ذاكرة الجلاد…ملاحظات حول فعالية “مشاهد من قرن آخر”
يُنظَر إلى الأعمال الفنيّة عادة، ضمن ما يُنظَر إليها، كونها وسيلة لحفظ اللحظة التاريخية، وعيها، أرقها، وجدليتها، في مادة يمكن العودة إليها وتأملها لاحقًا، ولا يعني ذلك، أن الفن يتقدم كصورة فوتوغرافية، إنما لأن هذه الأعمال مهما بدا مدى شطحها الخيالي، لا تستطيع أن تتجاهل أثر زمنها عليها، كذلك، بالطبع، يُنظَر إلى الأعمال التسجيلية، على نحو أكثر تدقيقًا، كونها وسيلة لابتعاث ذلك الزمن البعيد الذي صُورت فيه، كلما عُرضت فيما بعد، وفي أي وقت.
إن عرض مجموعة من الشرائط القديمة القصيرة زمنيًا، التي يحتفظ بها المعهد البريطاني في القاهرة ويعود تاريخ تصويرها إلى أوائل القرن العشرين، ضمن فعالية سينمائية مؤخرًا، هي “مشاهد من قرن آخر”، تمت في سينما زاوية تحت عنوان “ناس في سيماتيك”، يعيد إلى الأذهان، بعد الفُرجة على الشرائط السينمائية القصيرة التي صورها المُستعمِر- وهذه ليست لفظة دخيلة هُنا- لبلاد الشرق التي كان يحتلها، أو يُفكر في احتلالها، الوعي التاريخي نفسه الذي أنتج رواية “روبنسون كروزو” لدانييل ديفو، قبلها بقرن على الأقل، إذ يُصبح الرجل الأبيض هو صاحب هذا العالم، ومالكه الأوحد، بينما يكون الآخر المُستعمَر، مجرد “آخر” غرائبي، غير بشري بالكامل، كائن إكزوتيكي يعيش لأن هذا المُستعمِر سمح له بهامش من الحياة، مقابل أن يتفرج عليه ويصوره، ويمطر أطفاله بالعُملات المعدنية الثقيلة، كي يتكالبوا عليها أمام عينيه.
كان روبين بيكر مُبرمِج العروض، قد اعتذر قبل بدء البرنامج، عن هذا التعجرف الغربي البادي تمامًا في الأفلام، إنه جزء من الذاكرة الإنسانية لا يُمكن نسيانه أو محوه، هي هُنا ذاكرة الجلاد، أو لنُقل بحيادية أكبر، المُستعمِر. العزاء الوحيد كما أشار بيكر، أن هذه الأفلام تُسجل لحظات من هذا الزمن الشرقي، أنها لم تُعرض من قبل في أي مكان بالعالم، وأن فرقة موسيقية مصرية مُستقلة، ستُقدم موسيقى تصويرية حيّة مُصاحبة للعروض، تُركِّب عليها صوت الضحية، أو لنقل المُستعمَر، بعد حوالي مئة عام من تصوير هذه الأفلام.
الأفلام كانت عالية الجودة، من ثلاث جنسيات؛ إنجليزية، فرنسية وألمانية، الفيلم الأول قدم مشاهد في مصر لمناطق قصر النيل وأبي الهول، والأهرامات، وقد ظهرت يد المُصوِّر في الكادر، تنهر بعنف المارين الصغار، كي لا يقتربوا من مساحة تصوير الكادر، وفي الفيلم الفرنسي الثاني، كان يمكن رؤية مراكش، والكاميرا على متن مركب، بينما مجموعة من السُكان البؤساء جدًا بسيقان وأذرع تشبه العصي، يجدفون وهو يبتسمون إلى المُصوِّر ببلاهة.
في الفيلم الألماني، كانت الكاميرا تتلصص على أحياء الجزائر، الناس الذين يسيرون بهدوء، وتكشف مشيتهم التي لا تستطيع أن تكون سريعة، عن بنية جسدية ضعيفة، لكن عليها أن تحمل وتجر، وتبتسم للكاميرا حين تنتبه أيضًا. مشاهد متتالية لرجال يقطعون أخشاب الأشجار يدويًا بعد جهد مُضني، ثم يحاولون تحميلها على حمير أكثر هزالة، تبدو قريبة من السقوط، دون أن تسقط، لكن المهمة تصبح صعبة، فتظهر محاولات للتحايل، تنتهي بالنجاح عادة. في فيلم فرنسي آخر، يمكن مشاهدة رحلة البريد من إفريقيا حتى يصل إلى فرنسا، مجهودات بدنية تتطلب قطع بحار بقوارب بسيطة، تُعرض راكبيها السود لاحتمالات للموت، من أجل نقل خطابات قليلة العدد إلى وجهاتها، خطابات المُستعمِر التي ربما تكون لأحبته أو لأهله.
تحت عنوان “أنواع عربية” عُرض الفيلم الأخير ضمن هذا القسم، الذي يٌصنِّف الشرقيين الغرائبيين إلى أنواع من البشر تتم الفُرجة عليهم وهم يتنفسون ويضحكون ويسكنون من أجل أن تُسجلهم الكاميرا، منهم الجنوبيات، واليهوديات، ومشاهد لجنود من العسكرية المصرية، وهم يؤدون واجبهم في حماية اللورد كيتشنر بثبات مع ابتسامة متلعثمة في حضور الكاميرا / الرقيب.
وحدها الموسيقى التجريبية التي عزفتها الفرقة المستقلة “الزحف نحو المجهول”، استطاعت أن تحكي الحكاية من وجهة النظر الأخرى، من خلال العزف على الكمان، بشجنه المعروف، إضافة إلى تنويعات الصوت البشري التي كان يُصدرها عازف الفرقة اعتمادًا على لسانه سوقف حلقه، الصوت الذي بدا أحيانًا منتحبًا، أحيانًا أخرى ملتاعًا أو مهمومًا باستمرار السير فقط، إلى جانب الأكسليفون، بطرقاته الثابتة كأنما يُشير إلى مناطق معتمة من التاريخ الإنساني.
حظت الفاعلية بحضور جماهيري جيد، وتفاعل ملحوظ مع المعروض، وإذا كان بالإمكان القول أن الوعي الحضاري ربما يكون قد تغيَّر بعد نحو قرن وأكثر من تصوير هذه المشاهد، لكن اليقين أن الذاكرة نفسها، لا يسعُها أن تتغير.