“زوج حلاقة الشعر” بعد 25 عاما: حلم السعادة الأبدية رغم الموت
“زوج حَلّاقة الشعر” The Hairdresser’s Husband فيلم ليس كسائر الأفلام، وهو قادم من فرنسا التي أشبعت الفن السينمائي تجريبا وتصحيحا وتطويرا، أضافت الكثير كما حطمت الكثير من القواعد والثوابت والقوالب الكلاسيكية المحفوظة. هذا الفيلم يعود بنا إلى جوهر عصر “الحكاية” الرومانسية القديمة التي تفيض بعشرات الخواطر والرؤى والأفكار، تدفعنا للتأمل في مجريات حياتنا، والتوقف أمام ما تسير إليه، بل والتأمل في مغزى وجودنا في الحياة.
“زوج حلاقة الشعر” الذي عرض عام 1990، فيلم عن الأحلام، عن تلك الرغبة القديمة الكامنة داخل كل منا لبلوغ السعادة المطلقة التي لا يعتري صفوها شيء ولا حتى الموت، وخلال رحلة البحث عن السعادة، نمر بلحظات ألم ومعاناة واحظات كثيرة من القلق، ويرتبط قلقنا بخشيتنا من القادم المجهول المخيف، من التقدم في العمر والشيخوخة التي تنتهي حتما بالموت، والموت يعني فراقنا عمن نحب، وألم الفراق يحمل الكثير من الأسى واللوعة الحزن، حتى لو لم نكن نعرف شيئا عما بعد الموت!
ينتمي هذا الفيلم بقوة إلى السينما الشعرية، التي تنسج بناءها الفني من الأفكار والهواجس الإنسانية المجردة، عوضا عن تعاملها مع أفكار محدودة ومحددة سلفا مما يدور من صراعات في الحياة اليومية. باتريس ليكونت مخرج الفيلم باتريس ليكونت من مواليد باريس عام 1947، درس السينما في معهد الدراسات السينمائية الباريسي الشهير (ليديك) ثم شرع في إخراج الأفلام القصيرة وأفلام التحريك التي دذبت اهتمام الكثيرين بأسلوبها التجريبي الجريء، ثم انتقل إلى مجال الأفلام الروائية الطويلة عام 1975 وفيلم “زوج حلاقة الشعر” هو فيلمه الروائي الطويل التاسع.
يبدأ الفيلم في الزمن المضارع، حين نرى بطل الفيلم “أنطوان” يتذكر بعد أن بلغ خريف العمر، مسار حياته الغريب. نراه في لقطات قريبة وهو يتحدث مباشرة إلينا عبر الكاميرا بينما ينفث دخان السجائر التي يشعلها واحدة تلو الأخرى، ويعود بذاكرته لكي يبدأ منذ الطفولة بينما كان يقضي عطلة مع أصدقائه على شاطيء البحر، ثم يحدثنا عن هواياته المفضلة: الرقص على أنغام الموسيقى العربية، ثم التردد على محل الحلاقة في البلدة الصغيرة التي يقيم فيها لقص شعره. ويبدي أنطوان الصغير اهتماما غريبا بالمرأة التي تقوم بحلاقة الشعر، وهي مكتنزة القوام، تداعب خصلات شعره بأناملها التي يشعر ان لها سحرا لا يقاوم. يحكي لنا أنطوان كثيرا عن ولعه بالمرأة حلاّقة الشعر، وكيف كان يتشمم باستمتاع رائحة العطر الذي يفوح من جسدها وهي تميل عليه أثناء قص شعره، وكيف كانت المفجر الأول لرغباته الحسية، وظلت بالتالي نموذجا للأنوثة.
على مائدة الغذاء يسأله أبوه عما يريد أن يكونه في المستقبل؟ فتأتي إجابة أنطوان دون تردد: “أريد أن أتزوج حلاق للشعر”.. يقولها دون أدنى تردد وكأنه واقع تحت تأثير حلم طويل، لكي تفاجئه صفعة قوية من والده تكاد تتسبب في وقوع أزمة عائلية. ولكن سرعان ما سيفاجأ بطلنا بانتحار الحلاقة.. ولا نعرف السبب، ففيلمنا هذا لا علاقة له بالدراما النفسية التقليدية التي تهتم عادة بالسبب والنتيجة لدوافع الشخصيات الدرامية وغير ذلك، بل هناك رغبة متعمدة في إبقاء الكثير من الأشياء في الفيلم، دون تفسير. يكبر الفتى ويكبر معه حلمه الغريب. وذات يوم يتخلى صاحب محل الحلاقة اليهودي المسن، عن المحل لمساعدته الجميلة “ماتيلدا” (تقوم بالدور ببراعة الإيطالية أناجاليينا) مقابل أن تعطيه مبلغا شهريا زهيدا، ويذهب هو لكي يقيم في دار للمسنين.
