«سعيد مثل لازارو».. براءة الذئاب ودنس البشر
“غالبًا ما نتخيل أن الرجل الصالح يفعل الخير، لكنه مجرد وهم. الرجل الصالح الحقيقي لا يعرف ما هو جيد أو سيء، إنه ببساطة منفتح على كل شيء”.
أليس روروتشر – مخرجة إيطالية
صرخة أولي مدوية ونواح متصل لا ينقطع، هو أول ما نطقت به أفواهنا لدي وصولنا إلى هذا العالم. نحاول أن نتأمل السبب، نفتش بحثا عن إجابات، لكنها محاولات متكررة دون جدوى، هل تلك الصرخات الرقيقة بمثابة إعلان للحزن عن انقطاعنا بذلك الرحم حيث يعم الهدوء والسكينة والانتقال إلى عالم آخر أكثر صخب ووحشية. ربما هو كذلك، لكننا وسط تزاحم تلك الأفكار لا يمكننا غض الطرف عن ابتسامة أم حنونة وقعت أعيننا عليها منذ أن أبصرنا الوجود. بالطبع لا ندركها، لكنها ملأت قلوبنا الصغيرة بأحاسيس البراءة والطهر، فطبعت فيها فطرة سليمة لا تعرف حقد ولا حسد، غل أو كراهية، تلون أو مداهنة، نقاء صافي جبلنا جمعيا عليه بالرغم من اختلاف أشكالنا وألواننا.
ولكن ما الذي تغير داخلنا لاحقا؟ لماذا سكن القبح والشر في قلوب فطرت على البراءة منذ ولادتها؟ بمرور الوقت يبدأ هذا التحول في التشكل، تماما كأطوار القمر، مع كل خطوة تدب فيها أقدمنا على هذه الأرض منذ نعومة أظافرنا. يتلاشى طعم الحرية من أفواهنا في الاختيار أو الفكر أو التعبير، كقطعة حلوي صغيرة فقدت لذتها، لنصبح بعدها مجرد عبيدا يسمعون فيطيعون، فتبلدت أحاسيسنا ومشاعرنا وتهاوت فطرتنا السليمة إلى أن صرنا مجرد تروس داخل عقل استبدادي غاشم يطحن كل منا الآخر داخله في سبيل المادة.
ولكن إذا قدر لأحدنا الحفاظ على نقائه وبراءته بعيداً عن تلك الطواحين السلطوية، هل سيتمكن من النجاة؟ هل سيسمح له العالم أن يصير استثناءً داخل قاعدة يحكمها قانون الغاب؟ أم سيعيش طويلا ليري نفسه يتحول إلى فاوست آخر يبيع روحه للشيطان.
في شريطها الروائي الثالث “ Happy as Lazzaro “سعيد مثل لازارو”، الفائز بجائزة السيناريو بمهرجان كان السينمائي عام 2018، تأخذنا المخرجة الإيطالية الشابة أليس روروتشر، إلى عالم تتلاشي فيه حدود الزمن، حيث تصبح الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال ضبابية، بلدة نائية تتحول فيها الحقائق الصغيرة إلى أساطير، وسكان أسري في سجن كبير من الوهم، مجرد عبيد لصنم خادع، ليس من الأحجار، وإنما بشري، تغلغل في أعماقهم وأصبح يشكل قيمهم وأخلاقهم، فبات الإفلات من براثنه دربا من دروب الخيال.
فيلم إنساني مؤلم، محاط بسريالية جديدة دافئة، تتبع قصته رحلة فلاح شاب (لازارو) عبر العلل وتطورات الماضي القريب لإيطاليا. يهيم داخل جمال البلاد المهجور والتحلل النامي، يتحرك عبر العقود دون أن يفقد ابتسامته الشبيهة بالقديس، أو أن يتخلى عن براءته النابضة بعنفوان الشباب في عالم تشيخ فيه الأكاذيب.
يواجه لازارو الخير والشر، القديسين والذئاب، العاديون والأقوياء الذين يستغلونه على حد سواء. وفي يوم ما، تتفجر الحقيقة ويكتشف الجميع مدي زيف العالم الوردي الذي يعيشونه. يعيد التاريخ نفسه، وإن كان يأخذ أشكالًا جديدة، ويتقدم لازارو في طريقه المليء بالأشواك دون أن يكتسب أي مكر ولا معرفة. وفي نهاية الأمر، تترك رورفاكر المعنى الأخلاقي لقصتها لتأويلات الجمهور.
