“زرافاضة”.. ميلودراميا سياسية فاترة
من بين خمسة عشر فيلما تتنافس على جوائز مسابقة “آفاق جديدة” ضمن فعاليات الدورة السابعة لمهرجان ابو ظبي السينمائي(24 أكتوبر- 2 نوفمبر) يشارك المخرج الفلسطيني الشاب راني مصالحة بفيلمه الأول “زرافاضة” من بطولة صالح بكري والفرنسية لور ديكليرمو والمغربي رشدي زم والممثل الفلسطيني الكبير محمد بكري.
تضم مسابقة آفاق جديدة هذا العام إلى جانب “زرافاضة” ثلاثة أفلام عربية هي “فيلا69″ من مصر للمخرجة آيتين أمين و”بستاردو” من تونس للمخرج نجيب بلقاضي، و”قبل سقوط الثلج” للمخرج هشام زمان من كردستان العراق.
إلى جانب أفلام”احبني” من النرويج للمخرجة هانة ميرين و”اسمي همممم” من فرنسا لأنييس تروبليه، و”بل”من بريطانيا إخراج اما اسانتي، و”بوتوسي”من المكسيك للمخرج الفريدو كاسترويتا، و”حياة ساكنة”وهو ايطالي بريطاني مشترك للمخرج أوبيرتو بازوليني، و”سالفو” وهو ايضا ايطالي من إخراج فابيو غراسادونيا وانكوينو بياديس، و”الشبيه” من بريطانيا إخراج ريتشارد ايودا، ومن استراليا “الظلة” للمخرج ارون ويلسون، ومن الهند “قصة” للمخرج أنوب سينغ، ومن أمريكا”مصطلح مختصر 12″ للمخرج دستن دانيل كريتن وأخيرا من جوريجيا” مواعيد عشوائية” للمخرج ليفان كوغواشفيلي.
يلاحظ بالطبع أن المسابقة تغطى قارات العالم الست، أي أنها تمثل بالفعل اطلالة واسعة على الأفاق السينمائية الجديدة التي يقدمها المخرجون الشباب من كل العالم، كذلك ثمة حضور بريطاني وايطالي وفرنسي واضح سواء عبر الأعمال الخالصة الانتاج أو اعمال الانتاج المشترك، وفيلم”زرافاضة” نفسه إنتاج فرنسي ايطالي ألماني مشترك وقد صور ما بين فلسطين وألمانيا.
أزمة النوع
ما هو النوع الذي ينتمي إليه هذا الفيلم؟ أو لنكن أكثر بساطة ما هي ملامح المعالجة التي قدمها المخرج لتلك الواقعة الحقيقية؟
في عام 2002 أغارت الطائرات الإسرائيلية على مدينة قلقيلية بالضفة الغربية، واثناء الغارة قتلت بعض حيوانات حديقة الحيوان الوحيدة المتبقية في المحافظة الفلسطينية، ومن هذه الواقعة استلهم المخرج الشاب تفاصيل فيلمه الأول، ولكنها كما نرى واقعة يمكن تناولها من عشرات الزاويا وبأنواع درامية شتى فما الذي أختاره المخرج؟
اختار المخرج مصالحة معالجة ميلودرامية بسيطة افقدت الحدث الكثير من بريقه الإنساني والسياسي على حد سواء، سيناريو خافير نيمو لم يتمكن من صياغة تلك البساطة الآسرة للواقعة، وفضل أن يلتزم بالميلودراما التي لم تفرز الكثير من اللحظات القوية أو الخاصة عبر تفاصيل القصة أو السرد.
نحن أمام الطفل زياد أحمد بياطرة ذو العشر سنين، العاشق للطبيعة والحيوانات ابن الطبيب البيطري ياسين (صالح البكري) الذي يعمل بالحديقة ويبدو كنموذج تقليدي للطبيب الذي يعاني من فساد الذمم وآليات البيروقراطية العقيمة في ظل سلطة وطنية لديها مشكلات أكبر من إسهال القردة وموت الزرافات في القصف.
الفيلم الجيد يمكن أن تبرز قيمته من المشهد الأول وفي المشهد الأول للفيلم نرى معلمة زياد في المدرسة تسأله عن علاقاته بالزرافات فيقول لها وصف شعري ركيك من مخيلته الطفولية ولكن اصدقائه يتهمونه بالكذب وينعتونه به في صفاقة ومباشرة تبدو غير فنية وركيكة.
بعدها تتكرر مشاهد علاقة زياد بالطبيعية والحيوانات في الحديقة أمام الجدار العازل بينما تتقاطع مع مشاهد شكوى أبيه لمدير الحديقة من انتهاء صلاحية الأدوية في حين أن كل ما يهم المدير هو التحضير لحفل عيد ميلاده.
