“دروس اللغة الألمانية”.. الحيرة بين البقاء والرحيل

البطل الاوحد في أفلامنا المصرية يأخذ منحدر تجاري بحت حيث أن كل العناصر تكون دورها أن تخدم على دوره فقط، هو الطاغي والمسيطر دون غيره، لكن في عالم سينمائي موازي هناك أفلاما تعتمد على تلك الفكرة ويكون البطل هو الأساس لكن في وجود شخصيات أخرى صحيح انها أقل منه في المساحة لكنها تحمل نفس التأثير الاختلاف أننا نرى العمل من منظور البطل وعلاقاته المتشابكة مع الآخرين.

هذا هو ما ارتكز عليه الفيلم البلغاري “German Lessons”  أو دروس اللغة الألمانية الذي شارك في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته التي تحمل رقم 42 وانتهت فالياتها منذ أيام قليلة، وعن هذا الدور حصل البطل جوليان فرجوف على جائزة أفضل ممثل في جائزة كانت الأكثر توفيقا بين كل جوائز المسابقة مفوقا بمراحل على سليم ضو بطل الفيلم الفلسطيني “غزة حبي”، وأمير المصري بطل الفيلم الإنجليزي “التيه”، التي كانت معظم الانظار تتجه ناحيتهم، لكن فنيا فرجوف استحق الحصول على الجائزة عن جدارة واستحقاق وكان الفيلم نفسه يستحق الحصول على أي من الجوائز الكبرى في المهرجان.

البطل “نيكولا” في “دروس اللغة الألمانية” يظهر في كل مشاهد الفيلم باستثناء لقطات للأبطال الآخرين لكن بوجود البطل أيضا، نيكولا خرج من السجن بعد قضاء فترة عقوبة قصيرة لا يعطينا الفيلم في البداية تفاصيل عن تلك الواقعة لكن يبدأ المخرج وكاتب السيناريو بافيل جي فسانكوف بسرد التفاصيل بشكل تدريجي عن الماضي السئ لنيكولا الذي يظهر أنه شخص سريع الغضب ويميل إلى ردود الأفعال العنيفة والاشتباكات الجسدية مع الآخرين ولا يجيد السيطرة على النفس، شاب في الأربعينيات ينتمي للطبقة العاملة الفقيرة في بلغاريا، محدود الامكانيات على المستوى الفكري، لا يمتلك أي مواهب ولم يتلقى التعليم الكافي وما زاد الطين بله كونه سجين سابق فأصبح يجد صعوبة كبيرة للحصول على عمل سوى أن يكون سائق تابع لشركة خاصة.

اختار المخرج أن تكون الكاميرا مركزة طوال الوقت على نيكولا مهما تغير وضعه وزاويته في المشاهد، فالكاميرا حتى تتحرك معه وتسير من خلفه من خلال الاعتماد على اللقطات القريبة والمتوسطة على وجه نيكولا العابس دائما، الغاضب المتحفز ومن خلال تركيز الكاميرا على نيكولا يدخلنا المخرج في تفاصيل فيلمه والتعريف ببقية الشخصيات القليلة في مساحة التواجد لكنها قوية في التأثير على حياة البطل، فعلاقات نيكولا متوترة مع الجميع بداية من طليقته التي تصعب عليه مسألة رؤية أبناءه الذين بدورهما يرفضان التعامل معه خاصة الابن الأكبر الذي يتخذ موقف عدائي من والده وصل الى حد قطع علاقته بجديه أيضا انتقاما منه، أما الإبنة فهي مازلت صغيرة لكن بعد الأب سواء فترة سجنه أو بسبب سيطرة الأم جعلها تفقد أي حنين تجاه نيكولا.

