“زهور الحرب”.. تمجيد النُّبل الإنسانيّ
فيلم زهور الحرب The Flowers Of War 2011)) للمخرج الصيني ” جانغ ييموِ ” الذي اقتبس عن رواية لكالينغ يانغ والتي تحمل عنوان “زهرات نانجينغ الثلاثة عشر” يُعتبَر تعليقًا تأمليٍّا على التضحية، والعواطف النبيلة، والعنف، والأفراد والجماعات، والطبيعة البشرية تحت الضغط، كما يكشف في مداه الثقافي عناصر من زمن الصين عام 1937.
الفيلم تدور أحداثه إبان الحرب الصينية اليابانية الثانية ، وسقوط مدينة نانجينغ بعد عشرين يوما من الضرب المتواصل، وقيام الجيش الياباني بمذابح مروعة في المدينة.
ومن أول مشاهدة الضبابية تكشف الشخصيات عن أبعادها الثقافية، فالشخصيات الصينية سواء كانوا فتيات صغيرات أو نساء أو جنود – لا يظهر أحدا منهم بشكل منفرد، إنهم دوما في جماعات، وقليلة هي المشاهد التي تصورهم منفردين.
متعهد دفن الموتى جون (كريستيان بيل ) يظهر ببداية الفيلم وفي كثير من مشاهدة منفردا، كشخصيات الأبطال في الأفلام الأمريكية، إنه الباحث عن المال والخمر، لا يكترث بالقيم ولا المبادئ، يتجه إلي كاتدرائية وينشستر بمدينة نانجينغ لإعداد دفن كاهنها المتوفي، ترشده طالبتين للطريق، وهناك يجد نفسه بين طالبات المدرسة، وفتيات الليل اللاتي وجدن مأوى هربا من الجنود اليابانيين، لكنه لا يعرض مساعداته بلا مقابل، فشغله الشاغل هو المال والملذات، إنه أكثر شخصية تعقيدًا، يظهر في البداية كسكير طامع في المال، وكمهرِّجٍ في بعض المشاهد، وكأناني في مشاهد أخرى، لكنه في نظر جميع المقيمين في الكاتدرائية هو الورقة الرابحة التي يمكن أن تنقذهم. تصرفاته في البداية تثير الاشمئزاز، وبدافع الحماية الشخصية لنفسه دون اهتمام بالآخرين، لكن التغير يحدث في شخصيته، ويهاجم الجنود، ثم يعمل على إنقاد الطالبات، مبرر هذا التغير صراخ الفتيات أثناء التعدي عليهن من قيل الجنود اليابانيين، فهن في عمر ابنته التي توفت في سن الثانية عشر، وقبل وفاتها جعلته يقطع وعدا أن يعيدها جميلة ثانية ، لهذا عمل في تجميل الموتى ويكرر “انه عمل هام .. عمل هام.. انه عمل هام”.
الرائد الصيني لي ( تونج داوي) لم يظهر منفردا إلا بعد موت أفراد كتيبته، و رغم قلة عدد أفرادها، يرفض الانسحاب، ويدافع عن المدينة، حتى سقط جنوده شهداء، واحدا وراء واحد، ثم يقوم بحماية الفتيات الصغيرات وهن داخل الكاتدرائية، وذلك باقتناص الجنود اليابانيين الذين قاموا بالتعدي على الفتيات، وقبل أن يسقط هو أيضا شهيدا، يسحب معه عدد من جنود الاحتلال بتفجيرهم.
الصبى جورج (هوانج تيانيوان) يقود الفتيات الصغيرات وسط الرصاص المتطاير إلى الكاتدرائية مخاطرا بنفسه، وطول الطريق يقوم بإحصاء الفتيات الصغيرات خوفا من أن يفقد واحدة وسط الضباب، ثم يرفض لاعتبارات دينية أدخال فتيات الليل، فدخلن عنوة، لكنه يتطوع معهن ويطلب تغير مظهره كفتاة، ليحل مكان طالبه لينقذها من المصير السيء، ويستكمل بذلك العدد “الثلاثة عشر”، وهو يرتبط بعنوان الرواية، فهو عدد الفتيات تبعا لأعداد الضابط الياباني ويتكرر هذا العدد في الفيلم، وهو عدد في نظر بعض المجتمعات ومنها الصين مرتبط بسوء الطالع، لكنه قرب نهاية الفيلم ارتبط بالإنقاذ.
