“داعش غدا: الأرواح المفقودة في الموصل”
هذا الفيلم هو أفضل عمل سينمائي تسجيلي ظهر حتى الآن عن “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) وأكثرها توازنا واكتمالا، فهو ليس فقط عن التنظيم المقاتل ورجاله وأفعاله، بل وعن ضحاياه من “أبناء داعش” أنفسهم وعائلاتهم بعد إعلان تحرير مدينة الموصل في شهر يوليو العام الماضي، بعد ثلاث سنوات من سيطرة التنظيم عليها.
الفيلم يحمل عنوان “داعش غدا: الأرواح المفقودة في الموصل” Isis Tomorrow: The Lost Souls of Mosulوهو من اخراج المخرج الإيطالي أليسيو روميتزي بالاشتراك مع المخرجة فرانشيسكا مانوتشي، وقد خاض كلاهما مغامرة محفوفة بالمخاطر، وخاضا في أرض لاتزال تمتلئ بالكثير من الألغام المادية والسياسية.
العرض العالمي الأول للفيلم كان في مهرجان فينيسيا السينمائي في سبتمبر. وكان الفيلم قد أصبح جاهزا للعرض قبل شهر واحد من افتتاح المهرجان. وهو يبدأ بعد ستة أشهر من تحرير المدينة من سيطرة التنظيم في يناير 2018. يركز الفيلم أساسا على الأطفال والنساء من الطرفين، لا على المقاتلين. وهو ينقسم الى جزئنين: في القسم الأول نرى القصة من وجهة نظر أطفال العراقيين الذين عاشوا تحت سيطرة التنظيم في الموصل وكان عددهم يقدر بنصف مليون طفل. وفي القسم الثاني نرى القصة من وجهة نظر أبناء مقاتلي التنظيم ونسائهم وما حل بهم بعد دخول القوات العراقية المدينة.
إننا إذن أمام عمل وثائقي شديد الدقة والتوازنـ، يطرح الكثير من الأسئلة أكثر مما يجيب عنها، فليس هنا تعليق صوتي قادم من خارج الصورة، يفرض نفسه ورؤية صاحبه أي مخرج الفيلم نفسه على الصور التي شاهدها، بل هو يترك شخصيات الفيلم من أبناء الواقع على الأرض، هي التي تتكلم وتعرض وتشرح وتتخذ مواقف أو تطرح التساؤلات أيضا. لكن ليس معنى هذا غياب “رؤية” خاصة لمخرجي الفيلم، هذه الرؤية تتلخص في مناشدة الرأي العام عدم إصدار الأحكام بشكل عشوائي من دون النظر الى الموضوع من زواياه المختلفة.
لدينا أولا ضحايا داعش: أطفال يروون كيف أنهم حرموا من الذهاب للمدارس بعد سيطرة تنظيم داعش على الموصل واغلاق المدارس التي لا تتفق مع أفكارهم.. قتل “الدواعش” جميع أعمامه وأخواله، لم يبق أحد من أسرته تقريبا.. كانوا يطالبون بضرورة أن ترتدي أمه الحجاب. وقد أصبح الآن يهيم على وجهه، يجمع بقايا أجهزة التكييف المحطمة.. أما والده فقد بقي على قيد الحياة لكنه أصبح معاقا لا يستطيع السير بطريقة طبيعية.
داخل مخيم هائل للنازحين نشاهد آلاف الأطفال من بينهم من يروون قصصا مختلفة عن معاناتهم.. كان مقاتلو داعش يهتمون كثيرا بتجنيد الأطفال من سن الثالثة.. يظهر أحد الشباب (16 سنة) يشرح أهمية الاستشهاد في ثقافة داعش (الموت في سبيل الله أسمى معانينا).. لقد كان الجميع يريدون القتال.
في هذا الفيلم لقطات من الجو تتكرر كثيرا في السياق مع موسيقى درامية صاخبة، نرى خلالها كيف دمرت المدينة وتحولت بيوتها الى مجرد أنقاض على غرار المدن الألمانية التي تحطمت خلال الحرب العالمية الثانية.. انتشرت الخرائب.. والمخيمات.. آلاف النازحين من النساء والأطفال. كان الوقت نوفمبر 2016 مع بدء الحملة العسكرية العراقية على المدينة. التصوير شديد الجرأة لأنه كان يجري أثناء القتال مباشرة حيث تنفجر القنابل من الجو وتشتعل الحرائق ويصرخ الأطفال.
