سكورسيزي يكتب عن المايسترو فيلليني
ترجمة: رشا كمال
مشهد خارجي – الشارع الثامن- وقت متأخر من الظهيرة عام 1959.
حركة مستمرة للكاميرا من فوق كتف شاب يافع، في أواخر سنوات المراهقة، يمشي بتركيز في شارع غرينويتش فيليج المكتظ بالمارة، يتأبط مجموعة من الكتب تحت ذراعه، ويحمل نسخة من مجلة “ذا فيليج فويس” في يده الأخرى. يمشى بسرعة متجاوزاً مجموعة من الرجال يرتدون المعاطف والقبعات، وسيدات بأوشحة فوق رؤوسهن، يقودن عربات التسوق المحملة بالمشتريات، وزوجان من الأحبة متشابكي الأيدي، ومجموعة من الشعراء، والمحتالين، والموسيقيين، والثمالي، مارا في طريقه بالصيدليات، ومحلات بيع الخمور، والوجبات الجاهزة، والمباني السكنية.
ولكن تركيزه كان منصبا على شيء واحد فقط، واجهة مسرح الفن المكتوب عليها عنوان فيلم (ظلال-Shadows) إخراج جون كازافيتيس، وفيلم (ابناء العم – Les Cousins) إخراج كلود شابرول.
يحاول أن يأخذ ملاحظة سريعة ليتذكرها لاحقاً، ثم يعبر الشارع الخامس مستمراً في المشي ناحية الغرب، مارا بالمكتبات، ومحلات واستديوهات التسجيلات ومتاجر الأحذية، إلى أن يصل الى دور العرض في الشارع رقم 8:
وفيها يعرض افلام “البجع الطائر” The Cranes Are Flying، “هيروشيما حبي” Hiroshima Mon Amour، وإعلان عن أن فيلم ” على آخر نفس” Breathless لجان لوك جودار سيعرض قريباً.
تظل الكاميرا معه عندما يلتفت غربا تجاه الشارع السادس، بخطوات مسرعة يتجاوز المطاعم، ومحلات الخمور، و أكشاك بيع الجرائد، ومحلات بيع السجائر، ويعبر الطريق ليلقي نظرة متمعنة على واجهة دور عرض ذا وافرلي و يعرض فيها فيلم “ماس ورماد” Ashes and Diamonds لأندريه فايدا.
يعود ادراجه شرقا الي الجادة الرابعة غربا مارا بحانة كيتل فيش، وكنيسة جادسون التذكارية في المربع الجنوبي بواشنطن حيث نرى رجلا رث الملابس يحمل منشورات دعائية:
انيتا إكبيرج ترتدي فروا في فيلم “الحلوة اللذيذة” La Dolce Vita الذي سيعرض في أحد المسارح المصرح لها في برودواي، بأماكن محجوزة للبيع بسعر مخفض بأسعار تذاكر برودواي.
يتجه جنوبا أسفل مبنى لاغوارديا، مروراً بفيلليج جايت، وحانة بيتر إند، وصولا الى سينما شارع بليكر والتي تعرض فيلم “عبر زجاج معتم”Through a لبرجمان Glass Darkly، واطلقوا الرصاص على عازف البيانو” لفرانسوا تروفوShoot the Piano Player و”الحب في سن العشرين” Love at Twenty وفيلم “الليل”- La Notte لأنطونيوني الذي لا يزال يعرض للشهر الثالث على التوالي.
يقف في طابور الانتظار الخاص بعرض فيلم تروفو، ويفتح النسخة الجديدة من مجلة ذا فويس إلى الجزء الخاص بالأفلام، ونرى وفرة من العناوين والأسماء تقفز من تلك الصفحات وتدور من حوله: “ضوء الشتاء”Winter Light..النشال -Pickpocket..العاشق الثالث-The Third Lover..يد في الفخ -The Hand in the Trap..عرض افلام لآندي وورهول..(الخنازير و البوارج-Pigs and Battleships )..مختارات من أفلام الأرشيف للمخرج ستانلي براخاج و كينيث أنجر..(لو دولوس -Le Doulos).. ووسط كل هذه العناوين يظهر واحد أكبر من البقية وهو جوزيف إي ليفين يقدم فيلم ½ 8 إخراج فيلليني.
وبينما يتأمل الصفحات، تعلو الكاميرا فوقه وفوق الجماهير المزدحمة كما لو أنها تطفو فوق موجة انفعالاتهم.
ننتقل بالزمن إلى الوقت الحاضر، حيث يتعرض فن السينما إلى حملة استنكار وتهميش وإهانة ممنهجة، ومحاولة اختزالها فقط إلى أسوأ وأدنى صفاتها وهي المحتوى.
كما هو الحال الآن كما كان منذ خمسة عشر عاما مضت، كان يُسمع هذا المصطلح عندما كان الناس يتحدثون عن السينما بجدية، وكان وقتها يخضع للمقارنة والمقابلة مع مصطلح آخر وهو الشكل الفني الى أن أصبح يتم تناوله تدريجيا من جانب الأشخاص الذين استولوا على الشركات الاعلامية، واغلبهم ممن لا يفقهون شيئا عن تاريخ الفن السينمائي ولا يفكرون حتى في ذلك.