يبدو السرد هنا شديد الآلية وبلا عمق أو دلالات أكثر من مجرد عرض الشخصيات والتمهيد للأحداث، حتى على المستوى الإخراجي يستعمل راني لقطات عادية بلا زوايا معبرة أو تكوينات خاصة تفيد علاقة الطفل بالحيوانات أو بالطبيعية بل إنه عندما يريد أن يبرز فكرة كونه غير بقية الأطفال في سنه يأتي ببعض الأطفال ليتحرشوا به بلا سبب ونجده يقاوم ويخرج لهم سكينا ويرهبهم به وهو أحد اكثر المشاهد ركاكة وضعفا في تقديم شخصية رئيسية كالطفل وطبيعة مشاعره المرهفة وعلاقته بمن حوله.
كذلك مشهد تقديم شخصية المراسلة الصحفية الفرنسية التي سوف تصبح رفيقة رحلتهم خلال عملية الحصول على ذكر للزرافة ريتا من داخل تل أبيب بعد مقتل ذكرها في الغارة الأسرائيلية، نفس التقديمة التقليدية لكل شخصيات الأجانب في الأفلام الفلسطيينية أو العربية المحايدة والسطحية، حيث نراها ترتدي جاكيت الصحافة وتحاول ان تصور المواجهات بين الفلسطينين والإسرائيليين والتي لا ندري أين تحدث تحديدا ونحن نتحدث عن منطقة واقعة تحت السلطة الوطنية، ثم تصاب المراسلة وتنقل إلى حديقة الحيوان كي تعالج، فتتعرف بالصدفة هناك على الطبيب الشاب وابنه وتتعاطف معهم سريعا وتؤكد على انحيازها للقضية هكذا، بل وتوافق على المشاركة في المغامرة بعد قليل من التفكير رغم خطورة الرحلة، هذا الأستسهال والقفز السردي يجعل المشاهد غير مشبعة أو ايهاميه بالقدر الكافي بل يصب مرة أخرى في خانة الميلودراما التي تتخذ فيها الشخصيات قرارات سريعة بناء على انفعالات سطحية واحتكاكات بسيطة تشبوها العواطف أو الرغبات الطارئة.
يكفي مشهد الغارة حين يجلس الطفل خائفا في المخبأ بينما يذهب ابوه كي يطمئن على الزرافات فتقترب منه المراسلة وتقول له بعربية مكسرة”انا صاخبتك” اي انا صديقتك في محاولة لتطمينه فيتحول المشهد من تراجيديا انفعالية إلى فارس أسود نتيجة نطقها العربية بركاكة وعدم اختيار الفعل الدرامي المطلوب تحديدا لتوصيل الشعور، وكان يكفي ان تحتضنه أو تربت عليه كي يكتمل المعنى أو نشعر بالصلة التي تنشأ بينهم وبالتالي يمكن أن نقتنع فيما بعد بموافقتها على الرحلة.
أفسد السيناريو هذه الصلة- بين المراسلة والطفل- تماما ولم يركز عليها وحول المسألة بين الطبيب والمراسلة إلى مناوشات عاطفية ضعيفة عبر تعليقات الطفل الذي لاحظ قرب المراسلة من الأب بينما كان من الممكن أن تتغير دفة الانفعالات والشعور تماما لو ان السيناريو والمخرج ركزوا على علاقة المراسلة بالطفل واقتناعها بنبل قضيته.
نحن لا نفرض هنا وجهة نظرنا على الفيلم ولكن ثمة مشاعر يرصدها المتلقي خلال العلاقات ويرغب بشدة أن يطورها السيناريو والإخراج كي تثير انفعالاته وتقنع عقله اما التعامل بأستسهال أو مرور الكرام على نقاط تماس قوية ومؤثرة بين الشخصيات فهو ما يستفز المتفرج سواء كان متخصصا او لا ويجعله يشعر بفتور وتنقطع تدريجيا صلته الوجدانية مع العمل وتفاصيله.
زرافة اسرائيل
يحاول السيناريو أن يعمق دلالات القصة عبر الأحالة إلى موتيفات تراثية مثل قصة سفينة نوح التي يحكيها الأب لأبنه في أحد المشاهد، ويربطها في النهاية بمشهد الزرافة التي يسرقها الأب من تل أبيب ويأتي بها سيرا على الأقدام لتعبر الجدار العازل وتدخل إلى قلقيلية في تشبيه استعاري كي يكتمل الذكر والأنثى وكأن بقعة الارض الطافية وسط الحزام الأسمنتي العازل اقرب لسفينة نوح التي يجب على الفلسطينين التشبث بها لحين انتهاء الطوفان.