محمد (10 سنوات) يروي كيف قتلوا أسرته بعد أن رفضوا مبايعة التنظيم. ويقول “كان الشاب يقتل أهله بيده لكي يتحاشى الموت على أيدي مقاتلي التنظيم.. كان الكبير يأمر الصغير بالالتحاق بالتنظيم. في أحد المشاهد نرى حصارا عسكريا مباشرا لأخد مواقع التنظيم وتبادل إطلاق النار. يقول طفل آخر: لقد جاءوا بالأمس وقتلوا أمه وأخذوا شقيقه معهم. إننا في قلب الجحيم نفسه. الصور واللقطات توحي بأنها نهاية العالم وقد بدأت في الموصل. وهي ليست كباقي الصور التي سبق أن شاهدناها في عشرات الأفلام الأخرى، بل هي من قلب الأحداث.. فالمخرجان أولهما عمل مراسلا حربيا غطى الكثير من أماكن النزاعات في العالم، والثانية صحفية مرموقة نالت جائزة أفضل صحفية إيطالية.
إنهما لا يكتفيان في فيلمهما بلقطات الأرشيف المأخوذة مما كانت محطات التليفزيون تبثه، بل يعتمدان أساسا- على ما قاما بتصويره مباشرة، وخاصة في المخيمات بين النساء والأطفال، بتركيز خاص على الحالات الإنسانية. فهذا أولا وأخيرا فيلم إنساني. صحيح انه يخوض بالضرورة في قضية سياسية لكن زاوية التناول تظل إنسانية في المقام الأول. هذا فيلم مناهض للحرب. اتي يصفها أحدهم بأنها “قذرة” أصبح كل شيء فيها مشروعا. هل كان الأطفال الذين التحقوا بداعش ضحايا أم جناة، هل كانوا مجرد مراهقين مندفعين تراودهم أوهام البطولة مثل أبطال الأفلام الحربية، أم كانوا ضحايا لآبائهم الذين أرغموهم على الالتحاق بالتنظيم لأسباب أيديولوجية. أو هي لكل هذه الأسباب مجتمعة؟
بعض الشباب من الجانب الآخر يرى أن من “الحلال” قتلهم جميعا لأن لا أمل في اصلاحهم. أما أحد الذين انضموا للتنظيم فيقول في الفيلم إنه بعد يوم واحد من انضمامه للتنظيم بدأ التدريب العسكري. ويتضمن الفيلم لقطات مأخوذة من مواقع التنظيم نفسه على شبكة الانترنت، للتدريبات العسكرية للأطفال التي كانوا يتباهون بها. وتشمل الضرب بقطعة من الحديد على الأكتاف والصدور والركل في البطن واستخدام قطع البلاط لضرب الرأس حتى يعتاد الطفل المقاتل على العنف، مع تدريس الشريعة كما يقول الشاب الذي يروي ويقول ان والده كان يصنع القنابل ويزرع الألغام وقد قتل في أحد الانفجارات، وكان على يقين من أنه سيذهب الى الجنة.
من ناحية أخرى هناك الشاب الذي أرغمه والده على الالتحاق بالتنظيم لكنه تمرد على داعش ورفض القتال معهم فهددوه وقالوا له أن والده قتل في احدى الغارات الجوية. انه يظهر في الفيلم من خلال اضاءة خافتة، مطاطئ الرأس دون أن يظهر وجهه بصورة واضحة تفاديا للانتقام.. وعندما يسألونه: هل تشعر بالغضب من والدك يقول انه سامحه. ردا على هذه القصة يظهر شاب من الاتجاه الآخر يقول انهم جميعا يرددون نفس القصة أي أن آباءهم هم الذين أرغموهم..