وباتت كلمة “المحتوى” مصطلحا تجاريا لجميع أنواع الصور المتحركة سواء كان فيلما لديفيد لين -فيديو لقطة، اعلانا تجاريا لسوبر بول، أو جزءا متمما لفيلم الأبطال الخارقين، أو حلقة من مسلسل.
وارتبط كذلك بتجربة المشاهدة المنزلية، وذلك على منصات العرض الرقمية التي حلت محل ارتياد دور العرض السينمائي، مثل استبدال المحلات التجارية بشركة أمازون. بالطبع للأمر مميزاته بالنسبة للمخرجين وأنا واحد منهم، ولكنه من ناحية أخرى خلق موقفا أصبح فيه كل شيء متاح، وبصورة متكافئة للمشاهد، قد يبدو هذا أمراً عادلاً ولكنه في الحقيقة عكس ذلك.
فإذا كانت مقترحات المشاهدة التالية تتم بناء على الخوارزميات للمشاهدات السابقة، والاقتراح المقدم مبني على مواضيع الأفلام والنوع الفيلمي، فما عواقب هذا الأمر إذن على الفن السينمائي؟!
إن عمليات التنظيم والاختيار للعرض ليست غير ديمقراطية أو “نخبوية”، “وهي كلمة أصبحت هي الاخرى مبتذلة من كثرة تداولها بين الحين والآخر”، بل هو تصرف سخي، حيث تشارك ما تحبه وكان ملهما لك. وهذا ما تقوم به وتقدمه افضل منصات العرض الرقمية مثل قناة كريتريون، وموبي، والقناة التقليدية تي ام سي. وتعتبر الخوارزميات حسب التعريف مبنية على عمليات حسابية تتعامل مع المُشاهد على أنه مجرد عنصر استهلاكي.
ولم تكن عملية الاختيار التي قام بها الموزعون مثل آموس فوغل في دار نشر غروف خلال فترة الستينيات من باب الكرم، بل كانت تنم عن الشجاعة في كثير من الأحيان. وعندما قام الموزع ومنسق البرامج دان تالبوت بتأسيس مشروعه افلام نيويورك كان من أجل توزيع الأفلام التي أحبها واهتم بها مثل فيلم “قبل الثورة” Before the Revolution لبيرتولوتشي رغم أنه لم يكن اختيارا موفقا.
والأفلام التي وردت إلينا بفضل هؤلاء الموزعين والمنسقين والعارضين وأمثالهم كانت من أجل ظروف استثنائية في ذلك الوقت، ولم تعد تلك الظروف قائمة الأن، بدءا من تجربة اسبقية العرض السينمائي إلى مشاركة الحماس لإمكانيات الفن السينمائي. ولهذه الأسباب أعود من وقت لآخر للتحدث عن تلك الفترة. وأشعر كم كنت محظوظا لأني كنت شاباً ومنفتحاً على كل ذلك. لطالما كانت السينما أكثر بكثير من مجرد محتوى وستظل هكذا دائما، والسنوات التي صدرت فيها تلك الأفلام من جميع أنحاء العالم وكانت بمثابة حديثا متبادلا، واعادة تشكيل للشكل الفني بصفة أسبوعية.
كان هؤلاء الفنانين يؤرقهم سؤال هو ما هي السينما؟ وكانوا يحاولون دائما العثور على اجابة عنه من خلال تنفيذ الفيلم التالي. ولم يكن أي واحد منهم يعمل في الفراغ، بل يبدو أنهم كانوا جميعاً يتجاوبون ويتفاعلون مع أعمال بعضهم البعض.
فنجد ان جودار، بيرتولوتشي، انطونيوني، برجمان، ايمامورا، راي، كازافيتيس، كوبريك، وفاردا، ووارهول، كانوا يعاودون اكتشاف واختراع السينما من خلال كل حركة جديدة للكاميرا ومع كل أسلوب جديد للقطع بين اللقطات.
وأخذت الحماسة الكثير من المخرجين الأكثر خبرة وشهرة مثل ويلز، وهيوستن، وبريسون، وفيسكونتي، بسبب الحمى الإبداعية التي كانت تحيط بهم في كل مكان.
وكان يقع في قلب كل هذا مخرج واحد فقط معروف لدى الجميع، وكان أسمه مرادف لكلمة سينما وإمكانياتها، وعلامة على أسلوب خاص وموقف محدد تجاه العالم، بل لقد أصبح اسمه صفة، فلنقل مثلا بأنك ترغب في وصف الجو السيريالي لحفل عشاء، أو حفل زفاف، أو احدى الجنازات، او مؤتمر سياسي، أو حتى وصف جنون العالم كله. كل ما كان عليك فعله هو أن تنطق بكلمة “الفيللينية” وسيفهم الجميع قصدك.
