ذكريات عن الناقد ديريك مالكولم الذي غادرنا
أمير العمري
عرفت الناقد السينمائي البريطاني ديريك مالكولم لأول مرة في دورة مهرجان لندن السينمائي عام 1985 وكان قد أصبح مديرا للمهرجان، وأول مدير يأتي من ساحة النقد السينمائي. وكان علما مرموقا حيث كان هو كبير نقاد السينما في صحيفة “الجارديان” اليومية التي تتمتع باحترام كبير حتى وقتنا هذا.
كان ديريك وقتها، يخطب ودنا جميعا، أي النقاد والصحفيين من البريطانيين والوافدين، لكي يدعم موقفه ويبقى ويضمن التجديد له في موقعه، لكننا للأسف كنا ننتقده كثيرا، ووقعت بين “الشلة” التي كنت أنتمي إليها في ذلك الوقت، وبينه مواجهات ساخنة، فقد كنا نطالب بتخصيص قاعة للعروض الصحفية، بدلا من التطفل على العروض العامة، وقد نحصل على بطاقة للمشاهدة مع الجمهور أو لا نحصل، وكنا نتهمه أيضا بتحويل المهرجان، من مهرجان نخبوي يهتم بأفلام الفن الرفيع وسينما المؤلف film d’auteuer إلى مهرجان يخصص مساحة واسعة للسينما الأمريكية ولأفلام النجوم الكبار، بل وكان ديريك مالكولم أيضا أول من نقل المهرجان من عروضه المحدودة في دار السينما الوطنية National Film Theatre ببقاعتيها الشهيرتين على الضفة الجنوبية لنهر التايمز، إلى ساحة ليستر أو كما يعرفه الجميع باسم “ليستر سكواير” في قلب العاصمة البريطانية النابض بالصخب والمليء بالسياح بالقرب من ساحة البيكاديللي الشهيرة.
نجح ديريك في استقدام الكثير من “التحف” السينمائية لعرضها في المهرجان، كما دعا الكثير من كبار السينمائيين في العالم مثل فرنشيسكو روزي الذي ناقش مع الجمهور فيلمه “كارمن” (1984)، وكريس ماركر الذي أحضر فيلمه الوثائقي الكبير “دون شمس” (1983)، وإدجار راتيز الألماني وفيلمه “هايمات” (أو الوطن) الذي يعد إحدى التحف النادرة في تاريخ السينما. وقد عرض الفيلم، الذي صور للسينما أساسا وليس للتليفزيون ويبلغ زمن عرضه أكثر من 16 ساعة، على خمسة أيام في المهرجان، كما ابتدع ديريك مالكولم ما عرف بـ”مناقشات الجارديان” التي أشرفت عليها ومولتها صحيفة الجارديان التي كان يعمل بها، وحضر رايتز وقضى الجمهور معه ساعتين في مناقشة مفتوحة (بتذاكر مباعة) واستمعنا إلى تجربته الثرية في صنع هذا العمل الملحمي الكبير الذي حاول فيما بعد مده على استقامته والنسج على منواله واستكمال قصصه في أفلام أخرى أحدثها ما عرض في مهرجان فينيسيا السينمائي 2013، ولكن دون نجاح يضاهي ما حققه العمل الأصلي من نجاح كبير.
مناقشات الجارديان استضافت في 1984 أيضا دوجلاس فيربانكس الصغير، إبن الممثل الأسطوري الذي كان قد دخل تاريخ السينما منذ أكثر من نصف قرن، كما استضافت المخرج الفرنسي الكبير جان لوك جودار، والممثل السويدي المرموق ماكس فون سيدو، والمخرج الأمريكي الراحل الكبير روبرت التمان، وغيرهم.
التقيت به بعد ذلك مرارا في مهرجانات السينما، وخصوصا فينيسيا وكنا نجلس ونتحدث ونتبادل الأفكار.. وذات مرة وجهت له لوما شديدا لاهتمامه بحضور ما يسمى مهرجان القدس السينمائي الذي يقام في مدينة محتلة، ثم قررت أن أجري معه حوارا خاصا طويلا فواق ولكنه اشترك أن أدعوه على كأس من الشراب في المقهى المجاور لقصر مهرجان فينيسيا. وأظن أن هذا كان في عام 1990.. وقد كان.. وجلسنا، وفتحت جهاز التسجيل الصغير الذي أخذ يحدث فيه وكأنه رأى شيئا فريدا.. وحدق كذلك في الكاميرا الجديدة التي كنت أحملها معي.. ورمقني بنظرة تدل على أنه يعتبرني من “الأثرياء” متصورا أن جهة ما كانت تغدق علي!!
المهم أنه حدثني عن كل شيء في هذا الحوار وروى لي أنه كان قد عمل في ما يسمونه “جوكي” أي راكب لخيول السباق، ثم أصبح مراسلا للسباقات للجارديان، وأن اتجاهه للسينما حدث بالصدفة.. كما أخبرني أنه أراد أن يقتل أباه عندما كان شابا صغير وشرع فعلا في الاعداد لذلك لكنه تراجع. وعموما نشر ديريك مذكراته في كتاب أحدث دويا كبيرا عام 2003 حينما اعترف فيه أن والده (البيولوجي” كان السفير الإيطالي في لندن، وأن أباه الذي رباه قتل عشيق أمه بالرصاص وكان أو من نجح في الحصول على البراءة من القضاء البريطاني باعتبار القضية قضية “شرف”!
