“زائر الفجر”.. تجليات الخوف والقهر
في صبيحة يوم الأحد 30 ديسمبر عام 1973 وصل نعش الشاب الوسيم لمسقط رأسه في مدينة ملوي بصعيد مصر تستقبله صرخات النساء العجائز المتشحات بالسواد، وبعض الأهل والأقارب البسطاء.
منذ قيام الحرب في أكتوبر، كانت القرية النائية قد ألفت تلك الصرخات الصباحية، فما أكثر الشهداء الذين عادوا مضرجين بدمائهم كان الشهيد في ذلك اليوم شهيداً من نوع أخر شهيد الحسرة والكمد ووأد الأحلام في زمن القهر والترويع وتكميم الأفكار، عاد الشاب إلى الأرض التى نبت فيها قادماً من الشمال البعيد تاركاً العاصمة بقسوتها التى لا ترحم الأبرياء.
ممدوح شكري شاب واعد في مقتبل الحلم لم يتذوق من الحياة إلا المرارة، ولم ير في قسمات البشر إلا الشجن، ولم تمر أيامه إلا في رزنامة الألم، لم يتحمل القلب الغض ضربات الظلم ونوبات الحسرة ففاضت روحه إلى بارئها بعد أن كان صاحب السبق في صنع سينما كاشفة تنطق بالتمرد على من اغتالوا جيل كادت أن تقارب أحلامه النجوم ، ولم يأخذ مخرج “زائر الفجر” بعد موته إلا حفل تأبين بسيط جمع أصدقاءه القلائل وبعضاً ممن زاملوه فى معهد السينما.
ولد ممدوح شكري في محافظة المنيا عام 1939، وتخرج في المعهد العالي للسينما قسم الإخراج وبعد تخرجه عمل ممثلا ومساعد مخرج لكل من فطين عبد الوهاب وكمال الشيخ . أخرج شكري عددا من الأفلام التسجيلة وأربعة أفلام روائية طويلة هي “وجوه الحب” (الوجه الثالث) بمشاركة مخرجين أخرين هما مدحت بكير وناجي رياض، و”أوهام الحب”، و”الوادي الأصفر”- 1970، ثم كان فيلمه الأخير “زائر الفجر” – 1973، الذى كتبه مع صديقه رفيق الصبان الذي اشترك في إنتاج الفيلم مع ماجدة الخطيب .
انتهى شكري من تصوير الفيلم بنهاية عام 1972 وعرض تجاريا في 22 يناير 1973 وسبقه عرض خاص ضم عددا من النقاد وصناع الأفلام في نادي السينما بالقاهرة وأخر في جمعية الفيلم، ليتم رفع الفيلم من دور العرض بقرار (سيادي) بعد أسبوع واحد فقط، وتبدأ المأساة التى ستجهز على شكري خلال أشهر، وكي نشعر بعمق المأساة لابد لنا أن نلقى الضوء بايجاز عن المناخ السياسي والاجتماعي لتلك الأيام الصعبة التى حاول الفيلم تعريتها وكشف مفسديها.
السينما في عهد زوار الفجر
أربع سنوات من التوهج السينمائي قبل أن يرحل صاحب “زائر الفجر” بداية من 1969 وحتى نهاية 1972، أخرج وشارك فيها بأربعة أفلام، فى هذه الفترة التى تلت النكسة تشكل وجدان ممدوح شكرى وكأى شابا مستنيرا غرست الهزيمة أنيابها فى أحلامه فأصبح شاهد عيان على عهد سقطت فيه الوعود والشعارات الرنانة التى لم تبارح مكانها على الجدران، حيث خلقت الهزيمة العسكرية والمعنوية جيل كامل من المهزومين والمحبطين، عاشوا مد الحلم الثوري الناصري وآماله وطموحاته، وتلاشت كل تلك الأحلام والآمال مع الهزيمة الكبرى التي تجرعها هذا الجيل.
كانت الهزيمة سبباً أساسياً فى إيقاظ الوعي السياسي عند مختلف طبقات الشعب، فنفض الكثيرون وعيهم من زيف الأوهام و اندلعت العديد من المظاهرات التى تسعى وراء أصحاب الهزيمة، كان أهم هذه المظاهرات ما جرى في فبراير 1968 من تظاهر لعمال حلوان لرفض الأحكام الصادرة ضد قيادات الطيران المتهمين بالمسئولية عن الهزيمة، وانتشرت المظاهرات سريعاً لتتحول لانتفاضة طلابية واسعة مما دفع النظام الناصري لإنشاء قطاع الأمن المركزي ليصبح من يومها الوسيلة الرسمية لقمع المظاهرات وردع الحركات الطلابية والعمالية، بعد أن لاحت بوادر الحركات الجماهيرية الشاملة، هنا فتحت المعتقلات أبوابها على مصراعيها، ونشطت الأجهزه الأمنية وظهر ما يسمى بزوار الفجر الذين يقتحمون البيوت قبيل الفجر وينقضون على ضحيتهم وهى في نومها، والضحايا طلاب وعمال ومعلمين وأساتذة جامعات وغيرهم، ليدخل العهد الناصري المهيمن مرحلة جديدة من القمع والترهيب المباشر بلغ فيها التجبر مداه.