يركِّز المخرج أيضا على الشخصيات النسائية، البعض منهن لا يتجسَّدن بالكامل، وامرأةٌ واحدة فقط وهي ” مو” ( الممثلة نى نى في أول بطولة لها) تكشف أسرارا عنها:
- حتى سن الثالثة عشر كنت فتاة صالحة!
ثم دفعت لتكون فتاة ليل تبيع جسدها، هذه الأسرار هي التي سوف تصيغ لاحقا نهاية الفيلم، فعندما يطلب ضابط من الجيش الياباني إحضار الطالبات ليغنين في احتفال عسكري، وهو في الحقيقة يحاول تجنيدهن كخادمات جنسيات في هذا الاحتفال، عرف الجميع ذلك دون تصريح مباشر، لذا خيم القلق والتوتر على الشخصيات في اللقطات التالية، أما الفتيات فيقررن الانتحار قبل الذهاب للاحتفال، ولإنقاذهن من الانتحار ومن المصير السيئ على يد جنود الاحتلال، تعرض فتاة الليل ” مو” أن تحل محل شو، ثم تغنى الأغنية القديمة التي تعبر عن نظرة المجتمع السيئة نحوهن:
“عاهرات لا يكترثن
لأمر أمة تسقط
تغني وترقص بينما يموت الآخرين”
مو تطلب تغير طريقة التفكير القديمة بفعل شيء بطولي، يكسبها الاحترام الذي تفتقده داخل المجتمع الصيني التقليدي، توافقها لينج التي رفضت سابقا أن تحل محل الفتيات في الاحتفال الياباني، وأخير توافق على الذهاب لكي تفعل شيء مشرف، ثم تقول للفتاة التي ستحل محلها:
– استمتعي بحياة طيبة من أجلي
وفي المقابل فالفتيات الصغيرات لا يتكشفن بالكامل، فتاة واحدة فقط وهي ” شو” التي تقوم بالسرد، لذلك فهي تتواجد في أغلب المشاهد، حتى تمد جسرا بين اللقطات.
إنها فتاة قوية وحرة، نعرف عنها رفضها ترك الفتيات ومغادرة المدينة مع أبيها الذي يتعاون مع اليابانيين، وتؤنبه وتتجنبه لهذا السبب، وتكشف لقطات مقرَّبة آثارًا من إحباط شو المستمر بسبب والدها، وبسبب الأوضاع الخارجية، ووضعهن الضبابي.
تشتت شو انتباه الجندي الياباني ليبعد عن نساء الليل المختبئات في القبو، فكسبت بذلك امتنانهن، وهى الأولى التي صعدت على الأسوار عازمة على الانتحار حتى لا تسلم نفسها للجنود، ثم تمنح فتاة الليل ” مو” شرف القرابة العميقة والاحترام فتناديها:
- شقيقتي الكبرى
والد شو المتهم بالتعاون مع الاحتلال، يبرر تعاونه بهدف الحصول على تسهيلات لمساعدة ابنته على الخروج من المدينة ، وعندما ترفض يفضل البقاء من أجلها، ثم يتعاون مع جون ويجلب سرا معدات لإصلاح سيارة النقل لتهريب الفتيات بعيدا عن الدمار والموت، ثم يعطى التصريح الوحيد الذي يحمله إلى جون، ويمنح الضابط الياباني كل ما يملكه لينقذ ابنته، وأخيرا يتلقى رصاصة في رأسه، ويترك مرميا في العراء أمام الكاتدرائية.
هناك شخصيات أخرى مؤثرة تظهر في مشاهد قصيرة ثم تختفي، لكن شو، و جورج، ومو، ولينج، وجون، والرائد لي، ووالد شو، سبعة شخصيات تضامنت أمام الخطر لحد التضحية من أجل بعضهم.
