رفيق الصبّان.. الرجل الذى فتح لنا نوافذ النور
بالنسبة الى جيلى، الذى بدأ يشاهد السينما العالمية، وفقاً لبرامج مدروسة، فإن الناقد الراحل الكبير رفيق الصبّان، كان نافذتنا الكبرى على الفن السابع، ذلك الرجل المؤسسة، الذى لا يسعده أكثر من أن ينقل سعادته بالأفلام التى أعجبته الى الآخرين، لم يتردد أبداً فى نشر الثقافة السينمائية، وتعظيم أعداد عشاقها، ومناقشتهم بلاتململ أو ضيق، مهما اختلفوا معه فى الرأى أو الرؤية.
قبل هذه المشاهدة المنهجية التى وفّرها لنا رفيق الصبان، وزميله الناقد الكبير مصطفى دوريش (متّعه الله بالصحة والعافية)، كنا نمتلك ثقافة نظرية واسعة مصدرها القراءة عن الأفلام وليس مشاهدتها، حفظنا تتابعات المشاهد فى أفلام عظيمة من خلال مجلدات نشرة نادى السينما التى حصلنا عليها من سور الأزبكية (مكان بيع الكتب القديمة فى القاهرة)، كانت النشرات تقدم تفاصيل الفيلم قبل نقده وتحليله.
رأينا عشرات الأفلام العالمية بعين الخيال من خلال كتب الناقد الكبير رؤوف توفيق الذى حرص على المتابعة السنوية لأفلام مهرجان كان، وحفظتُ شخصياً بعض مشاهد السيناريوهات المترجمة للأفلام الكبرى من خلال الحصول على الأعداد القديمة لمجلة “السينما” التى لم تستمر، وكان يرأس تحريرها الراحل الكبير سعد الدين وهبة.
برامج مدروسة
بالطبع شاهدنا أيضاً عشرات الأفلام العالمية قبل تجربة نوادى السينما ببرامج رفيق الصبان ومصطفى درويش المدروسة، تابعنا برنامجى نادى السينما وأوسكار فى التليفزيون المصرى، وكان الناقدان الكبيران من ضيوف حلقاته الكثيرة، وحرصنا على متابعة ما تيسر من أفلام دورات مهرجان القاهرة السينمائى منذ منتصف الثمانينات، ولم تكن تفوتنا عروض نادى السينما بأتيليه القاهرة، أو جمعية نقاد السينما، أو فى المراكز الثقافية المتنوعة من المركز الروسى والفرنسى والتشيكى، وانتهاء بالمركز الأسبانى والألمانى والمجرى .. إلخ.
ولكن التأثير الأهم والأكبر جاء من برنامج مصطفى درويش فى المركز الثقافى الإيطالى، وبرنامجى رفيق الصبان فى قصر السينما، وفى المركز الإيطالى معاً، لا أتحدث فقط عن توفير الناقدين لأفلام نادرة من مكتبتهما الخاصة (كنا مازلنا فى عصر شرائط الفيديو فى نهاية الثمانينات وبداية التسعينات)، وإنما أتحدث عن فكرة البرمجة الممنهجة التى تعطى هواة السينما، ما يعادل استعراضا شاملاَ لتاريخ السينما، وكأننا بالضبط نختزل أعظم الأفلام وأحدثها معاً فى كورس مكثف، ضمن عروض أكبر سينماتيك مصرى وعالمى، حالة ثقافية وسينمائية نادرة، ودون أى مقابل.
أعظم ما فى هذه البرمجة أنها سارت وفقاً لمبدأ اعتبارأن تاريخ السينما ما هو فى الحقيقة إلا تاريخ مخرجيها الكبار، لولا الراحل الكبير رفيق الصبان لتأخرت لجيلى كثيراً فرصة مشاهدة روائع كبار مخرجى الفن السابع، ومناقشة أعمالهم مناقشة مستفيضة، كنا مشاهدين مناكفين لا نترك تفصيلة دون سؤال وجدل، ولم يكن لدى الصبان أى مانع فى أن ينسى الوقت، وهو يدافع عن حماسه لهذا الفيلم أو ذاك، بل إنه كان سعيداً بهؤلاء “الغلباوية” الذين لا يوافقونه الرأى، وإن كانوا يحتفظون له بالإحترام والعرفان.
مدرسة الهواء الطلق
كنا أشبه ما نكون فى معهد مفتوح للتذوق الفنى والسينمائى، يقدم الصبان الفيلم وكأنه يلقى قصيدة شعرية أو يزف عروساً، نشاهد الفيلم، ثم يبدأ النقاش الصاخب، ننطلق من السينما الى الحديث عن المسرح والفن التشكيلى والدين والسياسة والفلسفة، كنت اسميها مدرسة الهواء الطلق، التى تفرغ من داخلنا كل شحنات وطاقات حب الفن وحب الحياة، واحة عظيمة نستظل فيها بعيداً عن زمن فقير، امتزج فيه الإستبداد السياسى بالتطرف الدينى بالتعصب الأعمى، وتحالف فيه ضيق الأفق مع الجهل النشيط والأحمق.