لم تهدأ الحركة النضالية حتى بعد جاء (الرئيس المؤمن) أنور السادات، فعادت المظاهرات التى قادها الطلاب تندد بالشعارات والأكاذيب الجديدة التى نطق بها السادات، سواء فيما يتعلق بإدعائه معاداة الإمبريالية، أو فيما يتعلق بصبغة الديمقراطية الزائفة التي حاول تجميل صورته بها كوسيلة من وسائل مواجهة خصومه السياسيين وتصفية مراكز القوى، مما دفعه للسير على نفس النهج واعتقال قيادات الطلاب عام 1972 وسجنهم بسجن القلعة وأمتلأت المعتقلات بالورد (اللى) فتح في جناين مصر.
ومن بين تلك الورود ممدوح شكري الشاب الذى فتح الباب لسينما جديدة جريئة كسرت حاجز الخوف ونبشت خبيئة الهزيمة، لنجد بطل الفيلم يقول بعد رحلة بحثه التى لملم فيها خيوط الحقائق واتضح له عمق الفساد المستشري في أوصال المجتمع “أنا عرفت ليه احنا اتهزمنا في 67″ ليكون الفيلم رغم ذبحه بمقص الحذف في طليعة الافلام السينمائية التى انتقدت الحقبة الناصرية وفضحت أجهزتها الأمنية.
الزمان والمكان
يبدأ الفيلم أحداثه يوم الجمعة 5 يونيو 1970 ببلاغ عن موت الصحفية الشابة نادية الشريف “ماجدة الخطيب ” في شقتها بشارع التحرير، ويصل وكيل النيابة حسن الوكيل “عزت العلايلي” ليحقق في تلك الحادثة. ولنتوقف هنا وننظر لدلالة المكان والزمان. فشارع التحرير هو المؤدي لميدان التحرير مركز تجمع المظاهرات منذ أواخر العهد الناصري مرورا بمظاهرات الطلبة والعمال فى بداية السبيعنيات. أما زمان وقوع الحادثة هفو نفس يوم النكسة 5 يونيو أي بعدها بثلاثة أعوام وهذه هي الدلالة الأهم، فنحن أمام فيلم يسرد فصلا جديدا من فصول الهزيمة ويفتش عن أسباها ويرصد تداعياتها، وينتهي الفيلم بشاشة سوداء مكتوب عليها “حفظت القضية بأوامر.. 10 يونيو” وهذا التاريخ يرتبط بخطاب التنحى بعد النكسة وخروج الجماهير في 10 يونيو 67 لرفض التنحي والدعوة للحرب وبهذا التاريح أغلق النظام ملف النكسة كما حدث مع لقضية موت الصحفية وأغلقت بأوامر سيادية.
لم يكن حسن الوكيل يبحث عن قاتل الصحفية نادية الشريف فقط لكن كان يبحث ومعه صناع الفيلم عن جريمة أكبر أقترفت في حق هذا الوطن وأغرقته في مستنقع الهزيمة، هذا الوطن الذي قتل غدرا على يد شرزمة من المفسدين. حسن الوكيل الذي يؤدي دوره باقتدار الفنان”عزت العلايلى” هو شاب مصري تفتح الدنيا ذراعيها له، هو زهرة أخرى تفتحت فى حديقه الوطن لم تطالها يد المفسدين بعد، واحد كآلاف الذين تظاهروا فى التحرير بحثاً عن أسباب الهزيمة وانكسار الحلم، فاصطدموا بقسوة النظام الذي ظهرت بشاعته وسقطت عنه ورقة التوت بعد أن الذي أطلق عليهم كلابه تنهش لحمهم وتضعهم مكبلين في الزنازين.. إذن حسن الوكيل لا يحقق في قضية مقتل نادية الشريف بل يحقق في جريمة مقتل وطن.