الشخصيات السبعة الرئيسية الغير متجانسة، اتصلت بعدد من الروابط:
رابطة رومانسية( جون ومو) ورابطة نسوية( مو ولينج) رابطة أبوية( شو ووالدها) رابطة أخوية ( جورج وشو والفتيات) رابطة إنسانية ( جون وشو وجورج والفتيات) رابطة وطنية( الرائد لي والطالبات) لذا فهو فيلم أكثر غنى من ناحية العاطفة، والتضحية، والقصة بشكل أكبر من كثير من الأفلام التي تتناول الحرب والاحتلال.
يعتمد الفيلم على التمثيل البارع، وخاصة تمثيل الفتيات الصغيرات، اللاتي تفاعلن مع شخصياتهم بشكل مثير للأعجاب، والممثلة الصينية نى نى ” التي منحت الشخصية لمسة من السحر الممزوج بوقار وكبرياء الأميرات، وعادلت الأداء العالي للأمريكي كريستيان بيل الذى لم يكن مقنعا في مشهد التغير غير الناضج على الشخصية.
هناك أيضا التنافر بين الشخصيات في التصرفات لأحداث التأثير الدرامي، ويساهم في هذا التأثير التناقض في المظهر: فملابس الفتيات بلون موحد هو الأزرق الداكن، وشعرهن الأسود بنفس الطول والشكل، وتشي ملابس العاهرات المطرَّزة والتسريحات بأدوارهن التقليدية في الصين في نفس الفترة التاريخية، ويتغير القبو القذر الذى يختبأن فيه إلى حجرة واسعة غنية بالروائح العطرية، ومليئة بالحيوية والجاذبية، وعندما يختفى التنافر قرب نهاية الفيلم يظهرن جميعا بلون موحد هو الأزرق الداكن.
وتظهر جماليات الفيلم في التتابع المونتاجي لمشاهد الحركة المفعمة بالسرعة والحيوية وسط الضباب، كما يساهم التصوير السينمائي في الارتقاء بتلك الجماليات، فالمشاهد الضبابية في البداية، اختفى منها التناقض بين الألوان، فالجميع تحت الخطر سواسية، ثم تم إظهار التناقض اللوني مع انكشاف التنافر بين الشخصيات، بعدها يقل التناقض اللوني في نهاية الفيلم، وخصوصا في الملابس عندما تتألف الشخصيات.
يمكن القول إن معظم مميزات الفيلم السينمائية، والإبداعية هي المشاهد العاطفية أثناء اقتراب الشخصيات من بعضها؛ كمشاهد شو ومو، ولينج ومو، وجورج ومو، وكذلك مشهد شو ووالدها في قاعة الكنيسة، فهو مشهد يجمع بين العاطفة و الحدة، عاطفة الوالد تجاه ابنته وحدة شو تجاه والدها لخيانته.
ومن الناحية البصرية، تعتبر أكثر المشاهد ألهابا للخيال، مشاهد الرائد لي، وهو وحده بوجهه المرهق المليء بالغبار والعرق ممتزجان بدماء زملاءه من الجنود، وهى مشاهد تحوي ضمنيا اعترافا بالجميل لجنود الوطن.
ويلتصق بالذاكرة المشهد المتألق للعاهرات، وهن متنكرات على شكل فتيات، يسرن في طابور كأنهن يقادن إلى المذبح، ثم يركبن اللوري الياباني متجهات إلى مصيرهن الذي ظل مجهولا لنا. هذه المسيرة القصيرة الكئيبة التي غلفها الدخان، والتقطت من عدة زوايا، تتميز بالشجاعة والنبل الإنساني، فالزهور الثلاثة عشر تسير باتجاه الخطر لمنح الحياة للبراعم الصغيرة، إنها مسيرة تذكرنا بأفلام عظيمة تمجد الحرية، والشجاعة، والتضحية من أجل إنقاذ الحياة، وتكشف عن القوة التي منحت للإنسان، وتسمح له بالنضال من أجل تغير الظروف السيئة التي فرضت عليه.