أصبح فيلليني في ستينيات القرن الماضي أكثر من مجرد مخرج، فقد كان أكبر من فنه مثل فنانين آخرين مثل شابلن وبيكاسو وفرقة البيتلز.
وفي لحظة معينة لم تعد أفلامه مجرد هذا الفيلم او ذاك، بل أصبحت جميعها مثل إيماءة مكتوبة عبر المجرة.
وكان الذهاب لمشاهدة فيلم لفيلليني أشبه بالذهاب لسماع ماريا كالاس وهي تغني، او مشاهدة لورانس أوليفييه وهو يمثل، أو مشاهدة رقص نورييف، وبدأ اسمه يقترن بعناوين أفلامه مثل “ساتيريكون فيلليني”، أو “كازانوفا فيللين”. وكان المثال الوحيد المشابه له في تاريخ السينما هو هيتشكوك رغم انه كان يمثل شيئا آخر، علامة مسجلة أو نوعا سينمائيا قائما بذاته. أما فيلليني فقد كان ساحر السينما.
ولكن الآن وبعد رحيله عن عالمنا منذ نحو ثلاثين عاما. يبدو أن الفترة التاريخية التي اخترق فيها تأثيره المشهد الثقافي قد عفى عليها الزمن، ولهذا عندما أصدرت شركة “كرايتيرون” مجموعة أفلام فيلليني المهمة في العام الماضي احتفالا بمئوية ميلاده كانت لفتة مرحب بها.
بدأ الإبداع البصري المطلق عند فيلليني منذ عام 1963 بفيلمه “½ 8″، وفيه ترفرف الكاميرا وتحلق بين العوالم الداخلية والخارجية، لتنتقل بين الأمزجة الصغيرة والأفكار الدفينة لشخصية فيلليني البدلية، غويدو، الذي يلعب دوره مارسيللو ماستروياني.
أشاهد مقاطع من هذا الفيلم من حين لأخر، ولا أدري كم عدد المرات التي أعيد فيها مشاهدتها ومازلت مندهشاً من: كيف فعل ذلك؟ كيف يمكن لكل حركة وايماءة وحركة رياح أن تناسب مكانها بدقة؟ وكيف يبدو كل شيء غريبا وحتمي كالحلم؟ وما لهذه اللحظات الغنية بشوق يصعب تفسيره؟
وقد لعب الصوت دورا مهما في خلق هذا المزاج. وكان فيلليني مبدعاً في استخدام الصوت بقدر ابداعه في الصورة. فالسينما الايطالية كان لها تاريخ طويل مع تجربة الدوبلاج، والتي بدأت في عهد موسوليني الذي فرض بخضوع جميع الأفلام المستوردة من الدول الأخرى لعملية الدبلجة. ولذا نجد في العديد من الأفلام الإيطالية حتى المهمة منها الإحساس بانفصال الصوت الذي قد يسبب احساساً مربكاً. وقد عرف فيلليني كيفية استغلال هذه النقطة كأداة تعبيرية، حيث تتلاحم الأصوات والصور في أفلامه لتعزيز الآخر، مما يجعل من تلك التجربة السينمائية تنساب كالموسيقى.
أما الآن فينبهر الناس بامكانيات وقدرات التكنولوجيا الرقمية الحديثة. لكن آلات التصوير الخفيفة، وتقنيات ما بعد الإنتاج مثل التحوير والربط الرقمي لا تستطيع أن تقدم لك وحدها الفيلم، بل هي الخيارات الإبداعية التي تقررها أنت أثناء إخراج الفيلم.
أما للمبدعون الكبار أمثال فيلليني، فهم لا يستخفون بأى عنصر مهما كان متواضعاً، فكل شيء له قيمته. وأنا متاكد أن فيلليني كان سيروق له هذه التقنيات الحديثة، ولكنها لم تكن لتؤثر على دقة اختياراته الجمالية.
ومن المهم ان نتذكر أن فيلليني قد بدأ مسيرته مع تيار الواقعية الايطالية الجديدة، وهو أمر مثير للاهتمام لانه يمثل النقيض لهذا التيار. بل كان في الواقع يعتبر واحدا ممن أرسوا قواعد حركة الواقعية الجديدة بالتعاون مع مرشده روبرتو روسيلليني.
ولا تزال تلك الحركة السينمائية تدهشني لأنها كانت السبب وراء الكثير من تداعيات التاريخ السينمائي. واشك ان موجة الإبداع التي اجتاحت الخمسينيات والستينيات لم تكن لتحدث لولا وجود الواقعية الإيطالية الجديدة كأساس لها.
فهي لم تكن مجرد حركة فنية فحسب، بل كانت استجابة من طرف مجموعة من الفنانين للحظة يصعب تصديقها في تاريخ وطنهم الأم.
بعد عشرين عاما من الفاشية وعهد طويل من القسوة والإرهاب والدمار، كيف يمكن للفرد أو للأمة أن تمضي قدماً؟
كانت افلام كل من روسيلليني، دي سيكا، وفيسكونتي وزافاتيني، وفيلليني وآخرين قد أصبحت بوتقة للمزج بين المعايير الجمالية والاخلاقية والروحانية بطريقة يصعب فصلها، لتلعب دورا هاما وحيويا في خلاص ايطاليا امام انظار العالم.