غنوة سينمائية متمردة
نستطيع من مشاهد الفيلم أن نشم رائحة التمرد التى بذرها ممدوح شكري ورفيق الصبان على شريطهما السينمائي منذ مشاهده الأولى، فغالبيه مشاهد الفيلم لا تخلو من إسقاطات واضحة وضوح الشمس ولكن دون اقحام فج أو تنازل عن فنيات السرد في مقابل ترسيخ الفكرة التى يقوم عليها الفيلم. لم تكن الجرأة التى ملأت الحوار مغامرة صبيانية غير محسوبة بل دعوة صادقة لتعرية الواقع وكشف حساب لصناع الهزيمة وتنهيدة عميقة من صدر مكلوم وجرس انذار لعهد السادات كي لا يقدم على ارتكاب نفس الجرائم في حق أبناء وطنه، لكنه لم يلبث وخيب الآمال وصار على نفس نهج الدولة القمعية وزج بزهرة شاب مصر فى السجون.
“أنا رحت القلعه وشفت ياسين.. حوليه العسكر والزنازين.. والشوم والبوم وكلاب الروم .. ياخساره يأزهار البساتين.. عيطى يا بهيه على القوانين.. انا شفت شباب الجامعه الزين احمد و بهاء و الكردى و زين حرمنهم حتى الشوف بالعين و فى عز الضهر مغميين عيطى يا بهيه على القوانين”.
تصف بدقة هذه الأغنية التى كتبها أحمد فؤاد نجم وغناها الشيخ إمام، طبيعة المناخ السياسي لعصر ما بعد النكسة وحتى حرب اكتوبر التى كانت نهاية زخم التظاهر الشعبي الذى ما لبث وإن عاد مرة أخرى في احداث 18/19 يناير1977. كان “زائر الفجر” هو الآخر غنوة سينمائية تصف مرارة المشهد السياسيى والفساد الاجتماعي الذي وصلت له البلد.
كتب ممدوح شكري ورفيق الصبان الذى كان يُدرس مادة السيناريو بمعهد السينما سيناريو ممتعا فى قالب مشوق وسرد يزرع الأفكار ويدعها تثمر في ذهن المشاهد مستخدما الشكل البوليفوني الذي يعتمد على تعدد أصوات الراوي للتخلص من المنطور الأحادي للأحداث وليتطابق الشكل مع المضمون في إعدة بناء الحقائق ومع اختلاف الراوي يورط السيناريو المشاهد في البحث عن أوجه جديدة للحقائق مستخدما مستويات متداخلة للسرد.
ولنتأمل مثلا مشهد التحقيق مع زوج الضحية “يوسف شعبان” وفي المشهد يحكى الطبيب كيف تعرف على زوجته، ومعود في فلاش باك حيث مشهد زيارة الصحفية للطبيب في المستشفى حيث تلاحظ مدى تردي الخدمات الصحية المقدمه للناس وضرب الممرضين للمرضى لتزاحمهم أمام شباك صرف الدواء.
هنا يدخلنا السيناريو لوعي الصحفية التى تروى بدورها قصة مشابهه حكتها لها أمها عن زيارة الملك فؤاد السنوية للمنيا حيث كان يأخذ مطرب أو مطربة معه و يقيم الولائم والحفلات فيتجمع الفقراء كي ينوبهم قطعه لحم أو عظمة فما كان من عساكر الملك إلا ضرب الناس لتفريقهم .
هذا التداعى والسرد المركب الذكي أوصل الخطوط الزمنية ببعضها ليصف معاناة المصريين وقهرهم سواء قبل أوبعد الثورة. ويلتقى هذا مع تاريخ الصحفية النضالى التي اعتقلت وعُذبت قبل الثورة ولم يتلاشى خوفها من الاعتقال والتكنيل بعد قيام الثورة فالسياسة القمعية لم تتغير بل زاد تغول وتوحش الأجهزة الأمنية خصوصا بعد النكسة حتى ماتت نادية الشريف بنوبة خوف وهي تنتظر زوار الفجر؟
احتوى حوار الفيلم على جمل جريئة جاءت على لسان الأبطال مثل “البلد دى ريحتها فاحت ولازم تتحرق زى صفيحة الزبالة “، “مين عنده السلطه يحط اللى يستاهلوا في السجن”. كما نوه الفيلم باقتران الانحراف الأخلاقي بالفساد السياسي من خلال شخصية نانا “تحية كاريوكا” التى تدير شبكة دعارة وبعد القبض عليها متلبسة يفرج عنها لصلاتها القوية بأصحاب السلطة والغريب أن تحدث هذه القصة في الواقع وبعد عرض الفيلم الأول بشهور وهو ما عرف بقضية الرقيق الأبيض التى تورطت فيها فنانة معروفة وبعد القبض عليها يفرج عنها أيضا لعدم كفاية الأدلة وتكتمل أركان القصة حين تنتحر هذه الفنانة بإلقاء نفسها من شرفة منزلها عام 1983.
