“رقصة القصبة”…ابتسامات ودموع وأشياء أخرى

“وفى الظلام لم نعد نميز الحقيقة من الخيال”…

هذه هى الجملة الأقرب التى يمكنها أن تُعبر عن أحداث هذا الفيلم، الذى يزيح الستار عن أحداث مكثفة تتوالى فى ثلاثة أيام، حينما تعود أسرة مغربية للإجتماع فى منزل العائلة، بعدما يتوفى ربها المهيب مولاى حسن أو “عمر الشريف”.

هذه المعالجة التى تبدو هزلية برغم جديتها، لامنطقية مع كل فعليتها، وحُرة بكل سردها عن معنى القيود، لن يُقلل من شأنها أبدا، إن كانت المخرجة ليلي مراكشى، قد أشارت أنها استوحتها من الدراما المسرحية “August: Osage county”  للكاتبة Tracy Letts، والتى تم تحويلها لفيلم سينمائى أمريكى بطولة جوليا روبرتس وميريل استريب عام 2013. فالفكرة تتقارب حد الموت، ولا يمكن اعتبار ذلك مجرد توارد خواطر برىء، وخصوصا مع انكشاف بعض المفاجآت فى نهاية الفيلمين، من حيث الطبيعة، وشكل المعرفة والمواجهة.

معالجة مراكشى معالجة قوية، متماسكة، تثير الحماسة والإعجاب. كما أنها عملت بجهد لتتملص من البناء الأساسى للمسرحية الأمريكية، كما لو أنها تفوقت عليها فى بعض الأحيان. ولن يعيبها التصريح بهذا الإقتباس الصحيح المعافى، الذى يعتبر من النماذج الإيجابية للعمل على خلق حالة خاصة مستقلة، من فكرة انسانية فى مقامها الأول، فيها من الغواية ما يدفع أى مبدع بأن ينهل منها، دون فارق ما بين الإقتباس والنقل بالمسطرة.

السيناريو

هذا السيناريو من السيناريوهات الدسمة، المكتنزة على عدة مستويات، سواء على مستوى الشخصيات، أو بنية العلاقات، وهذا مفروغ منه. أو من منطلق يخصها هى وحدها، حيث شكل السرد، والإبتكار فى طرح نوع من البراح فى التعامل مع صياغة الحدث. فظهور مولاى حسن، يقص، ويروى، ويعلق على المواقف، لم يكن حتى بالطريقة المألوفة التى طُرحت من قبل بخصوص تفصيلة مماثلة. بينما كسر حاجز المنطق، حينما تبدى للولد الصغير، أصغر أحفاده والذى لم يكن قد رآه ولو مرة قبل وفاته. ليظل ملاكه الحارس، فى بلده الغريبة (المغرب) وهو الذى قد نشأ فى أمريكا، ولم يفقه التحدث بالعربية، بينما يفارقه فى آخر مشاهد الفيلم، ولا يعود للظهور مرة أخرى. فى موضع ملتبس مثل هذا لا يسعنا سوى أن نتذكر جملة الجد فى بداية الفيلم “وفى الظلام، لم نعد نميز الحقيقة من الخيال”.

الشخصيات

من أدق الشخصيات، شخصية مريم (نادين لبكى) وهى السيدة الجميلة التى لم تتمكن من الخروج بفتنتها خارج حدود نفسها، فلا تزال حبيسة داخلها، وبين جدران المغرب، تعنت أسرتها، وسلبية زوجها، لتتحول إلى إمرأة مزاجية عصبية، حقودة فى بعض الأحيان، ومدمنة الهروب فى غيبوبة الكحول والمهدئات وإجراء عمليات التجميل. ولكنها وبرغم كل هذا الشتات، لاتزال مُحتفظة بأنوثتها، بعض من الدلال والرائقية، والطاقة الإيجابية. فهى من دون أختيها، من تبث روح البهجة والعبث فى جلساتهن، أو ثرثراتهن معا. تشاكسهن وفى قلب كل تصرفاتها نوع من النقاء، الذى لم تُدنسه خيبات الأمل. إخيتار نادين لبكى للقيام بهذا الدور، كان الأكثر توفيقا، فهى وحدها القادرة على تجسيد كل هذا المشاعر المختلطة جماعا.