يخصص صانعا الفيلم جانبا من الفيلم لزيارة جنود الجيش العراقي والاطلاع على ما يقومون به ولكن الفيلم ينجح في تحويل الصبغة الدعائية التي يحرص عليها الضباط أمام الكاميرا الى عكس ما ترمي إليه، مع كثير من المقالات الحية المباشرة التي يوجهان خلالها الاسئلة الجريئة. يظهر ضابط في اضاءة خافتة لا تظهر وجهه يقول ان هناك ستة آلاف معتقل من فلول داعش مصيرهم مجهول. وفي لقطة عامة نرى كيف يصطف عدد كبير من الشباب والأطفال أمام الجميع وأي شخص يشير على أحدهم ويقول انه كان مع داعش يتم القبض عليه وازاحته الى معسكر اعتقال خاص. أحد هؤلاء المعتقلين يقول أمام الكاميرا ان أفراد التنظيم كانوا يرغمون الصغار على الالتحاق وأنه اعتقل مع آخرين ووضع في زنزانة فيها حوالي 30 شخصا ولم يكن الضرب يتوقف، وأنه تعرض للاستجواب 4 مرات كما تلقى تعذيبا شديدا وأن كثيرين ماتوا في السجن تحت وطأة التعذيب وكان المطلوب إما أن ينضموا للمقاتلين أو يستمر تعذيبهم.
يحتوي الفيلم على لقطات تسجيلية تصور ما عرف باسم جون الجهادي، وحرق الطيار الأردني وسط تهليل عدد كبير من الأطفال والشباب.. وفي يوليو 2017 تحتفل الموصل بتحريرها ويصور الفيلم جانبا من زيارة رئيس الوزراء العبادي الذي يخطب في الجنود مؤكدا أن القوات العراقية للجميع، بينما كان القتال مازال مستمرا.
الفيلم يصور أيضا تدهور الأوضاع في المدينة وكيف يتعرض السكان للكثير من المشاكل، ثم ينتقل الى الجانب الآخر، إلى عائلات داعش والظروف المأساوية التي يعيشون فيها.. أبناؤهم محرومون من التعليم.. الجيش لا يوزع عليهم الطعام والشراب بل يمنعونه عنهم. تظهر بعض أرامل المقاتلين من التنظيم أمام الكاميرا تتحدثن عن سوء الأحوال وكيف أنه لا يجب معاقبة الأطفال “الأبرياء”. وفي لقطة مذهلة متحركة تمر الكاميرا على ما يشبه الكهوف التي تعيش فيها عائلات داعش من النساء والأطفال.. ونستمع الى عشرات القصص والروايات التي تمتلئ بالشكوى: الحرمان من التعليم والعمل والسكن والمعونات. والخلاصة أن هذا الظلم الذين يتعرضون له يمكن أن يصبح مبررا وأرضية قوية في المستقبل القريب لعودة ظهور داعش مجددا. وهذا ما يحذر منه الفيلم بوضوح ويقول إن العالم ينبغي أن يعرف من يقاتل ضده وكيف أنه لم يتم القضاء على الأسباب التي أدت الى ظهوره وبالتالي يمكن أن يعود.
إلا أن أبرز ما يعرضه الفيلم يتمثل تحديدا في الكشف أولا عن آلية تجنيد الأطفال، ثم كيف يصبح من السهل تحويلهم الى مقاتلين متعصبين شديدي العنف دون أن يكونوا على إدراك كامل بما يفعلونه، ثم كيف يتحول الكثيرون منهم الى مفجرين انتحاريين، والأهم كيف دمرت الطفولة وأحلام الأطفال وتحولوا جميعا الى مسوخ. بل يشير الفيلم أيضا الى أن الأطفال على الجانب الآخر ليسوا أقل وحشية وقسوة من غيرهم فهم يؤمنون بدورهم بضرورة الانتقام بالقتل والتعذيب والحرمان والاستبعاد. وينتهي الفيلم بما يقوله مقاتل داعش الذي لا يكشف صناع الفيلم وجهه وهو يؤكد ان داعش سيعود ويسود مرة أخرى. وهي رسالة التحذير التي يتبناها هذا الفيلم الغير مسبوق في صوره ومناظره وجرأته والذي يقدم عشرات الحالات الإنسانية للنساء والأطفال والعجائز.