وبعد 25 عاما من البحث عن فتاة أحلامه، تقع أنظار أنطوان (جان روشفور في أداء عبقري) على “ماتيلدا”، فيتقدم ويقتحم محل الحلاقة على افورة، ويطلب منها قص شعره، ثم يسرح بخياله متأملا في جمال وجهها، وابتسامتها الساحرة، وجسدها اتحيل الرشيق. وفجاة يتطلع إليها ويقل لها: هل تقبليني زوجا؟
تتراجع الفتاة في دهشة وتصمت، ويخرج هو متعثرا مرتبكا، ثم يعود قبل مرور اسبوعين، لكي تفاجئه الفتاة بأنها قبلت عرضه للزواج منها. ويتزوج الاثنان بالفعل في محل الحلاقة، ويحضر الاحتفال بالزواج المالك الأصلي للمحل واثنان من أصدقاء أنطوان، وتبدأ بعد ذلك رحلة الزوجين للبحث عن السعادة. الجنة الصغيرة يعيشان معا عشر سنوات، يتذوقان خلالها طعم الحب والسعادة كأجمل ما يكون، لا يتشاجران قط سوى مرة واحدة فقط بسبب الخلاف في الرأي حول ممثل فرنسي. وتكاد حياتهما تنغلق تماما على محل الحلاقة، فهو يصبح عالمهما الخاص، ينهلان في داخله الحب ويعرفان معنى التواصل الروحي الوجداني بلا جدود. وخلال النهار، يجلس أنطوان، يراقب زوجته وحبيبته خلسة وهي تمارس عملها في قص شعر الزبائن. وبعد انتهاء يوم العمل، يعاودات ارتشاف كأس الحب حتى الثمالة.
لكن يبدأ الملل يتسرب إلى حياتهما، يلجآن للتعلب عليه عن طريق الافراط في التدخين والشراب، وفي مشهد عبثي تماما يصبان كل محتويات زجاجات العطور في المحل في كأسيهما ويتجرعانها. لكن هل يمكن أن ينعزل المرء عن الحياة الحافلة بمشاطلها وتقلباتها داخل أسوار تلك “الجنة الصغيرة” أو دكان الحلاقة؟ يحضر إلى المحل ذات يوم رجل لكي تقص له ماتيلدا شعره، وسرعان ما تلحق به زوجته، تجلس تنتره أن يفرغ من الحلاقة، تتطلع إليه في نظرات ملؤها الشك والقسوة ثم تنهض وتصفعه بقوة أمام ماتيلدا وأنطوان.
يعتذر لهما الرجل في ارتباك واضح، تغادر زوجته المحل، ويسعى هو لشرح الأمر دون أن يفسره/ فيكتفي بالتعبير عن حبه لزوجته، ويتباهى بجمالها وحسنها! يعود الرجل نفسه مجددا فيما بعد، في صحبة أطفاله الثلاثة بعد أن تكون زوجته قد هجرته. إنها ضغوط الحياة الزوجية التي يمكن أن تؤدي إلى انفراط العقد، ويبقى الأطفال الذين يمنحوننا بعض الأمل، لكنهم أيضا دليل على مشي الزمن، على تقدمنا في العمر، وناقوس يشير الى الفراق المقبل.. بالرحيل الأبدي! تقوم ماتيلدا بزيارة صاحب المحل في دار المسنين، لكي تعرف أن الرجل يعيش هناك بارادته في انتظار الموت القادم، بل ويقوم بنفسه بتوديعها حتى الباب الخارجي، ثم يغلق باب المصحة وكأنها المرة الأخيرة التي يرى فيها العالم. الفراق بالموت بعد هذا المشهد مباشرة يأتي مشهد الفراق.