بالطبع لم يؤد هذا الربط إلى تعميق القصة بشكل كبير نظرا لأنه سطحي ومفتعل، كما أن صناع الفيلم لم يؤسسوا له بالقدر الكافي خاصة أن الزرافة ريتا كانت حامل بالفعل قبل مجئ الذكر روميو من تل ابيب أي أن المستقبل كان حاضرا في رحمها بعد وفاة ذكرها الأثير، وبالتالي اصبح احضار روميو مجرد علاج “نفسي” أو عاطفي للزرافة الأنثى كي تأكل وتهتم بنفسها اثناء فترة الحمل وهو ايضا تصور ميلودرامي بل لو ان الزرافة حملت من روميو بعد احضاره في النهاية لأصبحنا أمام نتيجة وجودية جيدة وهو انه رغم الدمار والموت إلا أن اجتماع ذكر وانثى كفيل بأن تستمر الحياة داخل هذه الأرض المحتلة.
هل يبدو وكأن المخرج خشي أن يفسر الأمر سياسيا؟ رزافة من اسرئيل تلقح انثى من فلسطين.. في هذه الحالة لم يكن عليه إذن أن يذهب إلى تل ابيب لأحضارها وبالتالي يفتح على نفسه باب التأويل السياسي للحدث والتساؤل حول(هل ضاقت بك الأرض حتى تذهب إلى تل أبيب لتحضر زرافة!!).
في الحقيقة فإن التأويل السياسي لفكرة الزرافة القادمة من إسرائيل هو تأويل محدود الأفق لأن الطبيب لديه صديق اسرائيلي بالفعل يتمكن من تسهيل عملية السرقة وتوفير وسيلة نقل كما أن الرزافة ليست زرافة اسرائيل ولكنها زرافة الرب اي كائن حي بلا جنسية ولا هوية، صحيح أن الطبيب كان يمكن أن يطلب زرافة من عمان وهي ايضا قريبة ولكن صانع الفيلم اختار ان يأتي بالزرافة من نفس الأرض حتى ولو محتلة، ولا ننسى أنه اختار الميلودراما أطارا له والميلودراما تحتم عليه أن يأتي بالزرافة من اسرائيل وليس من أي مكان أخر كي تكتمل الصورة الانفعالية والعاطفية.
زرافة + انتفاضة
لم نشأ أن نشير إلى طبيعة عنوان الفيلم الغريب من البداية، زرافاضة هو نحت لغوي من كلمتين زرافة وانتفاضة، وفي الحقيقة فأننا لا نرى أي انتفاضة حقيقة أو معنوية داخل الفيلم، بأستثناء مشهدين يتيمين أحدهم للمراسلة كما ذكرنا والأخر لزياد اثناء قذفه للأسرائيلين بالحجارة بعد غضبه من مقتل زرافته الأثيرة في الغارة، هذا المشهد على ما يبدو هو ما يجبر الأب على ان يخوض مغامرة سرقة الزرافة من تل أبيب او دعنا نقول احضارها، أنه يريد أن يحمي ابنه من المواجهات ويطمئن مشاعره ويهدئ باله ولكنه في المقابل يقرر خوض مغامرة قد تودي بحياته وحياة أبنه الذي يصر على اصطحابه في تلك المغامرة المحفوفة بالمخاطر داخل تل ابيب دون مبرر كاف أيضا.
بالمناسبة كان هذا السياق يحتاج إلى تأسيس اقوى من مجرد وجود الطفل في الرحلة بل اننا لم نشاهده حتى وهو يطلب من ابيه او يرجوه بل أن الأب يصطحبه بشكل عادي ودون خوض انفعالي في مناقشة المسألة او ايجاد توازن منطقي لفعل الأصطحاب.
نعود إلى العنوان: ربما تصور المخرج أن سرقة زرافة من تل ابيب واحضارها إلى قلقيلية هي انتفاضة البطل الخاصة أو معجزته كما يقول لأبنه قبل قرار الرحلة، وهو بالطبع تصور معنوي يناسب العنوان ولكنه ليس قويا على مستوى الدراما بالقدر الكافي خاصة لو اضفنا إليه مشاهد مثل ذهاب الأب إلى البلدية وحضوره اجتماع ساذج عن مشاكل البلدة التي تأتي في ذيل قائمتها الزرافة المريضة عاطفيا أو تهكم مدير الحديقة عليه بذكره ضعف الموارد ورحلة السفاري إلى جنوب افريقيا التي تتكلف 30 الف دولار من اجل احضار بعض الزرافات للحديقة البائسة.
نتصور أن الازمة الأساسية في هذا الفيلم هي أزمة معالجة سطحية وثقة زائدة في القصة أو الحادثة الحقيقية، رغم أنها كانت تحمل جينات قوية ومؤثرة، ربما بحكم كونه العمل الاول لمخرجه والذي كان عليه أن يفجر انفعالات ومشاعر اكثر من مجرد الحدوتة الطفولية البسيطة. ولا نتصور أن ثمة اسباب انتاجية وراء ضعف الأمكانيات الدرامية للفيلم بل أن المخرج نفسه ذكر أنه قام بتصوير مشهد دخول الزرافة سيرا عبر الجدار في ألمانيا بأستخدام تكنيك الكروما وجاء المشهد منفذا بشكل جيد وضحت فيها التقنية الاجنبية.