لقد اشترك فيلليني في كتابة فيلم “روما مدينة مفتوحة” Rome, Open City و فيلم بايزا-Paisà لروسيلليني، ويقال انه قام بإخراج بعض المشاهد من حلقة (فورانتين-Florentine) عند مرض روسيلليني. كما قام بالتمثيل والمشاركة معه في كتابة فيلم (المعجزة-The Miracle). وشق طريقه بعيداً عن روسيلليني في فترة مبكرة من حياته الفنية، ولكن ظلا يتبادلان الاحترام والمودة الكبيرة.
وقد قال فيلليني في إحدى المرات في ملاحظة ذكية أن ما يصفه الناس بالواقعية الجديدة يوجد فقط في افلام روسيلليني. باستثناء “لصوص الدراجة”Bicycle Thieves و”أومبرتو دي” Umberto D و”الأرض تهتز”La Terra Trema)، اعتقد ان فيلليني كان يقصد أن روسيلليني كان هو الوحيد الذي يمتاز بحس ثابت للبساطة والانسانية وهو الوحيد الذي كان يعمل لجعل الحياة تقترب بما فيه الكفاية من سرد حكاياتها على عكس فيلليني الذي كان ساحراً وصاحب أسلوب وحكواتي، ولكنخ أسس خبراته في الحياة، والجماليات التي تلقاها من روسيلليني. كانت ملهمة للروح في أفلامه.
تزامن نضجي مع تطور وازدهار فيلليني كفنان، وكان الكثير من أفلامه مهمة بالنسبة لي. شاهدت فيلم “الطريق” la strada عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، عن قصة فتاة فقيرة تُباع الى رجل متجول قوي البنية، وكان لهذا الفيلم تأثير كبير علي فقد صور ايطاليا ما بعد الحرب ولكنه يعرض أمامنا كقصيدة شعرية من العصور الوسطى، أو شيئا أقدم من ذلك، ربما رسالة من العصور السحيقة. ويمكن أن يقال نفس الشيء عن فيلم “الحياة اللذيذة” la dolce vita الذي كان مثل البانوراما، يقدم عرضا باهرا للحياة الحديثة والانفصال الروحي. وعرض فيلم “الطريق” عام 1954 وبعدها بعامين عرض في الولايات المتحدة، كان كلوحة صغيرة، حكاية تمتد جذورها في قوى الارض ،السماء، البراءة، القسوة، العاطفة، والهلاك.
ولكن بالنسبة لي كان يوجد عنصر آخر، فعندما شاهدت الفيلم لأول مرة كان يعرض في التليفزيون برفقة عائلتي، وكان بالنسبة لأجدادي حكاية واقعية، عكس الحياة التي خلفوها من ورائهم في بلادهم القديمة. لم يحقق الفيلم نجاحا كبيراً في إيطاليا، فقد رأه البعض خيانة للواقعية الجديدة – فالعديد من الافلام الايطالية كانت تقاس وقتها بهذا المعيار. واعتقد ان وضع مثل هذه القصة القاسية داخل إطار الحكاية كان غريبا جدا على الكثير من الإيطاليين. ولكنه حقق نجاحا ساحقاً حول العالم، وكان سبباً في سطوع نجم فيلليني. ويبدو أن هذا الفيلم كان من أكثر الافلام التي عمل عليها فيلليني وعاني منه كثيرا – السيناريو التنفيذي كان مفصلا وبلغ حوالي ستمائة صفحة وعند انتهاء التصوير الصعب أصابه انهيار عصبي. وخضع لأول مرة لجلسة من جلسات التحليل النفسي قبل أن يتمكن من إنهائه. وهو الفيلم الذي اعتبره طوال حياته بأنه الأقرب إلى قلبه.
أما فيلم “ليالي كابيريا” Nights of Cabiria فقد كان عبارة عن سلسلة من الأحداث الرائعة في حياة إحدى فتيات الليل بروما، وكان هذا الفيلم بمثابة الهام للمخرج بوب فوس لمسرحيته الموسيقية ولفيلمه “شاريتي الجميلة” Sweet Charity.
ارسى هذا الفيلم شهرة فيلليني، ورأيت مثل الجميع أنه ملىء وطاغ بالمشاعر، ولكن الإلهام الحقيقي كان فيلمه التالي “الحياة اللذيذة” La dolce vita. ومشاهدة هذا الفيلم مع جمهور مزدحم كانت تجربة مدهشة، عند عرضه مباشرة تم توزيعه هنا في الولايات المتحدة عام 1961 بواسطة استور بيكتشرز، وتم عرضه في عرض خاص في مسرح برودواي بنظام حجز مسبق بواسطة البريد بأسعار باهظة. أي نفس المعاملة التي تتلقاها الأفلام الملحمية الكبرى مثل “بن هور” Ben-Hur.