ففي صبيحة يوم عاصف ممطر، تمارس ماتيلدا الحب مع أنطوان، ثم تخرج معتذرة بأنها ذاهبة لقضاء بعض الأمور فيالخارج، لكنها لا تعود أبدا، بل تلقي بنفسها في مياه البحر وتموت غرقا. لقد فضلت ماتيلدا الموت على التقدم في العمر، على الوحدة التي يعيشها المسنون كما رأت في حالة صاحب المحل اليهودي العجوز.. لقد حققت السعادة في الحب ولا تريد ان تفقدها في اللحظة التي تكون قد أصبحت عاجزة عن منحها. وفي المحل، يجلس انطوان يحل الكلمات المتقاطعة في إحدى الصحف في هدوء وصبر.. ثم ينتهز فرصة دخزل زبون عربي يسال عن ماتيلدا، فيديبه بأنها ستاتي بعد قليل، لكنه على يقين فيما يبدو من أنها لن تأتي.. يدير شريط للموسيقى العربية، ويرقص الاثنان عليها معا، إن أنطوان يتغلب على الموت بالرقص.. لقد شبع سعادة وحانت الآن لحظة الاستعداد للفراق.
يروي المخرج لوكونت هذه القصة الرقيقة الموحية البسيطة بلغة أقرب الى لغة الشعر، فهو لا يشرح ولا يفسر، لا يستطرد ولا يستخدم الحوارات الطويلة المرهقة، وإنما يحيط شخصيات فيلمه بهالة من الغوض المقصود، كما لو كان يمنحهما بعدا رمزيا أسطوريا.. ربما تكون العلاقة بين أنطوان وماتيلدا، حلما لدى لوكونت نفسه، حالة خاصة من السعادة التي تحمل في طياتها إدراك أنها حالة مؤقتة، سائر الى زوال بالموت.
نحن لا نرى أي ملامح للتقدم في العمر على وجهي البطلين، ولا نعرف كيف يعيشان ومتى يتناولان الطعام، وكيف يدفعان الفواتير، وهل لديهما بيت أم لا، ومن أين يحصلون على المال، فالزبائن لا يدفعون مقابل الحلاقة، وكأن محل الحلاقة معادلا للجنة على الأرض.. كما لا نعرف مبرر عشق أنطوان للموسيقى العربية والغناء العربي تحديدا! شريط الصوت يلعهب شريط الصوت دورا مهما بارزا في إثراء الفيلم، فهو مزيج من الغناء من مصر وتونس والمغرب واليمن، ويستخدم ليكونت الغناء والموسيقى العربية في الوقت المناسب للتعبير عن لحظات التحرر والمرح والانطلاق أي الخروج عن المألوف اليومي التقليدي.. والرغبة في التواصل مع الآخرين. وفي أحد المشاهد الموحية نرى امرأة تحضر مع طفلها لكي تفص له شعره لكن الولد يرفض بشدة الخضوع لماتيلدا.. رغم كل محاولاتها استرضاءه واقناعه، ولكنه يستجيب فقط بعد ان يدير أنطوان أسطوانة موسيقية ويبدأ في الرقص امام الصبي على الإيقاعات العربية أمام انبهار واعجاب الطفل بشكل واضح وكأن للموسيقى تأثير منوم عليه!
يدور التصوير في معظم اجزاء الفيلم داخل ديكور محل الحلاقة، ويتحكم مدير التصوير الايطالي إدواردو سييرا في الاضاءة من مشهد الى آخر بحيث يجعل الضوء يتناسب مع الموقف المخنلف، مع تغير تصميم الديكور من موقف إلى آخر أيضا، فالمتفرج يتخيل أحيانا أن البطلين يتحركان داخا غرفة للنوم، وأحيانا غرفة الالجلوس، وهكذا يصبح الدكان عالما بأسره متعدد الديكورات.
مخرج الفيلم باتريس لوكونت مهموم بموضوع استحالة التواصل الإنساني، والعثور على السعادة في عصرنا الحالي، ورغم ما يرتبط بهذه الفكرة من تشاؤم، إلا أنه لا يبدو متشائما في فيلمه هذا، بل يعكس احساسا بالمرح، فهو يجد علاقة ما بين الحب والموت والضحك، وبينها وبين الرقص والعبث والسخرية السوداء المريرة، ويصل في تعامله مع النفس البشرية وما يكمن داخلها من آلام، إلى درجة كبيرة من الشفافية الشاعرية. ولاشك أن “زوج خلاقة الشعر”، سيبقى طويلا في الذاكرة.