكون وسيلة لاكتشاف العلاقة بين الجنس والموت، وبين المقدس والدنيوي وبين الولع بالجسد والقسوة الإنسانية. ولم يكن يؤمن قط بواقعية الصورة السينمائية أو بالسينما الواقعية. كان يبدي احتراما للواقعية الجديدة، لكنه كان يرى أن السينما مهما حاولت مطابقة الواقع تظل ناقصة، ترى جانبا واحدا فقط من الحقيقة، حقيقة الشخصية وحقيقة الواقع، لذلك يجب أن تعبر عن نظرة المخرج نفسه، أي عن تصوره للشخصيات والعالم.

الكتاب يثير الكثير من الأفكار، حول السينما الحديثة في علاقتها بالأدب، وبالمسرح، وبتقنية التمثيل أيضا أمام الكاميرا وكيف يمكن أن تصبح اللقطة القريبة للوجه أو للعينين، تعبيرا عن رفض الاستغراق في الحدث، ورفض الاندماج، أي اندماج المشاهد واندماج الممثل.

Visited 141 times, 1 visit(s) today