كسر احتكار المقدس
“نحن نتحدث هنا عن دين الإنسانية، ليس عن دين رسمي بثياب مبهرة وقواعد أسبوعية”
مرة أخري يتسرب داخلنا ذلك الإحساس، بأن الأشياء العادية أمام أعيننا تصبح غير عادية، زخارف دينية معلقة على الحائط يتلاعب بها ضوء نهار خافت وصور قديسين مخبأة بين جنبات المنزل، لتمنح سحراً عابراً على حياة المهمشين، مسلوبي الحلم والإرادة، تتحسس مواطن الألم داخلهم فتصيبها بالخدر كي لا يتذكروا ما سلب منهم باسم التقدم والرقي والحداثة. استدعاء حسي للمقدس لإضفاء الطهر على عالم شح فيه المعجزات، تتبدل فيه المصطلحات ونتلاعب خلاله بالكلمات وتظل الحقيقة ثابتة راسخة.
ترى أليس روروتشر، التي لم تُعمد أثناء طفولتها كونها نشأت في عائلة غير متدينة، أنه لا مانع من المشاركة في حساسية دينية معينة، خاصة وأن المجتمع الإيطالي مسيحي بالفطرة. لذلك قامت بإجراء العديد من المراجعات والأبحاث الدينية (الكاثوليكية) لكي تستخلص ما يتناسب مع طبيعة قصتها الدرامية المستسقاة من تحقيق صحفي لحادثة حقيقية وقعت في الثمانينيات. فهي تعتقد أن “صناعة الأفلام شكل من أشكال الإيمان” [1].
أنفيولاتا، تلك القرية النائية التي اختارت أن تروي قصتها عبر جبالها الخلابة ووديانها المتعرجة، تمثل وقائع استبداد لمجموعة من المغيبين عن العالم والمقهورين تحت وطأة الإقطاع وسلطة المقدسات، وهذا يتضح من أصل التسمية والتي تعني بالإيطالية (الشيء البكر الذي لم يمس). يحكم هذا المحيط الافتراضي سيدة تدعي ماركيزا دي لونا، لا تمارس سلطة اقطاعية وحسب وإنما دينية أيضاً. فسكان أنفيولاتا مؤمنون بطبعهم “والدين هو أحد الأدوات المستخدمة لإبقائهم في الظلام” [2].
يمتد التأثير الديني للفيلم وصولاً إلى مظهر الأراضي المقدسة حيث المناظر الطبيعية للريف الإيطالي، ونمط الحياة المتقشف لأولئك الذين يعملون في أرضها الجافة المتشققة. يتقاسم ما يزيد عن خمسين فرداً من عائلة واحدة إمدادات محدودة من المصابيح الكهربائية ووجبات شحيحة من الخبز بينهما. لكن عزلتهم تبدو أكثر من كونها جغرافية، إنها أشبه بفقاعة زمنية توقف فيها الوقت. ليبدو وكأننا أمام قصة من قصص الكتاب المقدس أو لوحة ريفية من لوحات “والدمولر” تعود للقرن التاسع عشر.
رمزية شخصية لازارو لا تتوقف فقط عند حدود الاسم، والذي يعود أصله إلي القديس لعازر – كما ورد في أنجيل يوحنا – وتشابه معجزتيهما في القيامة من الموت، وإنما يمثل اغتراب للقداسة التي أنحلت عن مجتمعاتنا. فبراءة ذاكرة لازارو، الذي لا يدخر جهدا لإسعاد الآخرين، مؤلمة وممتعة في نفس الوقت، تماما كفكرة الذئب الذي يخافه سكان القرية، لكنه في الحقيقة يأتي لإنقاذنا بطريقة رمزية. “بالطبع، هناك ذئب خيالي. إنه حقيقي وليس حقيقيًا في نفس الوقت. إنه صوت، ولكنه بطريقة ما روح لازارو التي تظل معه طوال الوقت” [3].
يمارس المكان سطوته المقدسة داخل الفيلم بصورة رمزية، فاختيار لازارو لكهف مهجور بأحد جبال القرية كمسكن له ينطوي على بنية مقدسة كونه يمثل – جغرافيا – النقطة الأعلى لهذه القرية، وبالتالي فإن “الجبل صورة من الصور التي تعرب عن الرباط الذي يربط (السماء) و(الأرض) … ولما كان الجبل المقدس هو محور العالم الذي يصل (الأرض) بـ(السماء)، فإنه يلمس، بنوع من اللمس، السماء … هذه الاعتقادات كافة تعرب عن عاطفة واحدة، عاطفة دينية عميقة: عاطفة أن “عالمنا” هو أرض مقدسة لأنه أقرب محل إلى السماء” [4].