فى كل برنامج، وعلى مدى سنوات طويلة، كان الصبان يحرص على تقديم أهم أفلام المهرجانات الكبرى جنباً الى جنب مع كلاسيكيات الأبيض والأسود، ومع روائع مخرجى الأفلام العالمية، كان عاشقاً بشكل خاص لمخرجى السينما الإيطالية مثل فيللينى وبازولينى وأنطونيونى وفيسكونتى، ولكنه لم ينس ايضا كيروساوا وبيرجمان وكوبريك وإيزنشتين وديفيد لين وديفيد جريفيث.
لقطة من فيلم “الطبلة الصفيح” لشلوندورف
مع رفيق الصبان، الرجل المؤسسة، كان يمكن أن يبدأ الحديث عن فيلم كاجيموشا، وينطلق الكلام الى الحرب الأهلية الإسبانية، لننتهى الى الشاعرين لوركا ورامبو وشخصية المسيح فى السينما، مع هذا الناقد الكبير يمكن أن تشاهد ضمن دورة واحدة فى قصر السينما بجاردن سيتى أفلاماً: مثل ران (كيروساوا) وحقول القتل (رولان جوفيه) وكل هذا الجاز (بوب فوس) وأوديسا الفضاء 2001 (ستانلى كوبريك) والبارجة بوتمكين (سيرجى إيزنشتين) والطبلة الصفيح (فولكر شولندورف) والوصايا العشر (سيسيل دى ميل) وسحر البرجوازية الخفى (لويس بونويل) وألف ليلة وليلة (بيير باولو بازولينى) ومتروبوليس (فريتز لانج)، ووسط العروض يسألنا بأريحية، وبلهجته الرقيقة، التى تمزج اللهجة المصرية بالشامية: “مش عايز أفرض ذوقى عليكو.. تحبوا تشوفوا أفلام أيه؟”.
من النادى الى الأوبرا
استمر الصبان يقوم بهذا الدور من نوادى السينما المختلفة الى نادى السينما فى دار الأوبرا المصرية، وفى كل مكان نذهب خلفه لأننا نجد الجديد ، حتى بعد أن تركنا مرحلة الهواية، وحتى بعد أن أصبح يطلق علينا “الزملاء النقاد”، لم يتغير أبدا هذا الرجل، كل سعادته أن تشاركه سعادته باكتشاف فيلم جميل، بهجته أن يلفت الأنظار الى مخرج موهوب قدم فيلما طويلاً أو قصيراً، وأن يعرفنا بالسينما العربية ومخرجيها الكبار.
كان رفيق الصبان يحترم أى جهد بشرى لصنع الأفلام، ويتعامل بالرفق والحب معها دون أن يغفل اللوم والعتاب والزجر، انعكست شخصيته الرومانسية على أسلوبه الشاعرى المحلق، ورغم انتمائى الى مدرسة أخرى فى الكتابة التحليلية ذات المصطلحات المنضبطة، إلا أننى كنت دوماً من المتابعين لمقالاته حتى قبل أن أعرفه عن قرب، كنت أراه شاعراً خسره الشعر، وعندما بدأنا القراءة المنتظمة فى النقد خلال السبعينات، كان الصبان بالتأكيد أحد نجوم هذه الفترة، جنبا الى جنب مع أحمد صالح وسمير فريد ورؤوف توفيق ومصطفى درويش وسامى السلامونى.
سمة أخرى تميّز رفيق الصبان هى الحماس الشديد للأفلام التى تلامس أوتاراً فى داخله، أذكر أنه أحضر لنا فى لجنة المشاهدة فى مهرجان القاهرة السينمائى الأخير (كان هو رئيس اللجنة) فيلما خارج برنامج المشاهدة بعنوان “رجم ثريا”، قال إنه تأثر به كثيراً، ولم يستطع النوم بعد مشاهدته، ورغم حماسه الشديد لعرضه، إلا أنه كان مصمماً على أن نشاهد الفيلم، وننضم إليه فى القتال من أجل أن يراه الناس.
وفى مرة أخرى، جاء إلينا رفيق الصبان بفيلم قال إنه أبكاه، أعاد معنا مشاهدته من جديد، وعند مشهد معين يستعيد فيه البطل ذكرياته مع رفاقه الشوعيين القدامى، استبد الشجن بالناقد الكبير، قال لنا: “إن محنة هذا الرجل الذى فقد أحلامه هى أزمة جيلى كله”.