جلسنا في المقاعد وانطفأ النور وشاهدنا لوحة سينمائية مبهرة تعرض أمامنا على الشاشة. وأصبنا جميعا بصدمة إدراكية، فما رأيناه أمامنا كان فنانا تمكن من التعبير عن القلق في العصر النووي، والاحساس باللا الجدوى، لأن كل شيء قد يصير عدماً في أي لحظة. ورغم شعورنا هذا إلا أننا في الوقت نفسه شعرنا بولع فيلليني الشديد بفن السينما والحياة.
وهذا يشبه ما كان يحدث مع موسيقى الروك والبوم بوب ديلان الإلكتروني الأول ثم ألبوم The White Album، و Let It Bleed. لقج كانت جميعها تعبيرا عن حالات القلق واليأس، ولكنها كانت أيضا تجارب مدهشة وفائقة في نفس الوقت.
وعند اعادة عرض النسخة المرممة من الفيلم منذ عشر سنوات في روما، كان لحضور بيرتولوتشي اهمية خاصة، كان وقتها يتحرك بصعوبة، لأنه كان قعيدا على كرسي متحرك، ويعاني من آلام مستمرة. لكنه أصر على ضرورة وجوده بين الحضور، وبعد انتهاء العرض اعترف لي أن فيلم “الحياة اللذيذة”La dolce vita كان السبب وراء اتجاهه إلى عالم السينما.
فوجئت كثيرا من قوله هذا فلم يسبق أن سمعته يتحدث عن هذا الأمر من قبل. ولكن في النهاية لم يكن غريباً لأن هذا الفيلم كان تجربة مثيرة كموجة عارمة أطاحت بالمشهد الثقافي.
واكثر فيلمين لفيلليني اثرا على كثيرا كانا “المتسكعين” و”8 ونصف”.. الأول لتصويره شيء حقيقي وغالي وعلى صلة مباشرة بتجربتي الشخصية، اما فيلم :8 ونصف” لأنه أعاد تغيير مفهومي عن ماهية السينما وما تستطيع فعله، وإلى أين يمكنها أن تاخذك.
عرض فيلم (المتسعكون-I Vitelloni) في ايطاليا عام 1953 وبعدها بثلاث سنوات في أمريكا، كان ثالث أفلام فيلليني وأول فيلم من أفلامه العظيمة وكان ايضا من أقرب الأفلام له. القصة تتألف من مجموعة من المشاهد عن حياة خمسة أصدقاء شباب في العشرينات من العمر، من مدينة ريميني حيث نشأ فيلليني.
البرتو لعب دوره الممثل الكبير البرتو سوري، ليوبولد لعب دوره ليوبولد تريستي، مورالدو الشخصية البديلة لفيلليني لعب دوره فرانكو انترالييغي، ريكاردو لعب دوره شقيق فيلليني، وفويستو لعب دوره فرانكو فابريزي، يقضون أيامهم في لعب البلياردو، ومطاردة الفتيات، والتجول في الأنحاء مستهزئين بالناس، يتصرفون كالأطفال، وأهاليهم تعاملهم على هذا الأساس، وتمضي بهم عجلة الحياة.
شعرت بأنني أعرف هؤلاء الشباب من حياتي الشخصية، من منطقتي السكنية، حتى اني تعرفت على بعض لغة أجسادهم ونفس أسلوب مزاحهم. بل في الحقيقة لقد كنت مثلهم في فترة من فترات حياتي، كنت اعرف ما يمر به مورالدو وحاجاته الملحة للخروج. استطاع فيلليني تصوير كل هذا على نحو جيد جدا، من عدم النضوج، والملل، والغرور، والحزن، والبحث عن وسيلة الإلهاء التالية، أي الجرعة التالية من النشوة. لقد اعطانا الدفء، والصحبة، والمرح، والحزن، والبؤس الداخلي، و كل هذا في وقت واحد.
فيلم (المتسعكون-I Vitelloni) عمل شاعري، مؤلم ولاذع، وكان مصدر إلهام رئيسي لفيلمي “الشوارع الخلفية” Mean Streets ، فهو فيلم رائع عن البلدة أي عن بلدة اي شخص.
كل من كنت Hعرفه وكان يريد صنع افلام حينذاك كان لديه نقاط ملهمة تحولية في حياته. بالنسبة لي كانت ولا تزال هى فيلم ½ 8.
ماذا يمكنك أن تقدم بعد إخراجك لفيلم مثل “الحياة اللذيذة”، الذي عصف بالعالم؟ الجميع معلق في انتظار كلمة منك، بانتظار ما ستقدمه بعد ذلك. هذا ما حدث مع ديلان في منتصف الستينيات بعد البوم blonde on blonde. كان الموقف نفسه بالنسبة لكل من فيلليني وديلان. لقد أثرا على جموع غفيرة من الناس، الجميع كانوا يشعرون بأنهم يعرفونهم، ويفهمونهم أو بالأحرى يمتلكونهم.
إذن الضغط كان من الجمهور العادي من المعجبين ومن النقاد والأعداء. فالمعجبين والأعداء قد يبدوان احيانا وجهان لعملة واحدة.