نجح المخرج الشاب في خلق لغه سينمائية شديدة الخصوصية كانت تنبؤ بمخرج واعد أمامه مستقبل سينمائي مشرق، كان لممدوح شكري أسلوب خاص ومتفرد في تكوين الكادر وأختيار حجم اللقطات وزايا التصوير وصياغة صورة مليئة بفنيات التشكيل اللونى والضوئي. ولنا أن نتخيل لو أمهل القدر هذه الموهبة الكبيرة والطاقة الإبداعية المتوهجة في الاستمرار كيف سيكون شكل مشروعه السينمائي.
في “زائر الفجر” حافظ شكري على إيقاع مشحون بالخوف والتوتر والشك وأدار عددا كبيرا من كبار الممثلين كشكري سرحان في دور الصحفى المناضل، وماجدة الخطيب فى اهم ادوارها وتحية كاريوكا، ويوسف شعبا، وعزت العلايلى ومديحة كامل، كما قدم مجموعة من الممثلين الجدد الشاب مثل جلال عيسى وزيزي مصطفى وعايدة رياض وسعيد صالح.
قوبل الفيلم بحفاوة كبيرة واهتمام نقدي ملفت منذ أول أيام عرضه إلا أن هذا الاهتمام لفت أنظار السلطة له وبجمله الحوارية الجريئة التى جاءت فى واقع سياسي متوتر مشحون، فأمرت بمنعه من العرض، ونزل الخبر كالصاعقة على رأس مخرج الفيلم ومنتجته ماجدة الخطيب التى أنفقت كل ما تملك على الفيلم ومعها ورفيق الصبان شريكها.
ولم يقتصر الأمر على المنع فقط بل انهالت رسائل التهديد والتحذير على كل من شارك فى العمل، ولم يتحمل ممدوح شكري تلك الفاشية التى مورست على فيلمه ودخل فى حالة عميقة من الاكتئاب فأهمل في صحته حتى توفي في مستشفى الحميات بالقاهرة بعد عام من مصادرة فيلمه.
بعد حرب أكتوبر هدأ المشهد السياسي، وبعد تدخل رئيس اتحاد الفنانين العرب سعد الدين وهبة تم السماح بغرض الفيلم بعد حذف أكثر من عشرين مشهدا يحمل نقدا صريحا للسلطة وللأجهزة الأمنية. وعرض الفيلم منقوصا كالمولود المشوه ورغم هذا نجح جماهيراً وظل لأسابيع ممتدة في صالات العرض وحقق مكاسب عوضت خسارة منتجته السابقة.
العراب
عام 1975 أخرج سعيد مرزوق فيلم “المذنبون” وفي تلك التجربة نلاحظ التأثر الشديد بتجربة ممدوح شكري وفيلمه “زائر الفجر” من حيث القصة والشكل والمضمون لتكنيك المعالجة أيضا، فهو يسير في نفس الاتجاه الذى يعري الفساد ويفضح الانحلال، إلا أن الفيلم لاقى نفس المصير وتم منع عرضة ليس هذا فقط بل أحيلت مديرة الرقابة في ذلك الوقت اعتدال ممتاز وعشرة موظفين معها الى المحاكمة التأديبية بأمر من الرئيس انور السادات لموافقتهم واجازتهم عرض الفيلم، بعدها أصدر وزير الثقافة والإعلام جمال العطيفي قراره الشهير رقم 220 لسنة 1976 بشأن تشديد القواعد الأساسية للرقابة على المصنفات الفنية وهو القرار الذي اعتبره السينمائيون جريمة في حق صناعة السينما كونه يؤثر وبشدة على حرية التعبير في السينما المصرية (منذ متى وكانت هناك حرية تعبير يا صناع السينما!؟).
ولكن يظل سؤال يتردد لماذا لم يواجه فيلم مثل “الكرنك” لعلى بدرخان أو “وراء الشمس” لمحمد راضى أو “إحنا بتوع الاتوبيس “لحسين كمال، تلك المواجه الشرسة من السلطة، رغم أن تلك الأفلام جاءت على نفس المنوال. في تقديري أن نظام السادات غير بوصله تفكيره وأراد توظيف هذه الافلام في إدانة رجال العهد الناصري (مراكز القوة دون المساس المباشر بشخص عبد الناصر، فلا ضير من عرض هذه الأفلام بعد تقليم أظافرها طالما أنها تصب فى فكرة أراد السادات استغلالها سياسياً وهي أن عهد الحريات قد بدأ منذ التخلص من مراكز القوى في مايو 1971 وهذا ما جاء تحديدا بشكل صريح فى فيلم “الكرنك”.
في النهاية رغم العمر الفني القصير لممدوح شكري ورحيلة المبكر إلا أن فيلمه الهام كان فيلماً طليعياً غير بوصلة سينما السبعينات، وفتح الطريق أمام مخرجين أخرين أدركوا أن الإبداع أبقى من السلطة وأن الحقائق مهما غابت ستظهر يوما ما جلية.