شخصية صوفيا (مرجانة علوى)، هى الشخصية التى تحمل على عاتقها نصف دراما الفيلم، تُحرك الحدث وتدفعه بأن ينكشف رويدا رويدا. تركيبة قوية جدا من الإرتباك، تتعلق بشبح وفاة أختها المقربة فى وقت مضى، فهى تورث نفس صفات أختها ليلى المتمردة، ولكنها أقل جرأة، وأكثر حيرة. تمتلأ خوفا، وتشعه بصورة مريعة على من حولها. تصرخ طوال الوقت بداع أو بدون داع، لتفيد بكونها الأكثر عقلانية ومنطقا بين أفراد أسرتها. جمالها كله كشخصية ينبع من تردد المُشاهد حيالها، وعدم تحديد مشاعره نحوها، هل هى شفقة، إعجاب، تصديق أو تكذيب. صوفيا، تحوى شقين بارزين من القوة والضعف، على حوافه تتعرى بقية مواقف وشخصيات السيناريو.

شخصية كِنزة (لبنى آزابال)، هى الشخصية الأكثر سطحية وسذاجة بالفيلم، فتزمتها وتحفظها  المُعلن عنه طوال الوقت فى صراحة غريبة، بدا مصطنعا، ولم تعدو كونها مجرد شخصية مكتوبة على الورق لسيناريو فيلم، فقد افتقدت حيوية وطبيعية ومتاهية الشخصيات الأخرى من حولها. فلم تكن مقنعة بكل بساطة.

عايشة (هيام عباس)، الأم التى قبلت أن تشارك حبيبة زوجها نفس البيت حتى وفاته، ويسعها أيضا أن تُبقى على استضافتها من بعدها. إنها الأم التى تفعل كل شىء كما يجب أن يكون، تحرص على إجتماع الأسرة، فلا تثير أى مشاكل عندما تعلم بخيانة زوجها، بينما تبتلعها من غير شربة مياه فى طمأنينة، وتُكمل المسير. وتوافق على إجهاض ابنتها وتعريض حياتها لخطر يؤدى لمغادرتها الحياة، طمعا فى تورية الفضيحة، بعدما نامت الإبنة مع أخيها على غير علم، وأراد الأب أن يغسل عار إندفعاته، فأرسل الفتاة للإجهاض لتموت هناك على مبعدة. وحينما يموت الأب ذاته، تحرص إمرأته هذه، على أمر ابنتها القادمة من أمريكا، بأن تنزع طلاء أظافرها وتلبس الحُلة المغربية. كما توصى خادمها أن يحضر لها عسلا نقيا للجنازة، وأن يبتعد عن ابتياع الأنواع الرديئة المهربة. كل شىء لدى عائشة لابد أن يكون كما من المفترض أن يكون.

شخصية الأب مولاى حسن، شخصية شديدة الغموض. تتضارب طلتها ما بين فصول السرد، مع حديث الآخرين عنها. لدرجة تُشعرك أن ما يلوكونه عنه غير حقيقى، تلك النزعة فى السيطرة، التجبر، والأنانية، كلها سمات يمكن أن تستخلصها من سرد الفتيات وأمهم، وحكاية ليلى وزكريا أخوها.  كلها مضامين تُصور لنا شخصية حسن بصورة متمادية القبح. ولكن جميل ذلك التناقض الذى بدا عليه شبح هذا الرجل المسن المنبوذ، وهو ينطلق بحرية وعفوية، ويعامل حفيده بحنو. يتشبث بسيجاره فى بهوية، ويتفوه بكلام مريح يدعو على التفكر، وكأنه ارتفع عن هيئته الأرضية، والتحف لتوه بشفافية سماويه، نقحته وتركت لنا منه رغبته فى السعادة والتأمل.

العلاقات

علاقة مريم بزوجها، علاقة لم تأخذ حيزها من السرد، فقط بعض الرتوش المفيدة والموجزة، والتى أعطت ملامح كافية عن شكل التعامل فيما بينهما. والأهم من هذا، الشغف المتوارى الذى يحمله كل منهما للآخر، بنسبة متفاوتة. ففى مشهد ما، تقوم مريم بإستفزاز زوجها، لتثير غيرته وتسترق نظره خبيثة صوبه لتراقب ردة فعله. بينما هو يسعى لدعمها طوال أحداث الفيلم، راكضا وراء حضورها كالظل قليل الحيلة الذى لا يقوى على مفارقة صاحبه، إنها علاقة بائسة ولكن لها سحرها.