الضغط لتقديم المزيد، الضغط للمضي ابعد من ذلك، الضغط من نفسك على نفسك.
الإجابة بالنسبة لكل من ديلان وفيلليني كانت تحويل الدفة والنظر الي داخلهم.
اتجه ديلان إلى بساطة الحس الروحي الموجودة في اشعار توماس ميرتون وعثر عليها بعد حادث سقوط دراجته النارية، الذي تعرض له في وودستوك. حيث كان يسجل The Basment Tapes وقام بتأليف اغاني ألبومه John Wesly Hardig.
أما فيلليني فقد بدأ بموقفه في بداية الستينيات، وقدم فيلم عن انهياره الفني. وليفعل ذلك أخذ منحنى استكشافيا خطيرا لمنطقة مجهولة: عالمه الداخلي، ذاته الأخرى، غويدو، مخرج مرموق يعاني مما يشبه عقدة الكاتب ولكن سينمائياً، يبحث عن ملاذ، سلام، ومرشد له كفنان وإنسان. يذهب لتلقي العلاج في منتجع فاخر حيث يجد كل من عشيقته، وزوجته، ومنتجه القلق، وممثليه المرتقبين، وطاقم عمله،وحشد متنوع من المعجبين والمتطفلين وكذلك رواد المنتجع ومن بينهم أحد النقاد الذي يخبره بأن نصه السينمائى الجديد ينقصه الصراع الرئيسي أو ركيزة فلسفية. ويزداد عليه الضغط عندما تهاجمه ذكريات الطفولة ولحظات الاشتياق فجأة خلال أيامه ولياليه، كل هذا أثناء انتظاره لملهمته والتي تأتي وتذهب في لحظات خاطفة في هيئة كلوديا كاردينالي لتخلق النظام.
فيلم ½ 8 نسيج من أحلام فيلليني، وكما هو حال الحلم كل شيء فيه يبدو ثابتا وواضحا، ومن ناحية أخرى غائما وسريع الزوال، تتغير نغمة الفيلم باستمرار وبعنف أحياناً. لقد استطاع في الواقع خلق تيار متدفق من الوعي البصري الذي يجعل المتفرج في حالة مفاجأة ويقظة لشكل فني يتغير باستمرار كلما تقدمنا في الفيلم.
فما تراه أمامك هو فيلليني يصنع الفيلم لأن العملية الإبداعية هي نفسها هيكل الفيلم، وقد حاول العديد من المخرجين اتباع هذا الأسلوب فيما بعد، ولكن لا أعتقد أن أيا منهم استطاع تقديم ما قدمه فيلليني، فقد كان جرئياً وواثقاً في استغلال كل وسيلة إبداعية كانت متاحة لديه. بتمديد الجودة التشكيلية للصورة إلى حد يبدو فيه أن جميع العناصر توجد في مستوى آخر من اللاوعي.
حتى في أكثر إطارات الفيلم التي قد تبدو محايدة، عندما تنظر بتمعن، ستفاجأ من بعض العناصر في الإضاءة والتكوين المغروسة بشكل ما في وعي غويدو. وستتوقف بعد برهة عن محاولة معرفة أين أنت، سواء أكنت داخل حلم أو لحظة عودة إلى الماضي أو الحاضر.
ستولد عندك الرغبة في أن تظل تائها ومستسلماً لسلطة أسلوب فيلليني.
ويصل الفيلم للذروة عندما يتقابل غويدو مع الكاردينال عند الينابيع في رحلة بحث عن الوحي في العالم السفلي والعودة الي الطين الذي خلقنا وتشكلنا منه جميعا. ويظل حال الكاميرا كما كانت عليه طوال الفيلم لا تهدأ، بتأثير منوم، تطفو، وتتجه دائما ناحية شيء حتمي.
وعند نزول غويدو نرى من وجهة نظره توافد مجموعة من الناس عليه، البعض منهم يقدم له النصح للإشادة بنفسه أمام الكاردينال، والبعض الآخر يطلب منه خدمات. يدخل الي غرفة انتظار معبأة بالدخان ويشق طريقه الي الكاردينال، حيث يقوم الحاضرين بوضع حجاب من القماش حول الكاردينال ليتجرد من ملابسه فنرى خياله فقط. يخبر غويدو الكاردينال بأنه غير سعيد، فيجيبه الكاردينال ببساطة وبطريقة لا تنسى:” ولماذا يجب أن تكون سعيدا؟ فهذه ليس مهمتك؟ من اخبرك بأنك تأتي إلى هذا العالم لكي تكون سعيدا؟”
كل لقطة في هذا المشهد وكل ترتيب فيه وحركة بين الكاميرا والممثلين معقدة تماما. لا أستطيع تخيل، مدى صعوبة تنفيذها.
يعرض الفيلم أمامنا على الشاشة بمنتهى السلاسة كما لو كان أسهل شيء في العالم.