ترفض روروتشر، في أفلامها الثلاثة، احتكار القداسة لسلطة الكنيسة، برزت تلك الفكرة بوضوح قبل نهاية الفيلم بدقائق، حين دخل لازارو برفقة عدد من أبناء قريته إلى إحدى كنائس المدينة، أملين الاستماع إلي صوت الرب، أو نيل مسحة صغيرة من يده على رؤوسهم كي تمنح أجسادهم المنهكة القوة والأمل. ولكنهم يتعرضون للطرد من أحد القساوسة لتستمر مسيرة الخذلان البشري.
إنهم ينتظرون حدوث المعجزات، فهم لا يؤمنون بها لأنهم سذج أو أغبياء، بل لأنهم يائسون ولا رجاء لهم في غيرها. ومع خيط من المعجزة الإلهية المنسوجة في ثوبها الواقعي، تغادر الموسيقي مع خروج لازارو ويظل يتردد صداها خارج المكان. مشهد أشبه بحلم جميل تود لو أن يتجاوز حدود اللاوعي، ونفحة إلهية أدخلت السرور في قلوب المستضعفين.
وهم الحرية
“البشر كالبهائم.. حيوانات.. اجعلهم احراراً، وسيدركون بأنهم عبيد”
كانت تلك كلمات الماركيزة دي لونا، لابنها تانكريدي، حين سألها ماذا لو أكتشف سكان القرية حقيقة أنهم أسري لخديعة كبري، أو احتيال عظيم كما اسماه الفيلم. لكنها تدرك جيداً أن تلك الحقيقة لم تغير من الواقع شيئاً. إن عقود من الظلم التي خيمت على إنفيولاتا جعلت سكانها لا يشعرون بقيمة الحرية فباتت والعدم سواء. إنهم يتلذذون بالعبودية وتبرير الاستبداد، تأقلموا مع واقعهم المظلم كمثل الخفافيش التي تعيش سالمة في ظلام كهوفها الدامس، يخيفها الضوء ويزعجها النور، فالظلام بالنسبة لها كالنور بالنسبة لغيرها.
مع نهاية الفصل الأول، يتم القبض على الماركيزة ويكتشف سكان إنفيولاتا أنهم كانوا تحت قيد عبودية تم إلغاؤها من البلاد منذ أمد بعيد. ليبدأ آخر جديداً بقيام لازارو من سباته الطويل في مشهد فانتازي ساحر، ليجد نفسه وحيداً في القرية بعدما غادر سكانها إلى المدينة.
يصادف الفتي، الذي ظلت هيئته شابة في وجه الزمن، خلال رحلته ذلك المحاسب الذي كان يعمل لدي الماركيزة، وقد أصبح يدير عملا جديداً قائما على استغلال المهاجرين، تماما كما كان يفعل في السابق. فأليات العبودية القديمة تم استبدالها “بنظام يتسم بوجود الأيدي العاملة بالعقود الحرة فقط من الناحية الشكلية ولكن الخاضعة لأجر بخس وظروف عمل ومعيشة لا تختلف كثيرا عما سبق وعاشه العبيد” ]5[.
ربما ظن البعض أن حياة سكان إنفيولاتا ستتحسن باندثار واقع الظلم وانتقالهم من بيئتهم الرعوية إلى أخري حضرية. لكن تحققت نبوءة الماركيزة، ولم يستبدل هؤلاء التعساء سوي منزلهم الكبير بصهريج صدئ بالقرب من شريط قطار، طبيعة ساحرة وخضرة تملأ الجبال والوديان بأخرى صاخبة مزدحمة ومقفرة، وسيدة اقطاعية بنظام رأسمالي يقتل بدم بارد. فتبدلت الأدوار وبات المُستَغَلّين هم المُستَغِلين، وأجبروا على خداع الناس من أجل لقمة العيش أو مواجهة احتمالية الموت جوعا.
إن إلغاء العبودية والتحرر من القيود والأغلال لم يتضمن “ولادة مجتمع متكافئ على الإطلاق، بل بالأحرى تواجد مجموعات جديدة ذات هويات متباينة: أفراد أحرار من الناحية القانونية ومع ذلك يتمتعون بحرية محدودة جراء خضوعهم لأشكال من العمل الإجباري” [6].
صورت روروتشر مشاهدها على شريط 16 ملم، وهو ما أضفى أجواء نوستالجية على مشاهد القرية جعلتنا نشعر بحالة من اضطراب الزمان والمكان حيث تتلاشى حدود الوقت بين الماضي والحاضر. عندما تنظر أليس إلى الماضي لا تتطلع إلى ابراز حالة الحنين تلك على الاطلاق، إنها تعود بنا إلى الوراء لا من أجل شيء نفتقده، بل لتسليط الضوء على قضية أبدية لم تحل بعد، ألا وهي العبودية. لنتبين خلال الفصلين أن كلا المكانين كانا سيئين، وأنه لا شيء يتغير بالنسبة لحياة الأشخاص الموجودون في قاع العالم.
