دعوة للحوار.. هل نعرف حقاّ جمهور السينما؟

قد يبدو السؤال غريبا ومفاجئا، ولكنى أشك كثيرا أن هناك من يعرف حقاً جمهور السينما المصرية أو العربية، أشك أن هناك من يعرف فئات واتجاهات وتفضيلات هذا الكائن الهلامى، رغم أن مقالات النقاد تمتلىء بالحديث عنه مدحاً أو قدحاً، ورغم أن المنتجين والممثلين يذكرونه دائما فى حواراتهم، لابد أن كل هذه الأطراف لديها تصورات معرفية عن هذا “الجمهور”، أو ربما ذلك ما يعتقدونه، ولكن ما هو حجم ودرجة صدقية تلك المعرفة؟!

فى ظل غياب بحوث ودراسات علمية ومستمرة ومنضبطة عن جمهور ومشاهدى الأفلام، فإن كل معارفنا فى هذا الصدد ظنية ومشكوك فى نتائجها، مجرد اجتهادات فردية، واستنتاجات شخصية، لا تغنى ولا تسمن، ولا يمكن أن يعول عليها، لا فى إنتاج الأفلام، ولا فى تقييم تأثيرها، ودلالات نجاحها أو فشلها.

كل ما يمتلكه المنتجون، والنقاد أيضا، هو أرقام شباك التذاكر، تلك الملايين أو الآلاف من الجنيهات، التى تخلق موجات الأفلام، أو تخسف بها الأرض. هذا بالتأكيد مؤشر مهم، لأنه يقدم رقما تقريبيا عن عدد المشاهدين، ولكنه فى رأيى أكثر المؤشرات خداعا، لأن البشر ليسوا أرقاما، لا فى شباك التذاكر السينمائية، ولا حتى فى صندوق الإنتخابات.                                                      

هذه الوسائل تعطينا فكرة عن “الكم”، ولكنها لا تشرح لنا شيئا عن الأسباب والدوافع، إنها لا تقول لنا شيئا عن شرائح الجمهور، أو مؤهلاتهم، أو خلفياتهم الثقافية أو المعرفية أو الفنية، لا ينقل الرقم وصفا لحالة البشر، ولأمزجتهم، ولا لما أعجبهم داخل الأفلام، بل إن الرقم يساوى بين أفراد غير متساوين على كل الأصعدة، الأرقام تجعل من كلمة “الجمهور” لونا واحدا، وهو أمر يتناقض جذريا مع معنى الكلمة. أول درس تعلمناه فى كلية الإعلام هو أن لفظ ” الجمهور”  يعنى بالضرورة خليطا من البشر الذين يغلب عليهم عدم التجانس. حتى لو كانوا من مهنة واحدة مثلا، فإن نظرة أعمق إليهم ، ستكشف بالضرورة عن اختلافات أخرى حتمية، أى أن لفظ “جمهور” يتضمن دوما معنى الأطياف غير المتجانسة، وإنما نستخدم اللفظ للتبسيط، وكوسيلة لتسهيل الفحص والتحليل.

مع جمهور السينما تحديدا، تبدو المسألة أكثر تعقيدا، لدرجة أن شارلى شابلن، وصف “الجمهور” ذات مرة، بأنه مثل وحش هائل، متعدد الأذرع، وبلا رأس أو عقل. هذا وصف ممثل ناجح، يكاد يتمتع بشعبية أسطورية عابرة للزمن وللأجيال، فما بالنا بمستويات أخرى من التعامل مع الجمهور، بمنطق الصعود والهبوط، والفشل والنجاح، ومع ممثلين ما زالوا فى بداية الطريق؟!