علاقة الأخوات الثلاث، تبدو متوترة محفوفة بالكره والحقد، ولكنها فى حقيقة الأمر علاقة وثيقة للغاية، ففى أول مشهد يجتمعن فيه، تبدت بعض الإدعاءات السريعة بالغيرة وعدم القبول، ولكنها سرعان ما تلاشت فى حضور الطبيب المعالج لمريم. يتغير الموقف للنقيض، وتبوح مريم فى تلقائية لأختيها عن إعجابها بالطبيب، ومن ثم تسألها صوفيا فى حنو عن عمليتها الجراحية، ويغرقن فى الضحكات. وكأن شيئا لم يكن منذ دقائق. ومشهد شبيه آخر، يتشاجرون فيه بعنف على طاولة العزاء، ومن ثم تتحدث صوفيا مع مريم حديثا حميميا وقريب فى نفس الليلة.

ما حدث بين زكريا وصوفيا، نتيجة منطقية، ومُعدة سلفا على نار هادئة من التفاصيل المسرودة بدقة. فشخصيتان بهذه الظروف لابد وأن تغالبهما مشاعر شبيهة لما راودتهما، متخمة بالشطط والزيف.

أدوات السرد

على الرغم من أن الكلمات التى يرويها الأب تبدو غرائبية ومُلتبسة فى بعض الأحيان، إلا أنها فى موارباتها، منحت الفيلم طابعا مترويا. يتوقف عنده كل شىء فى هذه اللحظات، لتسترد الأماكن والشخوص والمواقف أنفاسها، وتعكس تعقيداتها واشتباكاتها بمنظور روحانى راقى وعذب. إن كلمات مولاى حسن من صياغات السرد الموفقة جدا بالسيناريو.

أداة أخرى برزت بقوة فى السرد، وهى التعمد فى تعتيم أسرار الحكايات القديمة، مع الخوض فى تبعاتها، فمثلا، عائشة تنهر ياقوت وتتهمها بأنها سبب ضغطها العصبى، وتأمرها بترك المنزل بعد الجنازة مباشرة، دون أن يعى المتفرج سبب ذلك إلا فى نهاية الفيلم. مشهد آخر، تصعد فيه صوفيا إلى حجرة أبيها، وتقرأ عليه خطاب أختها المنتحرة، والتى لا يعلم عنها المتفرج أى شىء بعد. ولكن الصدمة التى يشعر بها، إزاء طاقة الغل المشحونة داخل صدر صوفيا نحو أبيها، كفيلة بأن تحقق سببا للمتعة والشغف فى المتابعة.

تقسيم الفيلم إلى فصول ثلاثة، حسب عدد الأيام، أعطى المتفرج مساحة مهمة لإدراك الزمن، وفى الوقت ذاته، ساهم فى توريطه داخل ما يحدث.

عن بعض حكى الصورة

مشهد البداية، المشهد الذى تظهر فيه الشجرة الكبيرة فى كادر واسع، هو الكادر ذاته الذى ينتهى عليه الفيلم بشكل رمزي، يمكن فهمه بأكثر من دلالة، أهمها شكل العائلة الذى ظل متماسكا فى النهاية رغم كل الشروخ.

حركة الكاميرا الفوقية البديعة، فى المشهد الذى يصطف فيه الفتيات على الفراش، ويتسائلن حول إمكانية مراقبة والدهن وأختهن المتوفين لهن من العالم الآخر.، حيث تنتقل الكاميرا بهدوء فيما بينهن بنظرة علوية موحية.

آخر كلمتين

رغم أن المشاجرات فيما بين العائلة بأكملها، تحمل وجها من وجوه الإفتعال إلا أن تنفيذها بدا مُلهما ومقنعا .

شخصية الجدة من الشخصيات الجميلة، التى منحت الفيلم لحظات من الراحة وخفة الدم.

Visited 28 times, 1 visit(s) today