في نهاية الفيلم، يذهب لازارو إلى البنك املا أن يستعيد ثروة تانكريدي المسلوبة بعدما أصبح يعيش حياة وضيعة في المدينة. لكن الفتي الطيب كان مخطئا، فهذا العالم جرد من نقاءه وطهره. تتساقط دموع لازارو لأول مرة ويتهاوى معها جسده أرضا، كذئب عجوز فقد دفيء جماعته وبات فريسة للضباع وسط غابة موحشة. فكل ما أراده لازارو أن يمنح البراءة لعالم قاسِ، لكنه تبين أنه لا فائدة للخير في عالم يسير على الخطيئة.
“سعيد مثل لازارو” هو احتفال باللطف والمحبة والحرية والجمال، يعري المصطلحات الجوفاء للكنيسة والدولة. إن قانون رورفاكر هو انتصار الروح على رياء الاستغلال. تفتش هنا عن التصوف الحقيقي داخل قلوب لا تشوبها الانتهازية والسلطوية، متسلحة بقوة الخير المطلق لبطلها لازارو. تحذرنا أليس من أن الطاعة والخضوع باتت بدائل هشة لتحدي بيئتنا الاستغلالية، وتذكرنا بأن المظلومين على بعد خطوة واحدة فقط من أن يصبحوا الظالمين.
سحر المهمشين وقسوة الواقع
تتمتع إيطاليا بعلاقة ساحرة مع الريف والطبيعة، وربما لا يكون ذلك مفاجئًا في بلد لا تزال فيه الروابط بين القرية والمدينة قوية جداً. استطاعت أليس رورفاكر تحقيق هذه المعادلة في أفلامها، فقد نشأت في ريف أمبريا وعاشت في المنازل المتهدمة القديمة التي تركها الفلاحون الذين هاجروا إلى المدينة. مكان تلمس فيه علامات الحداثة جنبا إلى جنب مع رموز من عصور مختلفة، فمن الممكن أن تري محطة وقود بالقرب من قناة مائية رومانية قديمة. لذلك تشكلت نظرتها للأمور وسط مكان غير متقارب زمنيا بشكل خطي.
في فيلمها الأخير، يمتزج السحر مع الدنيوية ليخلق قصة غير عادية، نقية وعابرة للزمن. تعيد أليس النظر خلاله في بعض أعمال مخرجي ما بعد الواقعية الجديدة كالأخوين تافياني، وقديس السينما الإيطالية إيرمانو أولمي، فيما يتعلق بعلاقة الفلاحين بالأرض والطبيعة، طقوسهم الدينية الخاصة وحكاياتهم الشعبية الأسطورية. وهو ما يجعل الفيلم أقرب في تكوينه إلى شريط أولمي الفائز بالسعفة الذهبية “شجرة القباقيب الخشبية”.
حافظت رورفاكر في شريطها على جماليات الواقعية الإيطالية باستخدام أسلوب سردي يمزج ما بين الروائي والتسجيلي، بجانب التصوير في الأماكن الفعلية بعيداً عن مواقع الاستديوهات، والاعتماد كذلك على ممثلين غير محترفين كالوافد الجديد أدريانو تارديولو، الذي جسد دور لازارو.
يمكننا أن نقارب أسلوب أليس رورفاكر، بمدرسة بازوليني وأولمي وافتتانهما بسحر وجوه الفلاحيين والقديسين، أو حتى مزيج الحياة الريفية والواقعية السحرية التي قدمها ماركيز في رواياته. لكننا مدينون لسحر واقعيتها التي تتدفق بسلاسة وانسيابية في السرد لتكشف التوتر بين الأجواء الريفية الشاعرة والعالم الحديث، وتخلق هالة من الدفء في تصويرها لحياة الفلاحيين البسطاء تجعلنا نخجل من أنفسنا لنسياننا هؤلاء الناس.
مراجع
1 – حوار مع أليس روروتشر– موقع “Little White Lies”
2- المرجع السابق
3- حوار مع أليس روروتشر– موقع “No Film School”
4– مرسيا إلياد، المقدس والعادي، ترجمة: عادل العوا، دار التنوير، ص 76: 77
5– باتريسيا ديلبيانو، العبودية في العصر الحديث، ترجمة: أماني فوزي حبشي، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، ص 225
6 – المرجع السابق، ص 224