السينما بالذات فن مخيف من حيث الجماهيرية:  فيلم واحد يشاهده الملايين، بطرق مختلفة، وبلغات متنوعة، وفى ظروف عرض متباينة، كل واحد له ثقافة وخلفية معرفية وإنسانية خاصة، وكل شخص لديه فيلمه الخاص الذى يمر فى عقله أثناء المشاهدة. الحقيقة أن فكرة السينما وأهميتها  تكمن فى إيجاد صلة بين كل هؤلاء، أو كما قال الممثل الهندى أميتاب باتشان فى حوار له أثناء زيارته للقاهرة : “قاطع التذاكر لا يسألك عما إذا كنت مسلما أو مسيحيا أو هندوسيا، وداخل قاعة العرض لايسأل أى متفرج جاره عن ديانته، ولكنهم يتوحدون معا، وهم يتفاعلون مع المشاعر الإنسانية التى ينقلها الفيلم على الشاشة، لقد سألت أبى يوما عن سر نجاح الفيلم الهندى ، فقال لى: لأنه يحقق للمتفرج العدالة على الشاشة، وخلال ثلاث ساعات فقط، بينما يمكن أن تعيش حياتك كلها ثم تموت دون أن ترى العدالة بعينيك”. المخرج الألمانى فولكر شولوندورف قال شيئا قريبا من ذلك فى مؤتمره الصحفى فى مهرجان القاهرة الأخير، قال إن مشاهدة الأفلام فى صالة العرض ليست خبرة فنية فحسب، ولكنها نوع من الطقس الإجتماعى، تماما مثل الذهاب الى المسجد أو الكنيسة، هناك من يذهب للعبادة، ولكن معظم الذاهبين ( فى رأيه) يرتادون هذه الأماكن لكى يقابلوا بشرا يعرفونهم، أو لا يعرفونهم، هناك حاجة للإجتماع الإنسانى بالإضافة الى الحاجة الفنية أو الترفيهية.

كيف إذن يًختزل هذا الخليط غير المتجانس  من البشر الذين يرتادون مشاهدة الأفلام فى شكل رقم واحد فى شباك التذاكر؟ لقد حاولت دوما أن أقترب من هذا الوحش المسمى اختصارا واختزالا “بالجمهور”، كنت أسأل عادة المشاهدين بعد انتهاء الفيلم أسئلة محددة. كانوا بالطبع أخلاطا من البشر، وكم أدهشتنى إجابات كثيرة سمعتها. تأكدت بالفعل، أن هؤلاء ليسوا أرقاما على الإطلاق، وأنه لا يمكن أن نتحدث عن معرفة فعلية بالجمهور، دون دراسة علمية، أو استطلاع منضبط للرأى، هنا فقط تتحقق الإستفادة الحقيقية للنقاد أو للمنتجين أو حتى للممثلين، بعيدا عن الظن والتخمين.

من الأمور العجيبة التى تكشفت لى من سؤال الجمهور أن الإقبال على مشاهدة فيلم ردىء، لا يعنى بالضرورة إعجاب المتفرج بالفيلم من الناحية الفنية، كل ما فى الأمر هو أن الفيلم قد أشبع حاجة لدى هذا المتفرج، الإشباع عنا قريب  فى معناه من تعبير “تحقيق المنفعة” بالمعنى الإقتصادى، السجائر لها منفعة بالمعنى الإقتصادى، رغم أنها ضارة صحيا، لأنها تشبع حاجة لدى مدخنها، وهو يكون على علم فى الغالب بمضارها، ومع ذلك لا يتوقف عن التدخين. هذا ما يحدث فى حالات كثيرة لدى جمهور بعض الأفلام الرديئة، يقول لى بعض المشاهدين فى  إجابة متكررة: ” الفيلم تافه ، ولكنه أعجبنى، نقل أجواء الملهى والرقص والغناء الى دار السينما، جعلنى أنسى النكد والهموم، حياتنا سوداء، جئت من أجل الفرفشة، وقد حصلت عليها، لكن لاتوجد  قصة ولا زفت” .

أدهشتنى كثيرا هذه الإجابات، لأنها تعنى إدراكا واعيا، يفرق بين قيمة الفيلم الفنية، وبين ما يحققه من إشباع فى اتجاه معين. إحدى السيدات كبيرات السن قالت بعد مشاهدة فيلم “اللمبى” فى تحقيق نشر وقتها فى مجلة “الكواكب” المصرية: ” ربنا يخلّيه (تقصد بطل الفيلم محمد سعد).. خلانا ننسى همومنا والبلاوى اللى عايشينها”. أفلام “الهلس” كما اصطلحنا على تسميتها تحقق بالتأكيد إشباعا نفسيا أو ترفيهيا، وكثيرون من جمهورها يدركون ضعف مستواها الفنى، ولكن رقم إيرادات شباك التذاكر، لا يذكر لنا  مع الأسف، شيئا عن هذا الأمر.