عندما عرض الفيلم أثار جدلا حوله بين الناس وكان تأثيره دراميا عليهم. وكان لدى كل واحد منا تفسيره الخاص للفيلم. وكنا نجلس لساعات نتحدث عن كل مشهد، وكل ثانية فيه. وبالطبع لم نستقر على أي تفسير محدد.. فأفضل طريقة لتفسير حلم يكون عبر منطق الاحلام. وعدم وجود نهاية واضحة للفيلم اثار استياء الكثيرين. وقد أخبرني غور فيدال بأنه قد قال لفيلليني في إحدى المرات “فيديريكو.. قلل من الأحلام في المرة القادمة، يجب أن تحكي حكاية.”
ولكن عدم وجود نهاية لفيلم ½ 8 يعتبر أمرا منطقياً، لأن العملية الفنية ليس لها نهاية، ويجب أن تستمر فيها. فبمجرد انتهائك من العمل، ستقودك الرغبة للبدء من جديد. مثل سيزيف عندما أدرك أن دحدرجة الصخرة لأعلى التل مرة تلو الأخرى قد أصبحت هي المغزى من وجوده.
كان للفيلم تأثير هائل على العديد من المخرجين، كان مصدر إلهام للمخرج بول مازورسكي لفيلمه (اليس في بلاد العجائب-Alex in Wonderland) وفيه يظهر فيلليني ليلعب شخصيته الحقيقية. وفيلم وودي آلن (ستار دست- Stardust Memories، وفيلم (كل هذا الجاز- All That Jazz للمخرج بوب فوسي). وكذلك المسرحية الموسيقية (ناين-Nine).
وكما ذكرت من قبل لا أستطيع حصر عدد المرات التي شاهدت فيها الفيلم، ولا يمكنني التحدث عن كم الطرق التي أثر بها علي. فقد علمنا فيلليني جميعا كيف يمكن أن يكون الفنان، والحاجة الملحة لخلق فن. ففيلم ½ 8 هو أنقى تعبير عن حال السينما الذي أعرفه.
مواكبة النجاح بعد فيلم (الحياة اللذيذة- La dolce vita)؟ صعب. وماذا عن مواكبته بعد فيلم ½ 8؟ لا يمكنني تصور ذلك.
الفيلم متوسط المدة (توبي داميت- Toby Dammit) مستوحى من قصة إدغار آلن بو، هو الثلث الأخير من الفيلم المكون من مجموعة افلام بعنوان (أرواح الموتى-Spirits of the Dead). وفيه نقل فيلليني صورة الهلوسة إلى مستوى حاد. يصور هذا الفيلم رحلة هبوط وحشية الى الجحيم.
أما فيلم فيلليني “ساتيريكون” Satyricon فقد قام فيه بعمل غير مسبوق، إنه لوحة تشكيلية للعصور القديمة، “خيال علمي بالمعكوس” كما يطلق عليه فيلليني.
أما فيلم “أماركورد” –Amarcord، فكان فيلم شبه سيرة ذاتية لفيلليني، تقع أحداثه في مدينة ريميني، أثناء سنوات الفاشية. ويعتبر الفيلم الآن من اكثر أفلامه المحبوبة. فهو الفيلم المفضل لدى المخرج التايواني هيساو-هايسن. ورغم أنه أقل جرأة من أفلامه السابقة إلا أنه مليء برؤى استثنائية. وكم أدهشني آعجاب الكاتب ايتالو كالفينو بالفيلم لأنه في رأيه يصور الحياة في عهد موسوليني، وهو أمر لم يخطر لي على بال من قبل.
وبعد هذا الفيلم أصبح كل فيلم يخرجه فيلليني يحتوي على لمسة خاصة متألقة، خصوصا فيلم فيلليني (كازانوفا-Casanova). إنه فيلم بارد، أبرد من أعمق دائرة من جحيم دانتي. وهو استثنائي، مميز، جرئ، ولكنه تجربة جريئة حقا. ويبدو أنه كان نقطة تحول عند فيلليني.
وفي الحقيقة كانت أواخر السبعينيات وأوائل والثمانينات فترة تحول عند العديد من المخرجين حول العالم، وأنا واحد منهم.
وبدأ الإحساس بالصداقة الحميمة التى شعرنا بها سواء كانت حقيقية أم متخيلة يتلاشى، وراح كل منّا ينشغل وينأى بنفسه لمحاربة ظروف إخراج فيلمه التالي.