يعتقد الكثيرون أن حماس الصبان لكثير من الأفلام هو فائض مجاملة واضحة، فيما أرجح أن تلك بعض تلك الأفلام العادية التى كان يراها غير عادية، كانت تمس أوتاراً كامنة لا نعرفها داخله، فيلتمس لصناعها بعض العذر، وقد كنت أطلب دائماً ممن يقللون من كتابات رفيق الصبان، بدعوى المجاملة أو الحماس الزائد، أن يعودوا الى دراساته العظيمة فى نشرة نادى السينما ليعرفوا قيمة ما يكتبه.
فى هذه الدراسات كان يخاطب قارئاً أقرب الى التخصص، وكانت العبارت أكثر انضباطاً، يمكن مثلاً أن تعود الى دراسته الفذّة عن فيلم “ساتيركون” لفيللينى، التى أعتبرها من أهم ما كتب تحليلاً لهذا الفيلم باللغة العربية، كان منهجه فى قراءة الفيلم/ الجحيم، هو تحليل كل شخصية من شخصياته، وربطها بالبناء والخيال عند فيللينى.
ومن أبرز ملامح مقالات رفيق الصبان النقدية السينمائية أنها تستعين بالفنون الأخرى لإلقاء الضوء على الأفلام، يمكنه مثلاً أن يقارن فيلماً لفاسبندر بمقطوعة لفاجنر أو جوستاف ماهلر، وأن يتحدث عن حركة السرد فى فيلم ما مقارناً إياها بخطوات رقصة الفالس، يقول لك مثلاً إننى أعتبر المخرج الفلانى شكسبير السينما، هذه الطريقة فى التقييم، سواء اتفقت أم اختلفت معها، تفتح أمام المشاهد أبواباً واسعة للمشاهدة، كما تمنحه فضولاً لاينتهى لاكتشاف الكثير من الأسماء فى فنون كثيرة، كما أنها تؤكد استحالة تذوق السينما دون القدرة على تذوق الفنون الأخرى.
مبادرات فردية
كل ما فعله هذا الناقد الكبير كان بوازع من حماسه، وبمبادرة فردية لمثقف حقيقى يؤمن بأن زكاة المعرفة ألا تبخل بها على أحد، هكذا فعل بالتدريس فى معهد السينما، وفى تأسيس نوادى الأفلام، وفى الكتابة والتأليف، ولكنى كنت أتمنى أن تسند الى هذا الناقد الكبير (وغيره من المثقفين)، مهمة وضع برامج لتعليم التذوق الفنى والسينمائى فى المدارس والجامعات، كنت أتمنى أن يكون جهد الصبان وجيله ضمن خطة ثقافية مؤسسية واسعة وممتدة، وكنت أتمنى ألا يستزف جهده فى الدفاع عن بدهيات، وألا يقاتل من أجل عرض فيلم يراه البعض جريئاً، فى عصر تعرض فيه كل أفلام الدنيا على أجهزة الكمبيوتر.
ورغم كل الصعوبات، إلا أن الصبان لم يتوقف عن العطاء حتى آخر لحظات حياته، فاجأته أزمة صحية يوماً اثناء أعمال لجنة المشاهدة سالفة الذكر، ولكنه أصر على أن يرسلوا إليه سيديهات الأفلام فى منزله لكى يكتب تقاريره.
لم يتوقف الصبان عن تشجيعنا، وعن تقديم تعليقاته على ما نكتب سواء فى السينما أو فى غيرها، أتذكر أنه امتدح بعبارات أخجلتنى مقالا كتبته فى جريدة التحرير عن أطفال الشوارع، وظل يطلب ممن يعرفهم أن يقرأوا هذا المقال، كان يعتبرنا أولاده، وغرس ندواته ومناقشاته، وكنا ومازلنا نراه مثقفاً حقيقياً بلا ذرّة إدعاء، وإنساناً راقياً مهذباً، ورائداً من اساتذة النقد السينمائى، مهما اختلفنا معه فى زوايا الرؤية، أووجهات النظر.
كان رفيق الصبان عنوانا لجيل يرى أن الثقافة ليست معلومات محفوظة، ولكنها تعنى بالأساس أن تتغير لأنك تعرف، وأن تكون أرقى وأرفع لأنك تعلم، وأن تفتح للآخرين نوافذ النور والجمال، لأنك ذقت مرة لذة النور والجمال.
وكان الصبان، من قبل ومن بعد، دليلاً حياً على وجود المثقف العربى العابر للأوطان وللأقطار، وعلى أن الرومانسية قادرة على مواجهة الواقع الخشن، والإنتصار على القبح بالفن والخير والعطاء.
وإذا كان هو من حدثنا طويلاً عن برومثيوس سارق النار والمعرفة، فقد كنت أراه برومثيوس أكثر رومانتيكية، فتح أمامنا نوافذ النور، بدون ضجيج أو صخب، ولم يطلب منا ثمناً أو ضريبة، سوى أن نفعل نحن نفس الشئ، تجاه الآخرين.