 خلال عشرين عاما من المواظبة على مشاهدة الأفلام فى دور العرض، و”الدردشة” مع المشاهدين ، اكتشفت مؤشرات  غريبة، ليس أقلها تفرقة البعض بين”جودة” الفيلم، وتحقيقه “إشباعا أو فائدة أو منفعة ما” لمتفرجه، لقد اكشتفت مثلا عددا لابأس به من المتفرجين “العشوائين” لبعض الأفلام، ومنهم أشخاص دخلوا الفيلم دون أن يعرفوا شيئا عنه أو عن أبطاله، ولمجرد نسف الوقت بدلا من الجلوس على مقهى (!)  بل إننى التقيت يوما متفرجا كان يشاهد أحد افلام المقاولات الرديئة، واعترف لى إنه دخل السينما لأن بها جهاز للتكييف، يحميه من هجير الشارع، حتى تغيب الشمس، ويستطيع أن يذهب الى موعد عمل فى انتظاره!

أردت بهذه الأمثلة البسيطة، أن أبرهن عن وجود عالم بأكمله  تخفيه الأرقام الصماء، أحببت فقط أن أوضح أنه لا يمكن أن نعرف أشياء أساسية عن الجمهور من دون أبحاث ودراسات مباشرة ومنهجية، ومن دون لقاءات مباشرة مع عينات من المتفرجين،  بل إنه لابد أن تكون هذه الدراسات مستمرة ودقيقة،  فالجمهور متقلب، ومتغير، ويجب أن نتعرف عليه بشكل متواصل ودائم.      

فى فترة الرواج السينمائى، كنت أتساءل : “لماذا لا يقوم المنتجون بتوزيع استمارات  على الجمهور تتضمن أسئلة منهجية عما أعجبهم فى الفيلم بدلا من تلك المسابقات الخائبة التى كانت تستخدمها تلك الشركات للترويج لأفلامها من نوعية “كم عدد الصفعات التى وجهها الممثل حسن حسنى للممثل الفلانى فى الفيلم الفلانى” أو “من هو الرجل الثالث فى فيلم اسمه  الرجل الثالث” ؟!

من الترف بالطبع أن نطالب المنتجين أو غرفة صناعة السينما بتمويل دراسات علمية عن جمهور الأفلام، فالأمور كما تعلمون تسير بالفهلوة والبركة ودعاء الوالدين، ولذلك تتعثر مسيرة السينما المصرية، رغم عودة المتفرجين الى دور العرض، بعد أن انصرفوا عنها فى زمن سينما المقاولات، يتبقى الأمل فى كليات الإعلام، أو فى معهد السينما، أو فى المركز القومى للسينما، لماذا لا تكون هناك وحدات متخصصة لدراسة جمهور الأفلام بشكل مباشر وليكن ذلك فى نهاية كل موسم سينمائى؟ أتصور أن دراسات كهذه لاتقل أهمية عن حصر عدد الأفلام، أو أبرز الممثلين الجدد، أو أكثر الأفلام تحقيقا للإيرادات، أو أفضلها من الناحية الفنية.

بدون أن نصنع هذا الأمر بشكل علمى جاد، لايمكن فى رأيى الحديث عن الجمهور أو باسم الجمهور. نحتاج حقا أن نعرف الكثير عن المتفرجين، وعلى ضوء هذه المعرفة، التى أدركتها صناعة السينما الهوليوودية، يمكن أن تتغير أشياء كثيرة، سواء فى مجال إنتاج الأفلام، أو فى نظرتنا كنقاد لمشاهدى الأفلام المصرية أو العربية أو الأجنبية.

Visited 16 times, 1 visit(s) today