والمؤسف أنني فقدت شريط التسجيل وفشلت رغم كل ما بذلته من محاولات في العثور عليه حتى يومنا هذا، ولا أعرف قط اين ذهب وكيف فقد، رغم دقتي الشديدة وحرصي الشديد على حفظ كل شيء أقوم به. لذلك لم ينشر الحوار أبدا!
أصدر ديريك أيضا كتابا بعنوان “قرن من الأفلام.. أفضل 100 فيلم” ضم فيه مقالات له عن أفضل 100 فيلم شاهدها في حياته واعتبرها أفضل الأفلام التي ظهرت في القرن العشرين. ديريك من مواليد 1932، وبدأ الذهاب مبكرا الى السينما مع أمه التي كانت مغنية، وكانت تهتم بالمسرح والسينما.
كان ديريك ظريفا وله تعليقاته الطريفة الـ witty أي خفة الظل المصحوبة دائما بالذكاء وهي غير التهريج.. . وكانت له تعليقات لاذعة كثيرة وقد روى لي أنه رفع عصا الجولف في فندق بالهند على رئيس لمهرجان مصري كبير بعد أن (عاكس) حبيبته الصحفية الإنجليزية التي كانت تصغره بنحو 30 سنة والتي تزوجها فيما بعد…
وفي 1992 كنا في مهرجان فينيسيا وقابلته وسألته عن فيلم نيل جوردان الجديد “اللعبة الباكية” The Crying Gameوكان مشاركا في المسابقة فقال يجب أن اصبر عليه في أول نصف ساعة وبعد ذلك ستقع مفاجأة مذهلة ويتحول المسار. وذهبت مع الصديق العزيز سمير فريد لمشاهدة الفيلم. وبعد نحو 20 دقيقة شعر سمير بالملل وأراد أن يغادر فطلبت منه التريث وقلت ستكون هناك مفاجأة وتغيير في السياق، وهو ما حدث بالفعل وأصبح الفيلم مثيرا جدا وجديدا في موضوعه ومسار سرده ومضى بعد ذلك ليحصد جائزة “بافتا” لأفضل فيلم ثم رشح لخمس جوائز أوسكار نال منها جائزة أفضل سيناريو.
في مطار برلين قبل نحو 9 سنوات، وكان قد تقدم في العمر وبدت عليه آثار السنين، قابلته ونحن ننتظر وصول الحقائب وكنا في طريقنا لحضور مهرجان برلين. وسألته كيف سيذهب إلى فندقه، فروى لي أنه في العام الماضي وهو في سيارة تاكسي، اصطدمت السيارة بشاحنة كانت أمامها فأصيب برضوض شديدة في ظهره أعجزته لذلك قررت إدارة المهرجان أن ترسل له سيارة خاصة تنقله.. وأظن أن آخر مرة قابلته كانت قبل ثلاث سنوات في فينيسيا أيضا، ونحن نقف في طابور الدخول الى مسرح “دارسينا” وكام مرهقا كثيرا وأخبرني أنه بلغ الثامنة والثمانين.. ورغم ذلك كان يصر على حضور المهرجانات حتى النفس الأخير وحتى بعد أن غادر الجارديان من فترة طويلة واستعانوا بغيره (وهو ما لم أفهمه قط لأن فيليب فرنش ناقد الأوبزرفر ظل يكتب لنفس الصحيفة وهي شقيقة الجارديان تصدر عن نفس المؤسسة، لمدة خمسين سنة!!).. المهم انتقل ديريك الى الايفننج ستاندارد وقضى عشر سنوات يكتب لها، ثم لا أعرف ماذا حدث له على صعيد النقد والصحافة بعد ذلك!
كان هو أفضل من تولى إدارة مهرجان لندن السينمائي. ولكنه كان قادما من خارج “معهد الفيلم البريطاني” الجهة المنظمة للمهرجان، لذلك تآمر عليه من كانوا داخل تلك المؤسسة البيروقراطية وخصوصا لوبي “الفيمينيست” أي جماعة المهووسين بالنسائية أو النسوانية كما يسميها البعض، وعلى رأسهم (أو رأسهن!!) مديرة البرامج وقتها، السيدة “شيلا ويتيكر” التي انتزعت منه المهرجان عام 1987 وظلت تديره حتى 1996.. ولم تكن تتمتع بأي وهج أو تألق، أو لباقة في التعامل مع الصحفيين والنقاد، فهي لم تكن ناقدة بل موظفة أدارت المهرجان بعقلية الموظفين الذين يؤدون الواجب.. وكان ديراك آخر رجل أدار المهرجان الكبير. ومن بعده جاءت نساء متشابهات في المشارب والاهواء وهو وضع مازال مستمرا حتى اليوم.. الى ان يظهر رجل، خبير او ناقد او سينمائي يصرخ: مي تووووووو me too!!
انقطع تردد ديريك مالكولم على مهرجانات السينما الدولية منذ ثلاث أو أربع سنوات، وأحزنني كثيرا خبر وفاته عن 91 سنة. رحمه الله ألف رحمة لما قدمه لنا من عطاء..