علاقة نيكولا مع عشيقته الحالية ليست على أفضل ما يرام بسبب عدم حب والديه له ووصفهما الدائم لها بكلمة “العاهرة”، وأيضا بسبب الضغط الشديد الذي تمارسه على نيكولا لترك بلغاريا والسفر إلى مدينة هامبورج في ألمانيا عبر سيارة صديقه “الفان” للبحث عن مستقبل أفضل هناك، ومن هنا برز المخرج الذي هو في نفس الوقت كاتب السيناريو في اظهار الجانب الآخر من شخصية نيكولا المحب لأسرته ورغبته الشديدة في البقاء من أجل أبناءه ووالديه رغم حاجته الماسة للرحيل، يقع نيكولا في حيرة شديدة بين التوجه إلى ألمانيا للبحث عن مستقبل أفضل مجهول وبين البقاء في واقع مذري مرير لكنه مرضي في بلغاريا، حاول نيكولا أن يمسك العصا من المنتصف لكنه فشل.

علاقة جميلة برزها الفيلم أيضا التي تتعلق بنيكولا وأبويه الذين هما في الحقيقة منفصلين من أعوام وكلا منهما يعيش بمفرده، كلاهما وصل لسن التقاعد وهما من الجيل الذي ذاق مرارة الهزيمة في الحرب العالمية الثانية والذي دفع فاتورة انهيار الاتحاد السوفيتي والتأييد المطلق السابق، الجيل الذي كان شاهدا على سقوط دول شرق أوروبا في العديد من الأزمات الاقتصادية وزيادة نسب البطالة وتراجع مستوى الدخول، ذلك الجيل الذي عمل كثيرا دون أن يحصل على أي امتيازات وأصبح الآن ينتظر الموت بلا أي رفاهية، لم يضمنوا مستقبل جيد لهم أو لأبنائهم وأصبح على الأبناء البحث عن مستقبل آخر في دول أوروبا الغربية أو في الناحية المقابلة من العالم، فنجد أن نيكولا بجانب احباطه الشخصي فهو أيضا يحاول تضميض جراح أبويه، فالأب قعيد لا يتعامل مع أي شخص سوى كلبته التي فقدها في المشاهد الأولى، الأب والأم في حاجة إلى وجود نيكولا لكن في نفس الوقت يدركان ان بلغاريا بلا مستقبل وعليه أن يقوم بالخطوة التي فشلا فيها هما.

أثناء العمل الذي وجده نيكولا بعد الخروج من السجن كسائق كان يستغل تلك الفترة ويقوم بتشغيل دروس للغة الألمانية في راديو سيارته التي يتجول بها، وفي كل المشاهد تقريبا الكلمات التي يسمعها واحدة وهي الخاصة بأيام الاسبوع مترجمة من البلغارية إلى الألمانية، لدرجة جعلت أحد الحاضرين في قاعة العرض يسخر بجملة استفهامية مفادها أن هل اللغة الألماينة أيام الاسبوع فقط ؟؟ .. في الحقيقة أن هذه النقطة تحديدا كانت مقصودة من المخرج وبدأ في التركيز عليها بالفعل، دروس اللغة الألمانية كانت مختزلة في أيام الاسبوع وكان الهدف منها اظهار استمرار الحيرة والتشتت التي يعاني منها نيكولا بين الرحيل والبقاء، وعدم وصول نيكولا للقناعة الكاملة بفكرة السفر ومن ثم تعلم اللغة الألمانية بهذه الطريقة، وعدم قدرته على الدخول او التعمق في خطوات جديدة خاصة باللغة الألمانية وظل طوال الأحداث يستمع لترجمة أيام الاسبوع فقط.

في مشهد بديع الذي جمع نيكولا مع والد صديقه المتوفي في المستشفى، حيث يعاني الأب من أزمة صحية ويزوره نيكولا حتى يعيد له كتاب أدبي من تأليف الأب، وبسؤاله لنيكولا عن اذا كان قد قرأ الكتاب فأجاب نيكولا بأنه قام بقراءته لكن مستوى الكتاب أعلى من مستوى نيكولا الفكري وكان رد الأب قاطع بأن على نيكولا ترك بلغاريا ومحاولة بناء حياة جديدة خارجها، وفي المشهد التالي كان نفس رأي والد نيكولا أيضا هكذا، وبرغم الاختلافات الفكرية بين والد نيكولا ووالد صديقه فالأول ينتمي للنخبة والآخر بروليتاري كادح لكن الثنائي اتفقا على نفس الأمر، مع ذلك استمر نيكولا في حالة الحيرة والخوف بين البقاء والرحيل.

Visited 26 times, 1 visit(s) today