كنت أعرف فيديريكو بما يكفي لكي أقول إنه صديقي. التقينا لأول مرة في عام 1970، عندما ذهبت إلى إيطاليا بمجموعة من الأفلام القصيرة قمت باختيارها للعرض في أحد المهرجانات. واتصلت بمكتب فيلليني، وتم تحديد نصف ساعة من وقته لمقابلتي. كان شخصا دافئا وودودا للغاية. وأخبرته بأن زيارتي تلك كانت هي الأولى لروما وقد اقتصرت على زيارته وجعلت زيارة كنيسة سيستين لأخر يوم، فضحك فيلليني، وقال له مساعده “أترى يا فيديريكو، لقد أصبحت أحد الآثار المملة.” وأكدت له أنه أبعد ما يكون عن الملل. وأتذكر أني سألته أيضا أين استطيع تناول معكرونة لازانيا طيبة المذاق، فأوصى لي بمطعم رائع. فقد كان يعرف جميع المطاعم الرائعة في كل مكان. وانتقلت إلى روما بعد عدة سنوات، وبدأت أتردد عليه في أحيان كثيرة، فكنا نتقابل ونذهب لتناول إحدى الوجبات سوياً. كان رجلا استعراضيا دائماً، والاستعراض عنده لم يكن يتوقف ابدأ. ومشاهدته وهو يقوم بإخراج فيلم كانت تجربة مميزة حقا، كان كما لو كان يقود عشرات الفرق الموسيقية في وقت واحد.
أصطحبت والداي معي في إحدى المرات إلى كواليس تصوير فيلم “مدينة النساء”City of Women، وكان فيلليني يجري في كل مكان متملقا، متوسلا، متحكماً، ومعدلاً كل عنصر من عناصر الفيلم، محققا بذلك رؤيته بحركة مستمرة لا تتوقف. وعندما غادرنا قال لي أبي “كنت اعتقد بأننا سنتصور مع فيلليني.” قلت له “لقد قمنا بذلك بالفعل.” فقد حدث كل شيء على وجه السرعة لدرجة عدم إدراكهم لما كان يحدث.
وفي السنوات الأخيرة من حياته حاولت مساعدته في توزيع فيلمه “صوت القمر” The Voice of the Moon في الولايات المتحدة، فقد كان يواجه مشاكل مع منتجيه، وكانوا يريدون واحدا من أفلام فيلليني المبهرة، وهو أعطاهم فيلما على ما يبدو أكثر تأملا وكآبة. ولم يقترب منه أي موزع، وكنت مصدوما حقاً لعدم إبداء أي دور العرض المستقلة الكبيرة في نيويورك الرغبة في عرضه. كانوا يرغبون في الأفلام القديمة لا الجديدة.
وقد اتضح فيما بعد أنه سيكون آخر أفلامه. وبعد فترة قصيرة، ساعدت فيلليني في الحصول على دعم مالي لإنتاج فيلم وثائقي كان يخطط له، وهو سلسلة من المقابلات مع الأشخاص الذين يعملون في الأفلام، الممثل، المصور، المنتج، مدير الإنتاج. وأتذكر نص التعليق الصوتي لهذا الجزء كان يوضح مدى أهمية تنظيم سرعة التنفيذ لأن أماكن التصوير كانت بالقرب من أحد المطاعم الكبيرة.
وللاسف وافته المنية قبل أن يتمكن حتى من البدء فيه، واتذكر آخر مرة تحدثت فيها معه على الهاتف كان صوته خافتا وضعيفا ويمكن القول بأنه كان يخبو. كان من المحزن رؤية تلك الشعلة الكبيرة للحياة تنطفىء وتتلاشى.
لقد تغير كل شيء، السينما والأهمية التي كانت تحملها في ثقافتنا. ومن المفاجئ أن فنانين مثل غودارد، بيرغمان، كوبريك، وفيلليني بعد ما كانوا يحكمون فننا من علٍ كآلهة جبل الأولميب، أصبحوا الآن يتسللون إلى الظل بمرور الزمن.
ولكن عند هذه النقطة لا يمكن اخذ اي شئ كأمر مسلم به. ولا يمكننا الاعتماد على صناعة الأفلام على وضعها الحالي لتعتني بحالة السينما. فمجال صناعة الأفلام والذي أصبح الآن كتلة تجارية لمجال الترفيه المرئي، أصبح التركيز منصب على كلمة تجاري. والحكم على القيمة يكون بمقدار الأموال التي تحصل عليها من أي سلعة مملوكة، ويندرج كل شىء تحت هذا البند بدء من فيلم (شروق الشمس-Sunrise ،الطريق- La strada، و 2001 الأوديسة). تم تنظيمه وفهرسته لقسم فن الفيلم في منصة العرض الرقمي.
ومن منا على دراية بفن السينما وتاريخها يجب أن يشارك حبه ومعرفته مع أكبر عدد ممكن من الناس. ويجب أن نوضح بكل دقة وجدية للملاك القانونيين الحاليين بأن هذه الأفلام التي لا تقدر بثمن اكبر من كونها مجرد سلعة ليتم استغلالها ثم وضعها على الرف ونسيانها. فهي تعتبر جزء من تراثنا الثقافي العريق، ويجب أن تُعامل على هذا الأساس. وأعتقد أنه يجب علينا تحسين تصورنا عن السينما وعن ما لا تكونه.
وفيلليني أفضل بداية لهذا الأمر، فيمكنك أن تقول أشياء كثيرة عن أفلامه ولكن سيظل هناك أمر واحد لا خلاف عليه وهو أن أفلامه هي السينما الخالصة وأعماله تمتد على طول الطريق للتعريف نحو الشكل الفني.
عن مجلة هاربرز الأمريكية (عدد مارس 2021)